الشوارع… مصنع المواهب

تعود شعبية كرة القدم لأسباب عديدة لعل أبرزها سهولة وتوافر معداتها وأدواتها، أو في الحقيقة توافر أداتها اليتيمة “كرة”، أياً كانت تلك الكرة، حتى لو صنعت من جوارب. ولقد تسحر الجميع إذ هي ساحرة مستديرة ملعونة يركلها آلاف الأطفال يومياً في شارع ما، في زقاق ما في أرض الله الفسيحة، ذلك الشارع يصقلهم، يعلمهم، يتنافسون على ملعب صغير يحاكي المباريات المصغرة لبيب غوارديولا وكأني بهم يدركون ويعون صعوبة اللعب بالمساحات الصغيرة أكثر من بعض المدربين! مرميان من حجارة، والسيارات تعبر ذهاباً وجيئة وهم لا يعبئون، ذلك بحذائه والآخر حافي القدمين، لولا نيل التعب لـلعبوا للأبد، الحال ليس كما كان في الوقت الراهن، ربما. في الشارع حيث يجد الصغار مكاناً يعبرون فيه عن أنفسهم، دون قيود، ودون أقفاص كقفص المركز أو تقييدهم وكبحهم في اللعب بلمسة أو منعهم من المراوغة والخداع أو القيام بلمسة فنية، في الشارع ستتمكن من القيام بكل شيء ستفكر وستدخل بمشكلات تستدعي الحلول السريعة، ستتمركز، ستمرر وستراوغ وستحاول افتكاك الكرة والقفز والتسديد، ولا أعرف مالناقص هنا؟ حتى النظريات البيداغوجية تدعم ذلك، الاكتساب والتكرار والممارسة متغلغلة في التنمية الذاتية، الطفل هو مدرب نفسه.

في البرازيل كرة الشوارع بدأت تضمحل، البلد الذي لطالما كان الشارع مصدر مواهبه، فمن بيليه إلى غارينتشا إلى ريفيلينو إلى زيكو وسقراط إلى روماريو إلى رونالدو وصولاً لرونالدينيو وحتى نيمار، قد جذبوا انتباه الكشافين والمدربين من خلال الطرقات والممرات. على ذكر ريفيلينو، فنجم السبعينات الذي –وبالرغم من امتلاكه لأكاديمية- يؤكد على أن الشوارع هي مصنع المواهب ’’لن أحاول خِداعكم، أنا لا أنتج لاعبين عظماء هنا، لن تتمكن من تعليم أحدٍ كيفية لعب كرة القدم فالمرء يولد بموهبة ويقوم بتنمية –تلك الموهبة- عبر اللعب في الطرقات، كما فعلت أنا‘‘ يشير ريفيلينو إلى أن الشارع هو من صقله ’’الشارع شكلني كرجل وكلاعب‘‘ أما بخصوص أكاديميته فيكمل ’’مدرستي عبارة عن مشروع اجتماعي أكثر من أي شيء آخر، منح الأطفال شيئاً يقومون به وابقائهم بعيداً عن المخدرات‘‘. يوهان كرويف هو الآخر، لم يتنكر للشوارع ’’عندما كنت صغيراً كنت أتدرب من 3 إلى 4 ساعات اسبوعياً في أياكس، ولكني كنت ألعب يومياً 3-4 ساعات في الشارع، لذا أين تظنون أنني تعلمت كرة القدم؟‘‘.

ليست الشوارع حصراً، الشارع هنا مفهوم رمزي لا أكثر، فمن الممكن أن يلعب الأطفال الكرة على الشواطئ أو حتى في الصالات أو الحدائق، وعلى أي حال فالغزو التكنولوجي بأشكاله قد يكون أحد الأسباب الرئيسية لعزوف أطفال اليوم عن اللعب، إذ أصبح بعض الأطفال وحتى المراهقين يلعبون كرة القدم فقط في البلاي ستيشن، فغدت شيئاً فشيئاً تنحصر إلى أن تكون كرة القدم ظاهرة مشاهداتية بزخم وبهرجة أفقدها المعنى، كرة القدم لم تفقد شعبيتها من حيث المتابعة بل من حيث الممارسة، فأصبح الحديث أغلبه في سوق الانتقالات، وفي المشاريع الاستثمارية، كرة القدم شيئاً فشيئاً تُختطف لمصلحة رأس المال.

’’اليوم وفي أسلوب الحياة الجديد لم يعدِ الشارعُ المعلمُ موجوداً، تخطر في بالي فكرةُ مشروعٍ بحيث نلغي المدارس “الكروية” ونعيد إنتاج كرة الشوارع كمدرسة لكرة القدم، وبكل عناصر –التوافق- التي تقود لقفز الحواجز وتسلق الأشجار. في وقتنا الحاضر كل الأطفال يرتدون نفس الطقم، في السابق كان يجب أن تستحق هذا الطقم، كانت تلك هي نقطة الوصول. أتذكر حدثاً حصل لي قبل عدة سنوات في عطلة قضيتها في زنجبار، كان هنالك ثلاثون طفلاً، 15 ضد 15، بعضهم يرتدي طقماً أبيض، وبعضهم بالأصفر، والبعض الآخر بظهورٍ عارية، وبالرغم من ذلك فقد كان يميزون بعضهم البعض، أمرٌ مذهل. الآن في المقابل فإنك تميز زميلك لأنه يرتدي نفس الألوان التي ترتديها، لقد كانوا أكثر إدراكاً في السابق، بحيث تُنمّى الحساسية والادراك تلقائياً، لهذا فالشوارع خلقت مستوى من الجودة -لدى اللاعبين- في السنوات الماضية برأيي أعلى من الحاضر.‘‘ ماركو جامباولو، لطالما حلِم المدرب الإيطالي بأكاديمية وهو بالفعل يساهم في إحدى المدارس الكروية في موطنه جوليانوڤا في إقليم أبرودزو على ضفاف الأدرياتيكي.

خطفت التكنولوجيا أفئدة الصبية، غير أن هنالك أكاديميات تلعب دور الشارع اليوم، بالتأكيد ليست كلها تستخدم منهجيات جيدة أو حتى في بعض الأحيان منهجيات وأساليب منطقية، هذا ما سيكون المدخل لمقال أو سلسلة مقالات عن تنمية المواهب والمرور على بعض الأكاديميات كنماذج، غير أننا سنجد موهوبين باستمرار كما يشير رينوس ميخليز، ’’الموهوبون يبزغون تلقائياً وليسوا نتيجةَ التدريب الشاق‘‘ فالمواهب لا تُصنع ودور الأكاديميات تنمية الموهبة/اللاعب على مستوياتٍ عدة، ومتغيرة من فئة إلى أخرى.

الكاتب: @salh91ftbl

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: