يتميز البعض بعينٍ تحليلية فطرية عندما يشاهد مباراة كرة قدم، يتفاعل معها، يحاول تفسير مجرياتها، يتساءل لماذا لم يلعبها اللاعب س بوجه القدم بدلاً من باطن القدم، لماذا لم يوقف ص الكرة بدلاً من أن ينطلق بها لينتظر الدعم من زملاءه، لماذا لم ينقل اللاعب ع الكرة للجهة الأخرى حيث اللاعب الحر؟ يدور كل ذلك في العقل اللاواعي لدى المتابع، المتابع العادي البسيط، خصوصاً ذلك الذي يتميز بعقل تحليلي، ولكن هناك من لا يستطيع التعبير عمّا يدور في دماغه، وما التحليل في كرة القدم إلا القدرة على التعبير عن أحداث وحالات المباراة –تكتيكياً- وتفاعل عناصر اللعبة مع بعضها البعض، تفاعل الزملاء مع بعضهم البعض، وتفاعل الخصم، ومن ثَمّ هناك مساحة يبحث عنها الفريق المهاجم، ويحاول دحضها الفريق المدافع، دون إغفال الزمن/الوقت. إذاً فالموضوع ليس فيزياء نووية! فالصعوبة تكمن فقط في ملاحظة هذه التفاعلات معاً وفي ذات الأثناء ولذلك يرى البرتغاليون كرة القدم على أنها ظاهرة معقدة، يستطيع العقل التحليلي مع الممارسة والتحليل -كعملية عقلية- أن يبرع في هذا وما عليه إلاَ أن يصقل موهبته ويطور مهارات التواصل/الكتابة وطرق الاستدلال لشرح وبسط ما يرى ويلاحظ، وإلا فإن لم تستطع الشرح فأنت لم تفهم، يقول ريتشارد فاينمان.
’’كل علم وكل تعلم فله غاية في ذروته التي يسعى إليها المجتهدون، وعلوم التعاليم مبنية على البراهين، وغاياتها هي استخراج المجهولات من جزئياتها ووجود البراهين التي تدل على خصائصها ومعانيها. والذروة التي تسمو إليها في هذه العلوم والمجتهدين في طلبها، (هي) الظفر بالبراهين التي تستنبط بها مجهولاتها، والبرهان فيها، ومن نظام وترتيب لهذه المقدمات، وطريق هذه المقاييس هو تصدي مقدمتها، وتحيل الحيل في ثقة إليها. والصناعة التي بها تصيد بها هذه المقدمات، وبها يتوصل إلى الترتيب المؤدي إلى المطلوب من نتائجها يسمى صناعة التحليل، وجميع ما خرج من الوجود من علوم التعاليم إنما خرج بهذه الصناعة‘‘. -ابن الهيثم
نعم كرة القدم ليست علماً وليس من الحذق بمكان أن نرفع من قدرها بغية نيل مكانة أو شرف، فلدينا ما يكفي من “العلوم الزائفة”، غير أن كرة القدم كبقية الفنون والمعارف تحتاج إلى تفكيك وتحليل إذا ما أردنا استيعاب هذه اللعبة. يمكننا تعريف التحليل على أنه: تجزئة مادةٍ ما أو موضوعٍ ما إلى أجزاء بغية فهمه واستدراكه.
ولكن كيف لنا أن نفهم كرة القدم؟

كرة القدم مهما بلغت من تنظيم فهي ظاهرة معقدة متشابكة يشوبها من العشوائية ما يشوبها، حيث يختلط ويتداخل ويتماوج اللاعبين وتذوب الخطط والمفاهيم لوهلة ولكن سرعان ما يحاول اللاعبون والفرق استعادة مواقعهم ومراكزهم. فلذا لا يمكن أن نحلل أحداث المباراة كلها، فطبيعة اللعبة شواشية ويصعب التنبؤ بحركة كل لاعب على حدة وحركتهم ضمن السياق؛ أي ضمن المجموعة. إن طبيعة اللعبة موجودةٌ في ملعب دولي وفي شارع ما في حواري ريو دي جانيرو على حدٍّ سواء، وتبقى الأساسيات هي ذاتها لدى المحترفين والهواة، هؤلاء الذين ينظمهم ويرتبهم مدرب، وأولئك الذين ينتظمون ذاتياً دون مؤثر خارجي “المدرب”، وما أقصد بطبيعة اللعبة هو سلوكيات وقرارات اللاعبين من تلقاء أنفسهم؛ كمهارة فردية أو خدعةٌ بإيماء جسدي، أو مقصية، أو تمريرة للاتجاه المعاكس، ليس لأحد دور في ذلك إلا جبلّة اللاعب نفسه، وتلك الأحداث يقترن بها قراءة اللاعبين -المضطلعين- للعب وهنا نتيقن من حجم التعقيد، على الرغم من ذلك لا يمكننا أحياناً فعل شيء حيال ما يقوم به ميسي –كمثال- مهما درس المدافع تحركاته وخِدعه. إن اللاتنبؤية في صميم وجوهر كرة القدم، وبناءً على تلك المقدمات فمساحة ما سيتم تحليله ستتقلص لزاماً، وسيتجلى ويتحدد ما هو قابل للتحليل وما لا يقبل التحليل أو ما لا طائل من تحليله.
إن التحليل معنيٌ بفهم أمر أو موضوع ما أو كنه الشيء دون إضافة شيء لهذا الأمر، إذاً فالتحليل محدود بذاته بحيث يقف عند حدٍ معين ويقف عند فهمنا للكل من خلال أجزاءه، في حين يقابل التحليل “synthesis” أي التركيب، والذي يقوم بجمع الأجزاء وتأليفها لتنتج كلاً جديداً أو فكرة جديدة. إن المحللين ينطلقون من العموميات في تحليلهم ويتفقون عليها بالكامل فيما يتعلق بتحليل كرة القدم، بمعنى أنه هناك إتفاق وإجماع على أن كرة القدم تتمحور حول حالاتٍ خمسُ كبرى؛ الهجوم والدفاع، والتحول من الهجوم للدفاع (عند خسارة الكرة) والتحول من الدفاع للهجوم (عند الفوز بالكرة)، والحالة الأخيرة هي الركلات الثابتة. أما ما يعقب ذلك فيعود لرؤية المحلل أو المدرب أو المتابع، حيث لا توجد طريقة ثابتة ولا يتّبع المحللون المحترفون الطريقة ذاتها، فهي فضاء مفتوح وبإمكان الجميع أن يحلل كيفما يرى والأمر ليس بالجلل طالما تملكنا الأدوات لذلك.
بعد تحديد العموميات (الحالات الكبرى) سيتعين علينا تحليل سلوكيات الفريق أو سلوك اللاعب كفرد من خلال تفرعات الحالة الهجومية، مثلاً؛ في مراحل بناء اللعب والكرة بأقدام الحارس، سواءً باللعب الحي أو واللعب متوقف (ركلة مرمى)، كيف يتفاعل ويتصرف المدافعون في هذه الحالة؛ أي والكرة بأقدام الحارس؟ كيف هي وضعية أجسادهم، مفتوحة أم مغلقة؟ بمعنى هل يمتلك المدافعون المبادرة لاستلام الكرة بوضعية جسدية وبتحرك مثاليين؟ أم يديرون ظهورهم إلى الحارس بوضعيةٍ سلبية لا تتيح للحارس تمرير الكرة لهم على الأرض، أو حتى عبر الكرات الطويلة الموجهة؟ … وقس على ذلك، ماذا عن سلوكيات لاعبي الوسط والمهاجمين، كيف هو تمركزهم وفقاً لمكان الكرة ووفقاً لمرحلة الهجمة.. إلخ؟
في الحالة الدفاعية سنحاول الإجابة على أسئلة كـ: كيف هي تصرفات اللاعبين عندما تكون الكرة بحوزة الخصم، هل يطبق اللاعبون المراقبة رجل لرجل؟ أم يبقى اللاعبون متقاربون في عمق الملعب ويتحركون ككتلة لإغلاق المنافذ ومن ثمَّ يضغط كل لاعب ضمن منطقته (دفاع منطقة)؟ وضعية الأجساد أمر مفصلي هنا كذلك، فمثلاً، من بين الأخطاء الشائعة عند الضغط الاندفاع نحو حامل الكرة من الخصم دون مراعاة مسار الكرة المحتمل، أي أن يستطيع لاعب الخصم تمرير الكرة بجانب المدافع الضاغط، إذ يتحتم على الضاغط سد مسار التمريرة المحتملة، وبالتالي تعديل وضعية جسده لمنع تقدم الكرة لدى الخصم ويربح الخصم حرباً تكتيكية في هذا الموقع، إذ يترتب على الفريق –الذي خسر النزال اللحظي- أن يتلافى أخطاءً قد يصعب تلافيها حال تطور الهجمة لدى الخصم.
تدور رحى المباراة بهذا الشكل، وتتكرر الحالات مراراً، وما علينا إلا أن نستوعب الخطة مبدئياً، ومن خلال الخطة (التوزيع المكاني للاعبين) سنراقب تحركات وتموقع كل لاعب انطلاقاً من مركزه، وكما ذكرنا وفقاً لتفاعله مع زملائه (اقتران حركته بحركة زملاءه)، ووفقاً للخصم (قدرة اللاعب على قراءة حركة الخصم المستقبلية وما يترتب عليه من فعل) وكذلك وفقاً لمكان الكرة ووفقاً للمساحة المراد استغلالها، والتوقيت؛ أي في الوصول للمساحة لطالب الكرة، وإيصال حامل الكرة إلى طالبها في الوقت المناسب. وفي الحالات التكتيكية الأكبر والجماعية كهيكل الخصم هجومياً أو كنظام الخصم الدفاعي، مواطن التركيز والزيادة العددية، نقاط القوة والضعف الخ… كما يتعين علينا تعزيز تحليلاتنا ببراهين منطقية، ومرئية -صور أو فيديو- وكذلك بالإحصائيات كدعم للادعاء. تلك هي التكتيكات وذلك هو التحليل، فلن نستحدث منتجاً جديداً عند تحليل كرة القدم من حيث هي لعبة، ولا عند تحليلنا لمباراة كرة القدم كأحداث.
الكاتب: @salh91ftbl
اترك تعليقًا