“يوجد ثلاث انواع من الأكاذيب .. أكاذيب، وأكاذيب لعينة، والإحصائيات.” -بنيامين دزرائيلي
هناك طريقتان للاستدلال في المنطق الصوري أو الأرسطي أو أياً كان المسمى، الأولى هي الاستنباط والثانية هي الاستقراء؛ أما الأولى فهي استنتاج قاعدة جزئية من قاعدة كلية، في حين أن الثانية -وهي الاستقراء- فنستنتج قاعدة كلية من قاعدة جزئية. كي نورد مثالاً للاستنباط سنتبع خطوات القياس المنطقي أو القضية المنطقية:
مقدمة كبرى: كل الأرجنتينيين جنوب أمريكيون؛ مقدمة صغرى: وميسي أرجنتيني؛ النتيجة: إذاً ميسي جنوب أمريكي.
أما الاستقراء فينقسم لقسمين: أ) استقراء تام، ب) استقراء ناقص. الأول يقيني حيث نعمم الحكم بأقصى درجات اليقين، لأننا نستطيع إحصاء “كل” أجزاء النظام، كأن نقول: كل لاعبي منتخب الأرجنتين أرجنتينيون، هذه العبارة صحيحة لأننا نستطيع التثبت من ذلك، فعدد اللاعبين محدود ونستطيع المرور عليهم واحداً تلو الآخر، كما أن أوراق اللاعبين الثبوتية يجب تكون مستوفاة لدى الاتحادات، بالبداهة a priori، أي معرفة مستقلة عن التجربة، بمعنى أننا لسنا مضطرين للذهاب بأنفسنا والتحقق من وجود جوازات سفر أرجنتينية لدى كل لاعب، بصرف النظر عن احتمالات التلاعب والتزوير. أما النوع الثاني من الاستقراء فهو ظني، أي أننا لن نقطع بفكرة أن كل اللاعبين الأرجنتينيين موهوبين لأن ميسي وأغويرو موهوبان، فلن نعمم الحكم بناءً على حالات جزئية أو خاصة. مقدمة كبرى: ميسي موهبة؛ مقدمة صغرى: وميسي أرجنتيني؛ نتيجة: إذاً اللاعبون الأرجنتينيون موهوبون! نرى هنا أننا بدأنا بحالة جزئية، “ميسي”، فيما بدأنا في الاستنباط بحالة كلية، “الأرجنتينيون” ثم نهبط للجزء. وهنا على النقيض من البداهة نحتاج للتحقق من هذه الفرضية لا الإطلاق جزافاً. لا يتميز المنهج الاستنباطي كثيراً عن الاستقرائي رغم أن المقدمات الصحيحة ستفضي بنا ضرورةً إلى نتائج صحيحة، غير أن الاستنباط طريقة تحليلية ميكانيكية مغلقة ولا تأتي بجديد واستخدامها يصح بنطاق ضيق كفيزياء نيوتن الكلاسيكية، هذا النهج لاقى نقداً عبر لاهوتيين كالغزالي أو عبر فلاسفة كبيكون ولاحقاً عبر برتراند رَسِل.
عودٌ على بدء، ملحوظٌ أن الغالبية تنزع إلى الاستقراء الناقص -لا شعورياً- عند إطلاق الأحكام، خوان مدرب إسباني إذاً سيلعب تيكي تاكا، ماركو إيطالي إذاً سيكون دفاعي، وقس على ذلك. وتبعاً لذلك تسود الصورة النمطية وما درج عليه الناس دون تفحص ونقد. انتقد بعض فلاسفة العلم ككارل بوبر الاستقراء باعتباره نهجاً غير وافٍ لدى دراستنا أي موضوع، حيث أننا سنحكم بناءً على ما رأينا وشاهدنا ولاحظنا وليس ما خفي عنّا، تحسُس الفيل في الظلام يبدو تشبيهاً مثالياً كوني -كذات مدركة- لن أستطيع الإحاطة بكافة جوانب المستدرك أو الموضوع أي -الفيل- فلن أصف إلا ما ميزته وما لمسته. مثّل بوبر مثال البجعة السوداء الشهير، حيث جرى افتراض أن كل البجع لونه أبيض، بيد أنه اُكتشف في القرن السابع عشر وجود بجع أسود في أستراليا فعلاً، الأمر الذي وضع مزيداً من علامات الاستفهام حول الاستقراء، فالمعرفة ناقصة ونسبية وموقوفة ومتجددة بتجدد المعطيات والمعلومات.
هكذا تسير غالبية الإحصائيات، أي أننا ندرس عينة فقط، لأننا لن نستطيع إخضاع جميع أجزاء الموضوع للاختبار والفحص، وعليه يكون استقراءً ناقصاً أو الاستقراء المشهور بوصف ابن سينا. فتلك الدراسة تزعم بأن اللاعب الأمهر هو من يلعب بالقدم اليسرى، أو أخرى تقفز إلى أن اللاعب الأفريقي أكثر تحملاً… العينة المدروسة قد تجيء بهذه النتائج ولكن قد تكون العينة منتقاة بعناية وبالتالي تكون مضللة وهذا ما يعرف بالالتقاطية في الانحيازيات الإدراكية، أو تعتمد على كم المسافات المقطوعة وليس على النوع، كالشدة أو عكس الاتجاه أو الالتحام، أو من الناحية التكتيكية كالهجوم على المساحات الصحيحة أو التغطية الصحيحة، أو التواصل الجيد مع الزملاء وقراءة حركات الخصم، الإحصائيات الكمية مليئة بالفجوات، فلن تميز فائدة التمريرة أو فاعلية الحركة عبر أي خوارزمية، نحن بوعينا نميزها ونفهم كرة القدم، الآلة لا تفهم ولا تفكر، هي لا تملك وعياً ولا عقلاً.
ولنفترض جدلاً أننا درسنا عينة من اللاعبين البرازيليين بمقابل عينة من اللاعبين الألمان لنرى أيهم أقدر على المراوغة والخداع، معيارنا الرئيسي كان معدل المراوغات، وجدنا في استنتاجاتنا أن اللاعبين البرازيليين أمهر وأكثر مراوغة، هل هذه الدراسة ستجعلنا نستغني عن فكرة جلب لاعب ألماني بحجة أنه ليس مهارياً ولن يمنحنا أفضلية في الثنائيات أو في الثلث الأخير؟ بالطبع لا، لأن سانيه أو أوزيل مثلاً مواهب لا تضاهى. إن دراسة عينة أو شريحة “كبيرة” ستعطينا تصورات ومقاربات أفضل، لن نستغني عن ذلك، لكن ما الجدوى من دراسة من أمهر مِن مَن؟ خصوصاً إذا اعتبرنا أن الموهبة لا تنتمي لعرق ولا لجنس أو لون، بالتالي فستجلب اللاعب الأفضل بصرف النظر عن عرقه وبلده ولونه… الخ. من الممكن أن تفيدنا دراسات من قبيل: لِمَ يَكثُر المراوغون والمهاريون في البرازيل؟ إذ نستطيع بذلك أن نطور أساليب مشابهة للأساليب التي أفرزت هذا العدد من المواهب، سنجد كرة الشوارع، أو كرة الصالات، حيث الحرية والتعلم الفطري، أين يراوغ اللاعب كيفما يشاء وتحت ظروف صعبة كالمساحة الضيقة وأرضية اللعب وتنوع الكرات حجماً وخامةً. ولكن مجدداً لا يجب أن نقع في مغالطة التركيب، فليس “كل” برازيلي لعب في الشوارع أو تعلم فيها، ألا يصح أن طفلاً بدأ في أكاديمية ما فوراً أو لم يكن الشارع العامل الرئيس في نموه وتحسنه؟
حدود وعجز المصفوفة والخوارزميات
تحرز التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تقدماً مذهلاً من جراء استخدام النماذج أو الصيغ الخوارزمية/اللوغاريتمية، كالروبوتات، وسائل النقل ذاتية القيادة، أجهزة الخدمة الذاتية، دقة أجهزة الاستشعار لكافة المجالات، في التنبؤ بالأمراض، أو التنبؤ بالحوادث المرورية، وإلى غير ذلك. إن دراسة دماغ الإنسان وآليات التفكير، وتمييز الأنماط، أنتجت الروبوت، وبنفس الآليات تعمل أجهزة التعرف على الوجوه، مثلاً. دُرست آلية الحركة لدى الطيور الكبيرة وتمت محاكاتها في الطائرات، إذ بذلك تُدرس الكائنات الحية لمحاكات سلوكياتها على الآلات وليس العكس. وبالرغم من أن أي شكلٍ من أشكال الكمال ليس إلا وهم، إلا أن البعض يفترضها بالآلة كونها موضوعية ولا تحركها المشاعر.
فيديو (يصعب برمجة الحدس في الكمبيوتر؛ حديث البروفيسور في MIT سيرتاج كارامان)
تكمن الإشكالية الكبرى في تطبيق هذه النماذج الحسابية على أي مجال، حتى المجالات التي لا يمكن أبداً أن نستغني بها عن حدس الإنسان وتأملاته وتأويلاته، كونه كائناً بيولوجياً واعياً وعقلاً. يصعب على “غوغل” ترجمة نصٍ ما بدقة، فسينتقي مرادفاً للفظةٍ أو كلمة أو مصطلح دون اعتبار للسياق، ذلك من شأنه قلب المعنى رأساً على عقب، سيعرف ذلك من يجيد لغتين أو أكثر. لا شك أن البعض قد لا يجيد تحليل الخطاب فيقع بذات الخطأ، ويظل الاحتمال أن تتطور هذه البرامج للدرجة التي قد تغنينا عن الوسيط البشري… من يعلم.
من بين المزالق العديدة هو عدم قدرة أي نموذج أو مصفوفة على الإحاطة بجميع المتغيرات أو التقلبات أو الحوادث الاستثنائية أو الغير متوقعة في النظم المعقدة، في علم النفس ثمة ما يسمى “مشكلة الساق المكسورة” والتي افترضها عالم النفس الاكلينيكي بول ميهل، وبحسب أتول غواندي “قد تكون الصيغة الإحصائية ناجحة للغاية في التنبؤ بما إذا كان شخصٌ ما سيذهب إلى السينما في الأسبوع المقبل أم لا. لكن الشخص الذي يعرف أن هذا الشخص مصاب بكسر في الساق سوف يتغلب على الصيغة. لا توجد صيغة يمكن أن تأخذ في الاعتبار النطاق اللامتناهي لمثل هذه الأحداث الاستثنائية”. وكيف لأي مصفوفة ناقصة -بالضرورة- أن تزعم الكمال؟ بالنسبة لغارغانتا وزملائه فاستخدام طرق خورازمية algorithmic عوضاً عن الطريقة التجريبية/الاستكشافية heuristic سيكون له مضار إذا ما رُمنا استيعاباً أكبر لكرة القدم. (غارغانتا وزملائه ص303د).
تنطوي الإجراءات الخوارزمية على التعرف على جميع الحالات البدئية التي قد تعتبر حاسمة وعلى ضوئها تتوقع ما سينتهي عليه الأمر، ولكن هذا غير ممكن في نظام مفتوح ككرة القدم. يشير غارغانتا إلى أنه “كي تكون الخوارزمية فعالة، يجب أن تأخذ في الحسبان جميع البدائل الممكنة المتعلقة بكرة القدم، وهذا يتعارض مع العشوائية وعدم القدرة على التنبؤ في المواقف العديدة والمتنوعة التي تحدث أثناء اللعب”. أما الطريقة التجريبية فهي تعتمد على الحدس وعلى اتخاذ القرار بأسرع وقت ممكن، الأمر الذي يتطلب خبرة وفراسة، يطلق إدغار موران على الطريقة التجريبية “فن الاكتشاف”، أو بتعبير أبراهام مول: علم إيجاد الحلول. يرى الباحث في التدريب الرياضي جان فرنسيس غروهاينيه أن الإجراءات التجريبية -التي لا تزعم الدقة- أكثر اتساقاً مع طبيعة اللعبة التي لا يمكن التنبؤ بها تماماً؛ بالطبع للتجريبية أيضاً اعتواراتها ومثالبها، وبالمقارنة بالخوارزميات فالإنسان لا يستطيع التعامل مع البيانات الكبيرة أو يحسبها بسرعة ودقة، وعليه فالمزج بين الأرقام ورأي العين ضروري. بين الكمي؛ أي الأرقام الفضفاضة أو بساطة المنهج التحليلي والتركيز على المحصلة؛ عدد الأهداف، عدد التمريرات الصحيحة، عدد الأهداف المتوقعة، المراوغات الناجحة…الخ. وكذلك بالنسبة لغارغانتا وزملائه تنطوي على اللاعب الفرد معزولاً عن السياق وعن التفاعل مع بقية اللاعبين. ومن ثَمَّ هناك التحليل النوعي، تأويل البيانات وتفسيرها، تسلسل اللعب الذي يفرز الأنماط (المتكررة) أو حتى العشوائية بغض النظر عن المنتج النهائي، أي أن يجيد فريقٌ ما اختراق الخصم من العمق باستخدام تمريرات ارتدادية، قلب > مهاجم > لاعب وسط داخلي، باختصار أن نركز على العملية لا على المحصلة.
يرى مورينيو أن قراراته ينبغي أن تكون بعينه المجردة بالدرجة الأولى: “لا تستهويني الإحصائيات المجردة، […] مثلاً لو جريت أنت كلاعب وسط 5,2كم، وهو جرى 4,8كم، قد يكون الأخير هو الذي قام بما أرغب والأول لم يقم بذلك ولذا فلن أهتم بالمساحة المقطوعة. بعض اللاعبين لديهم معدل هائل في التمرير الدقيق، ولكن أين كانت التمريرات؟ لذا فالإحصائيات المجردة أو التي أسميها الإحصئيات العارية لا تعني شيء، ولكن الإحصائيات التي تقوم بتحليلها وتستخلص منها الاستنتاجات هي المهمة”. كلوب لا يرى أنه بحاجة للأرقام كي يرصد مشاكل الفريق، فهو “هاوٍ للإحصائيات التي تنظر في المباراة السابقة أو حتى التي تقيم الموسم ككل. أنا نصير لفكرة أن ترى بنفسك، في الغالب سأكون على بينة ما إذا كان بناء اللعب عندنا بطيء قبل أن يمرر لي أحدهم أية بيانات، أنا أدرب لأكتشف هذه الأشياء بنفسي”.
“أحب كرة لقدم لأنها تتعارض مع العلم: لأنها متقلبة، لأنها غريزية، لأنها وجدانية. قد نعرف في يومنا الحاضر أن لاعباً قد جرى 12.345كم خلال مباراة ما، ولكن هل جرى اللاعب للمساعدة؟ لتوفير نفسه؟ وهل كان يفكر عندما كان يجري؟ إننا بحاجة للسياق، عدا ذلك فلندع الأرقام لأمر آخر.” -خورخي فالدانو
“الإحصائيات كلبس البحر، تظهر كل شيء ما عدا الجوهر.” -فيتور فرادي
“ليس كل ما يمكن احتسابه يعول عليه، ولا يمكن حساب كل ما يجب أن يعول عليه.” -ألبرت آينشتاين

من جانب آخر، قد لا يبرز بعض اللاعبين في إحصائيات ما بعد المباراة ولكن مايـّو يرى أن “هذه النوعية من اللاعبين ترفع من تناغم الفريق، حيث يعملون على تحسين شبكات الاتصال والتنظيم من خلال إنتاج سلوكيات لافتة تساعد على نشوء تآزر ترابطي بين الزملاء. هذا مهم للغاية ويجب أن يكون مصدر قلق كبير لمحللي الأداء، إذ أن العديد من البيانات المسجلة أثناء المباراة تعكس فقط معايير وصفية لا تساعد في الحصول على فهم جيد لديناميات اللعبة والأداء الحقيقي للفرد والفريق”. بالنسبة لبعض المحللين وأيضاً -كما يشير أوسكار كانو- بالنسبة لبعض المدربين، فبغض النظر عن قدر البيانات التي جُمعت فإنها تمنحنا إحساساً زائفاً بالسيطرة، من شأنها تخدير قدرتنا على التأمل. تعطي الأرقام إجابات ولهذا فهي مريحة لكارهي الإرتياب. سيرولّو له في هذا مقالة، إذ يقول بأن البعض يعتقد أن المعلمات/البيانات علمية لأننا نستخدم علماً وتحليلاً.
“لا جدوى من ذلك، لأننا نستخدم منهجية خطية في الرصد في منهجيات وظواهر غير خطية وهذا ليس جيداً بما يكفي بالنسبة لنا. […] علينا أن نرصد ونلاحظ -اللاعبين- من منظور مختلف. اهتمامنا هو ما يحدث لكل رياضي بعد خلق ظروف بيئية مناسبة. المهم هو ما يحدث داخل اللاعب وليس التغيرات الخارجية التي يمكننا ملاحظتها.” -باكو سيرولّو
لا شك أن تأثير الأمريكان بادٍ وواضح في التحليل الكمي وفي الإحصائيات، تحدث كرويف عن هوس الأمريكان في الإحصائيات، إذ كان يرى أن كرة القدم مختلفة عن الرياضات الشعبية في الولايات المتحدة، فبالحديث عن الإحصائيات:
“ثمة أمر لا يؤخذ في الاعتبار: تُلعب جميع الرياضات الأمريكية الشعبية باليد. لذا فإن الإحصائيات دائماً ما تكون موجبة. وإذا كانت الإحصائيات سلبية في ألعاب تُلعب باليد، فيجدر بنا إغلاق التلفاز. بالمقابل، تُلعب كرة القدم بالقدمين. عليك أيضاً أن تضع في اعتبارك أن الكرة تتنطط في ملعب قد يكون أملساً أو قد لا يكون كذلك، قد يكون فيه كل شيء، أنقوعة، مسامير، حجارة، كل ما تريد. لذلك فإن كرة القدم رياضة تنطوي على الكثير من الإخفاقات والكثير من الذكاء ويجب اتخاذ القرارات فيها باستمرار. وبالتالي، فهي رياضة أقل ميكانيكية ولا يمكن التنبؤ بها أكثر من غيرها: إذا قارنتها بألعاب الأمريكان، مثلاً، يمكنك إيقاف اللعب وإعداد أنماط اللعب وقتما تحب. في لعبة هوكي الجليد، يدخل اللاعبون ويخرجون، يقوم المدرب بالعديد من التغييرات وتختلف الظروف باستمرار. في كرة السلة، يمكنهم أيضاً النقاش، وبعد أن يطلبوا وقتاً مستقطعاً سيحضّرون تكتيكاً أو يغيرون تَشكَّلهم، وفي الدقائق الأخيرة، يغيرون كل شيء مرة أخرى عبر وقت مستقطع آخر ثم يعدّون لعبة استراتيجية. نفس الأمر يحدث في البيسبول، يقضون وقتهم في التحدث والشرح … كرة القدم، من ناحية أخرى، انسيابية ومستمرة. يجب أن يكون اللاعب والمدرب أسرع ذهنياً. بالمناسبة، أنا لا أنوي التقليل من سمعة الرياضات الأخرى، ولكن فقط كي أوضح فكرتي في أن كرة القدم مختلفة. وإذا كانت مختلفة، فيجب التعامل معها بطريقة مختلفة، لا الهوس خلف محاولة تطبيق تلك المفاهيم وطرق التحليل من الرياضات التي تُلعب باليد. ما أرمي إليه هو أنه لا يمكنك تطبيق نهج كرة السلة أو كرة القدم الأمريكية على كرة القدم. لا يمكنك تطبيق إحصائية كرة السلة على كرة القدم، مثلاً، حاول تطبيق الإحصاء على روماريو، ففي كرة السلة، اللاعب الذي يستقبل تسع كرات ويضع واحدة فقط بالداخل ليس إلا كارثة، كارثة مطلقة. بينما قد يلمس روماريو تسع كرات لكنه استطاع وضع اثنتين في الداخل، فزنا بالمباراة وحصلنا على النقاط الحاسمة أو مررنا للدور القادم. إحصائياً، كان روماريو كارثياً، حيث أضاع سبع كرات من أصل تسعة. كروياً، عبقري وأداءه كان رائعاً.”
في الحسم ثمة خلط بين الفعالية والحظ -أو شيئاً منه على الأقل- مثال روماريو قد يفي بالغرض؛ أما الفعالية أو المسمّاة “كفاءة” في الاقتصاد فتعني الانتاج الأكثر بأقل التكاليف، بالنسبة للاعب كرة القدم فهي الاقتصاد في تصرفاته، فإن كان بحاجة للمسة واحدة وليكن، وإن كان التسديد القرار الأفضل على أطراف منطقة الجزاء وليكن، وهكذا. أي أن الفعالية لا علاقة لها بتسجيل المهاجم للفرصة الوحيدة التي حصل عليها، أو -بالنسبة للفريق- حينما يسجلون هدفين من فرصتين. وأيضاً لا يحتاج الفريق لعدد كبير من التمريرات للوصول لمرمى الخصم بوضعية مواتية، لكننا لا نختار وإنما تقلبات اللعب والعراقيل تفرض هذا الشيء، لذلك قد نلجأ لتدوير الكرة وتداولها. بالنسبة لي أود أن يصنع فريقي العديد من الفرص “كماً” ومن خلال الكم قد نحصل على نوع، أن نصل للثلث الأخير وبعدد جيد من اللاعبين وباستغلال مساحات معينة أو حالات 1ضد1، وفي اللمسات الأخيرة للجودة القول الفصل.
سنعرج على ما يعرف بإحصائية الأهداف المتوقعة Expected goals أو اختصاراً xG؛ تقيس هذه الإحصائية جودة الفرصة وأرجحية تسجيل هدف منها، بناءً على معايير كالموقع والمسافة من المرمى، بناءً على الزاوية، وكذلك ما إذا نُفذت بالقدم أو الرأس، فللقدم أفضلية، وعلى نوع التمريرة الحاسمة (التمريرة الأخيرة). الهدف من مسافة بعيدة يحمل قيمة منخفضة، وكلما كان موقع التسديد أقرب للمرمى كلما ارتفعت احتمالية التسجيل وبالطبع مع زاوية مواتية وعراقيل أقل أو أبعد بين المسدد والمرمى؛ أي مدافعين. كذلك تضع بحسبانها جودة اللاعب، فمن المرجح أن يحول ميسي أو ليفاندوفسكي الفرصة لهدف مقارنة بلاعبين متوسطي الجودة فنياً. هذا مبدأياً جيد، لكن عدد الثغرات بهذه المصفوفة بمثل عدد الحوادث والعوارض الصدفوية في كرة القدم، بشسع الملعب، كرة القدم معقدة جداً على أن نقرر من أين نسدد، أو أي زاوية، وكيفية استلام الكرة أو تتبع مسار التمريرة وعدد لا نهائي من المتغيرات تفرضها القيود والقوانين، الخصم، الزملاء، حدود الملعب، الوقت والمساحة، ضف إلى ذلك المتغيرات البيئية والمناخية والنفسية والفنية والبدنية.
فريق يبني اللعب من على بعد 100م أو أكثر، ينجح للوصول إلى ثلث الخصم الأخير بسلاسة وروعة، ولكن لم تحدث تسديدة، أو اصطدمت التسديدة بالمدافع أو تعثر اللاعب أو عُرقل أو اختل توازنه، أو أثّر الجو على مسار الكرة، أو حتى سجلت من على بُعد 20م فلماذا يكون لها قيمة منخفضة؟ أين العملية هنا؟ لماذا التركيز على النتيجة فقط؟ ماذا عن تسلسل اللعب الذي أدى لركلة الزاوية أو ضربة الجزاء؟ ماذا عن تسلسل اللعب الغير متوقع لهدف مُنح قيمةً عالية؟ … الخ. ولو اعتمدنا على إحصائية لتقدير فريق أو آخر فيجب أن تكون عدد الاهداف المسجلة كمعيار مطلق، بينما معيار الأهداف المتوقعة فهو معيار نسبي وخاضع لـ “رأي” ومعايير مطور المصفوفة الشخصية. فبالنسبة لي هناك احتمال ليس بالبسيط أن يسكن روبن تسديدته الشباك بعد أن قطع بعرض الملعب. أو مقصية من إبراهيموفيتش، أو شوبوشلاي لاعب سالزبورغ بقذائفه. تخيل أن تخبر لاعبيك أن يسددوا بالقرب من المرمى في المرات القادمة لأن الاحصائيات تثبت أن الفريق لديه معدل أهداف متوقعة منخفض؟ لا يبدو أمراً عقلانياً، هو مثل مطالبتنا للاعب بالفوز بكل ثنائية، وتصويب التمريرات كلها بدقة… يعتقد بعض مطوري أو معتنقي هذه الإحصائية بحتمية هبوط أداء الفريق إذا كان معدل أهدافه المتوقعة منخفض، مثلاً، يسجل الفريق “س” أهدافاً من مسافات بعيدة ومن زوايا صعبة أو حالات غير متوقعة، هذا الفريق يُعتبر لديهم محظوظاً أو فاق التوقعات ولن يستمر في هذا الأداء. ألقِ نظرة على إحصائيات دوري معين، ستجد أن فرق المقدمة أفضل إحصائياً من فرق المؤخرة، هناك استثنائات دون شك، لكن تحول الكم إلى نوع مرتبط بالجودة إلى حد كبير، مثلاً من يمتلك ميسي ليس كمن يمتلك “فلان”، فريق منافس على الهبوط ولكن معدل الاستحواذ لديه عالٍ، ويلعب كرة جيدة، ولكنه يعاني من حسم الفرص أو من ندرة التمريرات الحاسمة أو المفتاحية، من الإجحاف ترك كل شيء والبحث عن المحصلة أو كيف جاءت التسديدة في الهدف.
عدد الاحتمالات في المستوى أو العمق السادس في الشطرنج يتخطى 119 مليون احتمال، لك أن تعرف أن كل قطعة لها نطاق حركة ضمن قوانين اللعبة الداخلية، ما بالك بلعبة عدد اللاعبين فيها 22 كائن حي ومفكر تحركه المشاعر والغريزة والعادة، علاوةً على الحالة البدنية وانشغال الذهن بالتفكير واستقبال المعلومات دون انقطاع، أو الالتزام بالتعليمات، إضافةً إلى مجال ونطاق حركة حر!
أي شخص يطور صيغة أو خوارزمية، إنما يطورها بناءً على وجهة نظره الخاصة، هو يرى أن هذا الهدف يستحق قيمة أكبر، آخر يرى غير ذلك، وبالتالي ليس موضوعياً 100%. وعندما لا يكون الأمر موضوعياً 100% فليس مُلزماً لنا، مثلاً عندما تنتهي المباراة 1-0، فهذه الإحصائية مطلقة وموضوعية 100%، شئت أم أبيت، فلا يمكنك أن تقول أن المباراة بالنسبة لي انتهت بالتعادل فهدفكم لا يحمل قيمة عالية في الإحصائية كذا، قد نتجادل حول الاستحقاق أخلاقياً أو فنياً، ولكن قانون كرة القدم يقول بأن من يُدخل الكرة في شباك الخصم يحتسب له هدفاً، بالطبع شريطة أن يكون شرعياً، وكونه شرعي أو غير شرعي يعود للمشاهد/الراصد؛ أي الحَكم وهذا أمر نسبي فقد يرى الحكم أن اللاعب قام بارتقاء عادي، في حين رأى المدافع أن الاحتكاك يقتضي خطئاً وبالتالي يجب ألا يحتسب.

التضليل أو الاستخدام الخاطئ للإحصائيات
“الأرقام كائنات هشة، ولشدة التعذيب تعترف بنهاية المطاف بكل شيء نرغبها أن تقول.” -ألفريد ساوڤي
يلوي البعض -أياً كانت مآربهم ونواياهم- عنق الاحصائيات كي تطابق انحيازاتهم، فنُشيح بوجوهنا عمّا ينفي ما نعتقد، نغض بطرفنا عمّا لا يخدم ميولنا ورأينا، ولهذا دوماً أقول أن الأرقام قد تدعم الرأي، ولكن ليس حقيقٌ بها أن تصنع رأياً أو حكماً، ماذا وإلا لن تكون على خطأ فالفريق الفائز دائماً أفضل من الخاسر، والفريق يصبح مسيطراً ومهيمناً لأنه امتلك نسبة استحواذ أكبر، أو الفريق “ص” أمتع لأنه سجل عدداً من الأهداف، أو نقول بأن المباراة ممتعة لأنها مليئة بالأهداف وهكذا دون أن نشاهد أو نرى المباراة بعين تحليلية نقدية. لا شك أن هناك من يرى أن المباراة تصبح ممتعة إذا امتلأت بالأحداث والأهداف، بغض النظر عن جودة الفرص واللعب … على رسلكم، ليس من ناحية قرب مكان المسدد أو الظروف المذكورة في إحصائية الأهداف المتوقعة، بل من ناحية تسلسل اللعب. ومن ثَمّ لا يجب أن نثق بعمق آرائنا أحياناً فيجب أيضاً أن نراجع أنفسنا إذا أثبتت إحصائية ما ضعف وجهة نظرنا، فلا يمكن أن نقول أنّ فريقاً ما يدافع بدفاع منخفض بالرغم من أن متوسط ارتفاع الفريق تثبت أن كتلة الفريق عالية، وهكذا. أو أن نقول على فريق آخر بأنه دفاعي أو سلبي ومعدل الاستحواذ لديه عالٍ، نسبة الاستحواذ هنا لا تعني أن الفريق جيد أو ممتع، هي على الأقل تدحض فكرة أن هذا الفريق دفاعي، أحياناً تُتهم الفرق بأنها دفاعية أو مملة أو غيرُ مُبادرة فقط في المناسبات الكبيرة ودون النظر للطرف المقابل أو ظروف المباراة نفسها، نسبة الاستحواذ تتغير في المباراة، استراتيجياً كالفريق الذي يتراجع بعد أن يسجل، أو يتراجع في الدقائق الأخيرة للحفاظ على النتيجة، أو يتراجع بسبب نقص عددي، قد يتراجع فريقٌ ما للخلف مجبراً لا مختاراً، لقوة الخصم أو لسوء نهج المباراة واستراتيجيتهم المتبعة. لا يتحكم المدربون دوماً بمجريات اللعب، بل هو على الأكثر مزيج من جودة اللعب كفريق، وجودة الأفراد، وجودة الأفكار، وجودة استراتيجية المباراة، دون التغافل عن التقلبات الدراماتيكية التي يحدثها هدف عشوائي أو طرد أو إجهاد أو خطأ تحكيمي، ما يؤثر سلباً على ذهنية الفريق.
المشاعر والعاطفة تتدخل في اتخاذ القرارات، برأي عالم الأعصاب أنتونيو داماسيو قد يقرر أحدهم تناول العلاج إذا قيل له أن 90% من المرضى بقوا على قيد الحياة بعد 5 سنوات، ولكن قد يعتريه الخوف إذا قلبنا الصياغة وقلنا أن 10% قد فارقوا الحياة بعد نفس المدة! في الثانية تم توجيه انتباه المريض إلى نسبة الوفيات وليس نسبة حالات الشفاء أو البقاء حياً. يقول داماسيو بهذا الصدد: “من المحتمل أن المشاعر التي أثارتها فكرة الموت أدت إلى رفض اختيار سيكون مقبولاً في صياغة أخرى، وهذا باختصار، استنتاج غير متسق ولا عقلاني”. قد نستخدم الإحصائيات بما يخدم مزاجنا، عندما نحب الدوري الفلاني فسيكون معدل التهديف العالي دليلاً على أن الدوري ممتع، وعندما نكره ذلك الدوري فسيكون معدل التهديف العالي دليلاً على ضعف الدفاع، هذا الرأي قد يقول به شخص واحد!
الأرقام لا تجيب من تلقاء نفسها، النموذج لا يصفي وينقد، لا يعي، لا يرى ولا يبصر. نحن كذات مدركة ووعي نستخدم هذه الإحصائيات ونأولها ونعطيها معنى، هي بحد ذاتها لا معنى لها. ولنعلم أن جميع النماذج خاطئة ولكن بعضها مفيد كما يقول الإحصائي البريطاني جورج بوكس.
اترك تعليقًا