النظرية في كرة القدم

لا نستطيع حقيقةً سن تعريف جامع مانع للنظرية، ففي كل حقل ومجال تختلف درجة أهميتها، فالنظرية العلمية –على سبيل المثال- ليست عبارة عن وجهة نظر كما يسود، وإنما تبنى النظريات بخطوات تبدأ بمسلمات أو تسمى “بالفرضيات” علمياً وتستخدم كمقدمات صحيحة، تؤدي تلك الفرضيات إلى استخلاص تنبؤات يتم إخضاعها للملاحظة وللتجارب، وأخيراً يضع الباحث استنتاجاته، وعلى ضوء ذلك قد تبقى فرضية في حال لم تتم برهنتها أو تُعتمد كنظرية فعلاً إذا لبت الشروط. تسمى تلك الخطوات بالمنهج العلمي/التجريبي، أين تُختبر وتُجرب الفرضية مراراً للوصول “للتفسير الأفضل” لشرح ظاهرة معينة، كنظرية نيوتن في الجاذبية والتي تفسر ظاهرة سقوط الأجسام، شريطة أن تكون مؤيدة بمجموعة من الأدلة، علاوةً على الاعتراف بعدم دقتها إذا أثبتت التجارب عكس ذلك دون خجلٍ أو مواربة، كالنظرية النسبية لأينشتاين التي قوّمت نظرية نيوتن، فلم تعد الجاذبية قوة بل هي منحنى في الزمكان. إن النظرية العلمية المتماسكة لا مجال لتفنيدها أو الطعن بها أو تعديلها إلا عبر أدواتٍ مماثلة، أي ببراهين تجريبية ومعادلات وحسابات. إن النظريات العلمية أو الفلسفية -وهي السباقة لذلك- تبدأ بتساؤلٍ وفضول؛ لماذا هذا؟

لا، كرة القدم ليست كذلك، فالنظريات في كرة القدم –إن صح لنا قول نظريات- هي بدرجة أدنى بكثير من النظريات العلمية الغير خاضعة للحدس والرأي والتفضيل والذوق، أو أي خلفيات مسبقة. فالنظرية العلمية ينبغي أن تكون بمنتهى الموضوعية، وكرة القدم من حيث هي لعبة -في تحليلها وتدريبها- فيها مكان للذاتية، أي في الرأي والتفضيل والتأويل، وهي التي بدورها تشكل الأساليب، وذلك ما يجعلنا نعي أن كرة القدم ليست علماً أبداً.

ولدت التكتيكات من المشاكل التي أظهرتها اللعبة من جهة، ومن الحلول التي يوجدها اللاعب لتلك المشاكل من جهة أخرى، وكل ذلك انتقل إلى المجتمع. فالأصل هو اللعبة واللاعب.

خوانما لـيّـو

إن الكثير من الحلول والابتكارات والتصرفات تنبُع من اللاعبين أنفسهم، أي أنها كامنة فيهم والنظريات لا توجد شيئاً من العدم، بل هي تحليل لتلك الحلول، وتفسيرات مختلفة لحالات مختلفة، باحثين عن أسبابها ونتائجها، ومن ثم سنستخلص الأفضل، وبناءً على ذلك تبنى النظريات. أؤكد لك قد ترى بعض السلوكيات الفردية والألعاب الجماعية في مباراةٍ ما قبل 50 عاماً. إذاً، فالعملية تبدو هكذا: رصد ومشاهدة مشكلة/سلوك معين، تكرر لهذه المشكلة/السلوك، ومن ثمَّ نضع حلولاً لها أو نعتمد ذلك السلوك الجيد، كلٌ حسب رؤيته، بمعنى أننا نستنبط تصرفات معينة لدى لاعبين معينين (الأفضل بلا شك) أو أنماطاً جماعية تتكرر في فرق معينة، مقصودة كانت أو غير مقصودة نحللها ونستوعبها ونقارن بين سلوك وآخر، وحركة وأخرى. فنيوتن لم يخترع الجاذبية، بل حاول تفسير سقوط الأجسام بعد التأمل وتسجيل الملاحظات والقيام بالحسابات، ولا شك أن هناك من سبقه بطَرَق هذه الظاهرة، لأن المعرفة تراكمية ولا أحد يخترع شيئاً من العدم على غرار أرخميدس “وجدتها!” وكذا في كرة القدم، فالنظريات صيغت بناءً على الملاحظة والمشاهدة أي مثلاً عندما يضغط الظهير على جناح الخصم فنجده تلقائياً يضع ظهره للمرمى، وهذا هو السلوك الطبيعي، ومن يشذ عن ذلك ينبغي تقويمه، غير أن ذلك لا يجعلها بديهية، بل يدرسها اللبيب، ويرى الأصوب فيحللها المحلل ويعلمها المدرب للاعبيه، هذا لأن الشغل الشاغل للمدرب المعلم هو التصويب في الوضعيات الجسدية وفي التمركز السليم، في التخلص من الرقابة وفي التوقيت كمثيرات الضغط، وكانكشاف الكرة لطالب الكرة وغير ذلك. ومن رؤية المدرب وتفسيراته سنجد تفضيلات، وبالتالي سنجد -كما أسلفنا- أنظمة وأساليب مختلفة، توزيع لاعبين مختلف على أرض الملعب، نوعية لاعبين مرغوبة لدى كل مدرب. وهذا ما يجعل كرة القدم بلا حقيقة نهائية، وليس ثمة أسلوب صحيح، بل هي لعبة واللعبة -أيّأ كانت اللعبة- لا صواب فيها إلا للقوانين وقليلٌ جداً من المبادئ الأساسية، وبعض المبادئ تحكمها القوانين، أما الأساليب والأفكار والأنظمة الدفاعية والخطط فنسبية وتحتمل تعددية الصواب، وليست محتكرة لأحد. إن الخطط (4-4-2، 3-4-3 …الخ) واستخدام لاعب بدورين لكل مرحلة وبعض وأنماط اللعب، والأنظمة الدفاعية وسكيمات وألاعيب الكرات الثابتة هي حيزٌ ضيقٌ في أن تُبنى النظرية قبل التطبيق، وتلك النظريات ستبقى رهن التجربة والاختبار في التدريبات حتماً وقد تُصمَم أحياناً وفقاً لثغرات أو عادات سيئة لدى الخصم.

تجربة بدون نظرية عمى، ونظريةٌ بلا تجربة مجرد لهو فكري

إيمانويل كانْت

كروياً، لا يمكن أن نطلق وصف نظرية على لعبة مركبة (لعبة تتألف من عدة لاعبين)، نعم هنالك جانب نظري لشرح الفكرة للاعبين، شفهياً، أو بالسبورة أو أي لوح أو حتى باستخدام أي تقنية، ذلك لأن النظرية لها معنى أشمل فهي مجموعة من الأفكار و المبادئ والمفاهيم المترابطة، والتي بدورها تشكل أسلوب أو نظام دفاعي، أو حتى منهجية تدريبية تعليمية أو بدنية. يتلخص عمل المدرب تكتيكياً وفنياً بالنظريات التي سيختبرها على أرض ملعب التدريب، فبلا نظرية مالذي سيطبقه المدرب؟ العفوية والغريزية أمر جيد لكنها ليست للمدرب، ولذلك نجد كثيراً من المدربين لا يستطيعون تقديم شيء للاعبيهم سوي الجري والأقماع المتناثرة هنا وهناك وآخر ما يقومون به هو أن يلعبوا بالكرة أو أن يقتصوا حالة من سياق اللعبة ويتدربوا عليها. قد تكون العفوية نتيجة التمرس النظري عبر القراءة والمشاهدة والتحليل المكثف للعبة ثم التمرس العملي عبر اللعب وليس بالضرورة كمحترف، وليس بالضرورة أن تكون جيداً، فساكّي لم يكن جيداً للعب في فريقه الهاوي، ولعل خوانما لـيـّو بحكمته سيفسر الأمر: قدمي وعقلي لا يتّفقان! ولكن أن تضع نفسك مكان اللاعب وتتفاعل مع اللاعبين وتنبعث مشاكل تتطلب حلولاً قد يُنشئ حساً وذكاءًا تكتيكياً، وذلك ليس بالهين، بل تتطلب تفكيراً نقدياً وعقلاً مولعاً فضولياً باحثاً ومحاكماً ومسائلاً. وبعدئذٍ في التمرس بالتدريب، ذلك لأن العلم في الراس وليس بالقرطاس، النظريات الكروية -في معرض حديثنا أو المماثلة لهذا الحقل- تصاغ من العقل عبر الملاحظة والنظرة الثاقبة ووضع احتمالات وأخيراً في الرأي، إن استخدام الكتابة -في أي مجال- لهي وسيلة لغاية ترتيب الأفكار وتنسيقها بوضوح واقتضاب، من الأولويات إلى الثانويات، من الكبائر إلى الصغائر دون استطراد ونزوح عن الموضوع المراد. ولا مبالغة إن قلت أن أفضل المدربين سيكتب لك أسلوبه بعدة ورقات، إذ يستند على مبادئ محددة وفرعيات محددة وطرق تعامل لكل حالة ومرحلة لعب، فيذهب لتدريباته بوريقة تذكيرية، وحرص على الإطار والأحمال البدنية مقداراً وشدة، دون نسيان المساعدين الميدانيين فكلٌ له مهمة، المساعد والمعد البدني والمحلل التكتيكي ومدرب الحراس. وذلك عائدٌ إلى أن الغالب في كرة القدم هما الجانبين المرئي والعملي؛ أما المرئي فهو في الشرح بالفيديو، تحليل الفريق، الخصم، الأفراد …الخ، طبعاً مع اتخاذ أقصى الاحتياطات وتمرير بعض الأوراق أو اللقطات للاعبين. ومن ثم هنالك الجانب العملي، كأن يقوم المدرب بشرح التصرف المرغوب به بنفسه، تصميم التدريبات بعناية وجودة، التغذية الراجعة من المدرب في التدريبات، فكرة القدم معقدة عملياً، وللمرة الألف فيها الكثير من اللاتنبؤية والحالات التي تقف أمامها حائراً كقص روبن للعمق دون القدرة على إيقافه، إن كرة القدم ليست معقدة نظرياً والكثير من النظريات المزيفة والتحاليل المفرطة لن يجعلها كذلك. المدرب المميز ليس جيداً لأنه يكتب أو يقدم عروضاً تقديمية ومحاضرات، بل لأنه يعمل ميدانياً بشكلٍ جيد ومشهودٌ له من الخبراء والعارفين، ومن ثمَّ سيلقى طلباً لشرح ومشاركة أفكاره مع الطامحين لهكذا مهنة، تتفق مع أسلوبه أو لا هذا أمرٌ آخر. وإذا قيل “فلان” مدرب نظري بينما عديد المتابعين والمدربين يحللون فرقه، وعديد المدربين والمتدربين يصطفون لمتابعة تمارينه ((تطبيق)) منطلقين من جودة لعِب فرقه ((في المباريات)) فذلك يؤكد لي أن مقالة ذلك تعني عدم استيعابٍ للنظرية ولا للتطبيق ولا لكرة القدم، ولا لوجود طريقة استدلال وتفكير سليمة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: