ما بين الضمني والمباشر

تنطوي مهمة المدرب على تقديم عصارة معرفته للاعبين، على شكل تمرين يحاكي واقع اللعبة، ويحاكي تعقيدها، ومساحاتها الضيقة وتداخل عناصرها. وكذلك على شكل تمرينٍ يستثير في اللاعب التفكير، وينمي سرعة قراءته للعب وقدرته على ربط الأمور ببعضها، وبلا شك بدرجة من التنظيم وتحديد الأدوار، لأن الفرد بالنهاية جزء من فريق ونموه ينبغي أن يكون ضمن السياق الجماعي، أما صولوهات العزف المنفرد فهو أمر يعود لقدراته طالما لم ينشز، وطالما بقي في إيقاع ونسق الفريق. على رأي مينوتي: “عندما يقوم اللاعب بمغامرة أو لعبة فردية، يجب أن يكون مستعدًا للعودة إلى إيقاع الفريق عندما تنتهي تلك المغامرة، سواءً انتهت بشكل جيد أو سيء، لا يهم.”

تتضمن عملية التدريب/التعليم قدراً من التوجيه المباشر وقدراً من التعليم الضمني، يتباين المدربون في تقديم الأولوية لأي من النوعين، فجميع المدربين يقومون بقدرٍ من التلقين والإملاء، لصالح الجماعية وتقليص اللايقينية/الإرتياب، بحيث يكون اللاعب واعياً عارفاً بمركزه ودوره في حالات اللعب الحية أو الميتة، وكذلك في النقاط المرجعية التي يرتكز عليها في قراراته أو في الإرشادات العامة، الأساسيات التكتيكية؛ الوضعية الجسدية والتمركز والتوقيت، أو حتى بتصرفات قد يتم التغاضي عنها كالبقاء على الخط الأخير للاعبي خط الدفاع أو ترك القائم والالتحاق مع الخط عندما تلعب الكرة قصيرة في ركلة الزاوية… الخ. وكذلك يجمعون على إطلاق العنان للاعب كقدرة إبداعية/نقدية، لمعالجة المشاكل بنفسه وذلك لطبيعة التعقيد في كرة القدم، كاتخاذ القرارات بسرعة في المساحات الضيقة أو ظهور طارئٍ ما؛ كتغطية زميل ترك مكانه لأي سبب أو أي تجلي مهاري فردي. أو ما بين بين، أي أن يطلب المدرب تصرف محدد لتنفيذ استراتيجية معينة، لحالة لعب معينة، دون الإيغال في تفاصيلها ولكنها تتكرر في سياق اللعب باستمرار كالإيماء الجسدي والهروب من الرقابة، أو كالضغط فور خسارة الكرة، فتطبق في أي مكان وفي أي حالة وتنغرس في اللاوعي مع استمرار تطبيقها.

إن عملية التعليم/التعلم تنقسم إلى قسمين: مباشر وضمني، أمّا مباشر (أو صريح) فحين يكون اللاعب واعياً عندما تتحدث إليه أو تعلمه ومن ثم عندما يقوم بالتمرين المراد، ومع التكرار يتمرس اللاعب فتترسب تلك المهارات في العقل اللاواعي/الباطن فتبدر منه السلوكيات بشكلٍ تلقائي، أي أن التعلم الواعي سيغرس فينا القدرة على القيام بالأمور من اللاوعي “الاعتياد”، فسنتعلم قيادة السيارة –مثلاً- بوعي، مع التمرس والتعوّد سنتمكن -فوق ذلك- من القيام بعدة مهام لدى قيادتنا السيارة، التعلم بالحضور الذهني الواعي لا يتطلب ضرورةً وجود موجه خارجي، كأن نتعلم عبر رؤية الآخرين وعبر تقليدهم، أو أن نتعلم لعب الكرة مع أقراننا. أمّا التعليم الضمني فتعني أن يقوم اللاعب بما يراد منه بلا وعي منه، أي أن تكون المعلومة أو المهارة مضمنة قد يكتشفها هو بنفسه، بالضبط كما تعلمنا اللغة ونحن صغار، فلا نتذكر جيداً متى بدأنا بالنطق، وكيف اكتسبنا اللغة فطرياً عبر تسمية الأشياء وتجميع الكلمات وتكوين الجمل وحتى ضبط القواعد، ثم أدركنا أننا نتكلم لاحقاً. فحتى الوعي -في الحقيقة- قد تَشكّل عبر اللاوعي! فالوعي واللاوعي ليسا منفصلين.

يتحكم العقل اللاواعي بـ 90% (و95% في دراسات أخرى) من تصرفاتنا، فهو المتحكم بالعمليات اللاإرادية والتلقائية كالمشاعر والإحساس، والعادات والإدمان، والإبداع والحدس والذاكرة طويلة الأمد. أما العقل الواعي فلا يتخطى 10% من تصرفاتنا، كالتفكير والتحليل والتخطيط.

لم يعد الوعي واللاوعي محط نقاش فلسفي وحسب، بل وتم اخضاعه تجريبياً عبر علماء الأعصاب والمخ، فلم يعد اللاوعي مخزناً للذكريات وللذاكرة الضمنية وحسب. إن العقل اللاواعي يستقبل بيانات ضخمة ويعالجها بسرعة تفوق العقل الواعي والتي بدورها تجعلنا نتخذ القرارات، إذ تبقى هذه البيانات مضمرة يستدعيها العقل وفق محفزات معينة، فبجزء من الثانية تستثير رائحة عطر -مثلاً- ذكرى معينة مرتبطة بتلك الرائحة، أو أن نقوم بردة فعل معينة لحالة معينة، هذا ما يسمى بالمحفزات اللاشعورية، إذ أننا لا نستطيع بواقع الأمر اختيار الوضعية الصحيحة في لحظة ما في المباراة، لأن سيرورة اللعبة سريعة التبدل إلا أن التلقائية الناتجة عن اللاوعي، التمرس وكثرة اللعب يجعل اللاعب يقوم بأمور معينة بشكل مثالي، -أو على اقل تقدير سيتخذ قراراً مثالياً- وبلا ترتيب مسبق، وبمجرد أن يفرغ مما قام به سيعي ما فعله. وهذه أعلى مراحل سلم التعلم الأربع (نموذج المراحل الأربعة للكفاءة Four stages of competence) إذ يقسم هذا النموذج عملية التعلم -وصولاً لمرحلة الكفاءة أو التمكن- إلى أربعة مراحل، الأولى هو الحدس الخاطئ؛ في أن يكون المرء جاهلاً بجهله، يسمونه العرب “جهلاً مركباً”، أما الثانية فسنكون واعين بجهلنا أو عدم مقدرتنا غير أننا قد نقوم بأمر ما عفوياً لكن دون القدرة على التحليل. أما المرحلة الثالثة فسنكون واعين بقدرتنا ومعرفتنا بحيث تكون لدينا قدرات استراتيجية وقدرة على التحليل، أما الأخيرة فهي المعرفة والقدرة اللاواعية، المرحلة الأعلى؛ الحدس الصحيح والقدرة التلقائية على القيام بالأمور والمهارات بلا كلف أو جهد، أو العبقري الذي قد لا يعي مدى عبقريته كميسي أو نيمار واللذان يتنبئان بالأمور ويتخذان تدابير وقرارات مذهلة بجزء من الثانية، أولئك الذين إذا سألتهم كيف تقومون بذلك قد لا يستطيعون شرحه.

أعتقد أنني ولدت بها” يقر لامبارد أنه عندما كان يقوم بتفحص محيطه لم يكن على وعيٍ بما يفعل، إذ عندما سئل عما يفعل لم يستطع الإجابة.
مؤكدٌ أنه الآن على وعي ٍ بها كمدب، لكن غالب النجوم السابقين غير قادرين على شرح وتعليم ما يستطيعون القيام به، لأنه حدسي ويقومون به بلا وعي منهم.

إن المرور بهذه المراحل لا يتطلب وجود موجّه بالضرورة، يندر أن تجد لاعباً يعي ما يفعل، فحضوره الواعي وتفكيره الواعي ربما يؤثر على أداءه ويؤثر على تلقائيته، أي أنها ليست بالضرورة إيجابية، لك أن تتصور نفسك تؤدي مهارةً بتلقائية، وتصور نفسك تؤدي نفس المهارة وأنت محط الأنظار أو تحت الضغط لأول مرة.

يقودنا ذلك إلى أن نستنتج أن التعليم المباشر والتلقيني مرهق للاعب وللمدرب، فلا يبدي بعض اللاعبين استجابة كبيرة للتدريبات التحليلية، أي اقتطاع حالة من حالات اللعب والتدرب عليها –بكثافة- بكيفية معينة كما يفعل سارّي أو كونتي. غوارديولا ليس ببعيدٍ عن ذلك، فالتدرب واللعب مع بيب أو سارّي ومن سلك مسلكهم ليس محض مرح كما يتصور البعض منا. كرتهم ممتعة، ربما، لكن نطاق الحرية أقل مما يبدو عليه، فاللاعب ملتزم ومقيد بأدوار وقرارات وقراءة لعب محددة، فالسيمفونية تم الإعداد لها مسبقاً ببروفات مملة، وعلى أي حال فمجال الإبداع فيها باقٍ عموماً. إنما فقط يبدو أمراً نفسياً عندما لا يجد اللاعب راحة بكثرة الأوامر، في البداية قد يعاني ومن ثم سيعتاد ويتأقلم، أو أن يرفضها قطعاً، متمرداً يصعب ترويضه وقد يكون ذلك إيجابياً من أوجهٍ عدة، عدا الفردية والأنانية فهي مضرة.

ختاماً مهما بلغت قدرة المدرب في لعبة متقلبة لا أمان لها، ولا في اللاعب ككائن يقوده اللاوعي والعاطفة، يصعب تنميط اللعب على طول الخط، كما لا يبدو منطقياً أن نترك اللاعب بلا توجيه ولا شرح ونرهقه ذهنياً يقول المدربون الذين يفضلون توجيها مباشراً وعملاً مأتمتاً، غير أنه من المثير للإعجاب أن ترى بعض الفرق مبرمجة وواضحة المعالم فتستطيع أن تعرف أن هذا الفريق يدربه مدرب متمكن، ولو كان اللاعب روبوتاً لفاز بييلسا بكل شيء على حد قوله، وهنا محط النزاع!

لا يزال مفهوم الوعي واللاوعي والإرادة الحرة محل شد وجذب بين التجريبيين وعلماء النفس والفلاسفة، أنظر: [1] [2] [3].

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: