تتمثل أهمية النظرية -والتي عرّفناها بأنها مجموعة المبادئ والمفاهيم للعبة- في تأطير عمل المدرب، وهي بمثابة أساسٍ صلب لبناء مشروعه ومنهجيته، إن عمل المدرب عملي/تطبيقي بمرتكز نظري، فلا عمل بلا مبادئ مشتركة محددة، ولا بأفكار ومفاهيم معينة قد تختلف من مدرب لآخر. لقد بحثنا في المقال السابق عن ماهية النظرية وكيف أنها صيغت منطلقين من اللاعب واللعبة، فنحن لا نكتب اللغة ثم نتحدث بها، بل نتحدث ثم نسن ونفتعل القواعد والنحو والصرف، فتتراكم مع مرور الوقت ويزيد هذا ويضيف ذاك، يتبحر أحدهم ويشرح غيره وهلم جراً، فيصبح لزاماً علينا أن ننهل ممن سبقونا، ويحق لنا أن ننتقد أو نعدل ونبدل دون جمود بحجة الأسبقية والأقدمية. لقد أخذ نمو وازدهار المصطلحات -والتي تستخدم في النظرية- في كرة القدم متزامناً مع انتشار اللعبة ورواجها، ولا يمكننا أن ننكر دور الصحافة في إطلاق المصطلحات والمسميات؛ ولعل أبرز الصحفيين جانّي بريرا، أو أيفان شارب الذي أطلق مصطلح المركزية positional play منذ ما يقارب السبعين عاماً، هذا المصطلح انتشر لدينا فقط عندما بزغ نجم بيب غوارديولا، ثم أصبحت تتناقله الألسن بتفسيرات مختلفة ومتنوعة، وسطحية غالباً. يمكن اعتبار المصطلحات على أنها استعارات حاجتنا لها تنطوي على توفير الوقت، فبدلاً من أن نسهب سنقتضب، خذ مثلاً: الفريق س يدافع بدفاع المنطقة، هذا المصطلح “دفاع المنطقة” ينطوي على تعريف ومبادئ وأسس وتفاصيل، ينبغي شرحها بإطناب بيْد أننا سنستخدم مصطلح؛ والمصطلح يُقصد به رمزاً لغوياً –تم الاتفاق عليه- للدلالة على مفهوم أو فكرة معينة. فعندما نقول بأن فريق س يدافع بدفاع المنطقة فستعرف فوراً أنه ذلك النظام بمبادئه وأسسه وتفاصيله، وقد يختلف التأويل من ثقافة إلى أخرى ولكنه سيحظى بنفس المبادئ الأساسية. تحظى الصحافة بقوة تشكيل الرأي العام أو تشكيل وعي الجماهير، ولكن للأسف، في الوقت الراهن انحدرت مهنة الصحافة أكثر فأكثر وهي أساساً سلاح بحدين، فتشكيل الرأي العام له وقعه إذا لم يتحلى الصحفي أو الكاتب أو المعلق أو حتى ما يُسموْن بالمؤثرين في وسائل التواصل بمعرفة وحِدّة رأي، ذلك لأنهم سيرسخون للصور المسبقة ويرسخون لمصطلحات مبتذلة هلامية ومطاطية، ولكن طالما أن هناك مشترين فلن يكف باعة الهواء عن تجارتهم طالما وصلوا لسمعة حققوها عبر تماهيهم مع الجماهير، لا لحدة آرائهم ولا لحكمةٍ فيهم.
عودٌ على بدء، إن النظرية ذات أهمية بالنسبة المدرب، اللاعب لا شأن له بذلك، إذ كلُ له دور، ربما نستمع كثيراً لبعض اللاعبين ينتقدون أفكار المدربين أو طرقهم ومنهجياتهم التدريبية، واللاعب له حق النقد لا خلاف، لكن أخذ ذلك على محمل الجد ليس صواباً. ذلك لأن معظم اللاعبين غير واعين ولا مطلعين ولم يصلوا لما وصل إليه كثير من المدربين معرفياً، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه قد لا يكتنف نقدهم شيئاً من الصواب. مثلاً، في الفئات السنية يُعرض اللاعبين عن الحضور للتمارين بسبب رتابة الحصص، تمرين استلام وتسليم بلا خصم، أو جري بلا كرة وإلى غير ذلك أو ربما يتركون النادي بسبب الإفراط في النظام ومعاملتهم كمحترفين. المفارقة أن بعض الأطفال الذين يشتكون من ذلك سيقومون بذات الأمر عندما يكبروا ظناً منهم أن هذا هو الصواب وتلك كانت مصلحتهم، فهذا ما وجدوا عليه مدربيهم. فالعقل يحتله الأسبق إليه كما يقول إبراهيم البليهي، إذ سيعمل كما تعلم، ولن يبدع ويبتكر ويخرج عن النسق، ببساطة لأنه لا أحد يفتقد لما يجهل، فعندما لا تتجشم عناء البحث لن تجد، وعندها ستكرر ما تعلمت وسنظل في حلقة مفرغة.
بدأت كرة القدم (النظامية) بفريقين كل فريق يحتوي على 11 لاعباً أو هذا ما استقرت عليه، اللاعبون هم من أسسوا الفرق، فلا مدرب ولا رئيس ولا مدير ولا معدين بدنيين ولا مدلكين ولا أي شيء من هذا القبيل. كان الفريق يقاد ببساطة عبر اللاعب الأكبر سناً، أو أكثرهم كاريزما حتى بدأت الإرهاصات الأولى للمدرب قبل نحو 100 عام وقد سبق ذلك لجنة فنية تنتخب اللاعبين في لتمثيل البلاد؛ إيطاليا على سبيل المثال. كان المدرب مديراً أكثر من كونه فنياً، يختار اللاعبين، يوجه توجيهات شفهية ربما أكثر أو أقل. مع دخول اللعبة عالم الإحتراف وبتزايد المتابعين والجماهير والمراهنات، أضحت اللعبة استثماراً فتنافس الفرق لجذب المتابعين عن طريق استقطاب اللاعبين المميزين لنيل الألقاب مع انفصال كرة القدم كمهنة بحد ذاتها، تبلجت أدوار ومهن أبرزها بعد اللاعبين دور المدرب. تطور دور المدرب التطور الذي نراه اليوم، بالرغم من أن وجوده يعد نوعاً من أنواع الترف، خاصةً إذا علمنا أن أي لعبة تنطوي على تنافس بين فريقين تتطلب تكتيكات واستراتيجيات، وهي التصرفات التي يقوم بها اللاعب عكس تصرف خصمه، أو أن يستغل هفواته، فوجود المدرب من عدمه لن يغير من هذا الشيء، فالمدرب لا يُوجد ولا يخلق التكتيكات. يمكن أن نضع متخصصين بدنيين للتقوية ولتطوير اللاعبين بدنياً، يمكن أن نضع لاعباً سابقاً بمهارات إدارية لإدارة الفريق، كشافين يجوبون الشوارع والأندية الصغيرة لاستقطاب المواهب، فجميعنا يقدّر جودة ميسي، ولسنا بحاجة إلى نظرة ثاقبة لتمييز موهبة، بل تكمن الصعوبة في التنبؤ بموهبة أحدهم، أو تمييز القدرات الذهنية/الإدراكية للاعب كبوسكيتس والذي لا يقدره إلا الخاصة.
نعم بإمكان كرة القدم أن تعيش بلا مدرب. وما المدرب؟ هل وأن عملية التدريب تتطلب موجه خارجي؟ أم يمكن أن تكون عملية ذاتية؟ بالضبط مثل عملية التعلم، والحق أن العديد من عباقرة التاريخ في مختلف المجالات كانوا متعلمين ذاتياً، فلا معلمين ولا مدرسة كان لهم يد في منجزاتهم، وهنا تكمن المشكلة أقصد في توهم دور البطولة عند كثير من المدربين، إذ ينسبون الفضل لأنفسهم في نمو أي لاعب، حتى لو كان نمواً طبيعياً، ودور البطولة الموهوم هو المعوق الرئيس لنمو اللاعبين الصغار على وجه الخصوص، فالبعض يريد تطبيق أساليب وخطط واستراتيجيات يكبح فيها انسيابية اللعب وعفوية اللاعب، الضرر سيكون أشد وطأة إذا كان المدرب مهووساً بالفوز، الهوس بالفوز هو ضار أيضاً لفرق الكبار، أعتقد أن المدرب الذي لا يرغب إلا بالفوز لن يقدم شيئاً للاعبيه، ربما هو من يريد أن تتمحور حوله الأمور، يريد أن يجعل اللاعبين أدوات لإشباع نرجسيته، بالرغم من أنه لن يرمي حتى رمية تماس في المباراة! إذاً لماذا كل هذا؟ أليس وجود المدرب للمساعدة ولمد يد العون للاعبين كأفراد أولاً وكمجموعة ثانياً؟
في الحقيقة ليس كل اللاعبين بحاجة إلى ذلك، توماس توخيل أشار ذات مرة إلى أنه قد سمع أحد مسؤولي الفئات السنية في برشلونة يقول عندما انضم إينييستا للأكاديمية: لا تحاولوا تطويره، فقط اعتنوا به. خوانما لـيـّو يعتقد أن دوره يتمثل في توعية اللاعبين وفتح أعينهم ليروا ما لا يرون. بييلسا، من جهته يؤمن أنه موجود لأن هنالك لاعبين يحتاجون للمساعدة وليس الجميع، هناك لم يظهر مكامن القوة فيه، هناك من لم يصل لذروة مستواه، البقية يمكن أن تكون مشكلتهم فقط وظيفية؛ أي في خدمة الفريق. لا شك دور المدرب هام هذا اليوم -وسنتحدث عن ذلك لاحقاً- ولكن ينبغي تخفيف الهالة المقدسة نتيجة التصورات الضبابية حول طبيعة عملهم، الطامة الكبرى عندما نقوم باستنتاج مبني على قياس استقرائي، وهو استقراء يتم فيه تعميم الحكم بناءً على ما يقوم به البعض، كأن نقول أن أسلوب المدرب فلان يختلف عن أسلوب غوارديولا، ولكن هل بالضرورة أن المدرب فلان يمتلك أسلوباً؟ وقس على ذلك في بقية الأمور فليس كل مدرب يمتلك منهجية أو يستند على نظرية أو خلفية معرفية، حتى لو فازوا بجميع بطولات الدنيا.
اترك تعليقًا