“في أي مجموعة، كبرشلونة مثلاً، هناك هويتان مختلفتان تتعايشان: الفرد من الأفراد وجماعة الفريق. إنها مسألة عميقة في علم النفس والإيثولوجيا وعلم الاجتماع: تحقيق الانسجام بين الهويات الفردية (لكل فرد هويته) والهوية الجماعية (واحدة مشتركة للجميع). إنه لأمر مأساوي أن تكون الهوية الجماعية ضعيفة بسبب الافتقار إلى التماسك بين الأفراد (في هذه الحالة يُطلق على الفرد اسم غير اجتماعي ويضيع ويصبح غير محمي بسبب عدم اليقين) ومأساوي أيضاً أن الهوية الجماعية تسحق الهوية الفردية بسبب الإفراط في التماسك الاجتماعي الذي لا يستطيع الفرد تحمله. القضية حساسة للغاية لسبب واحد: هناك حالة انسجام واحدة فقط من بين حالات لانهائية ليست كذلك. تحديد مكانها والعناية بها تُعد نقطة هشة وسحرية، وهي محورية لتعايش اللاعبين داخل الفريق. يمكن أن تسمى هذه المسألة مسألة البقاء والنجاة. إنه السؤال الأساسي لكائنٍ خارق superorganism مكون من الكائنات الحية organisms. لم يستوعب اللاعبون اللامعون مثل رونالدينيو وإيتو وإبراهيموفيتش هذه التفاصيل الجوهرية أبداً.” -أوسكار كانو
لن يكون هناك فريق بلا فرد وفرد، وفرد، … الخ. لن يكون هناك فريق بلا أفراد ولن يكون للفرد قيمة بلا فريق، فالقاصية عن القطيع صيدٌ سهل للمفترس. لن يكون هناك كلٌ أكبر من مجموع الأجزاء إذا لم يطغى الانسجام والاتحاد بين الأفراد. لن ينشأ الكائن الخارق أو -الكائن السوبر- بلا كائنات حية متناغمة ومنسجمة للهدف النهائي، فهم ليسوا كالغثاء زيادته كنقصه، كل فرد له قيمته وكل فرد ينتظم ذاتياً. ذلك أن الذكاء المحدود لدى كل فرد من مستعمرات النمل لن ينتج شيئاً. الكائن الخارق هو مجموعة أفراد متآلفة محاوِلة تشكيل كلٍ واحدٍ متحد أمام مصاعب الحياة، للتحامي، وللمناعة الاجتماعية، طمعاً في استمرار وبقاء النوع. ولكلٍ مهامُه، مثلاً، ملكة النمل دورها وضع البيض في الحقيقة وليس دوراً سلطوياً، النمل الذكر للتزاوج، الإناث للعمل. تضافر الجهود لدى الأفراد محدودي الذكاء يصنع الكائن الخارق ويحقق الغاية التي يصعب على الآحاد إتمامها، يسمى ذلك بالذكاء الجماعي أو الذكاء الموزع.


يعتقد مانويل كوندي أن الفرد غير موجود في كرة القدم، اتفق إلى حدٍ كبير، ربما لأن الفرد يذوب في الفريق حلولاً واتحاداً فيصعب فصله عن الفريق. سيقوم الفريق بلا أحد أفراده ولكن الفرد ليس شيئاً بلا فريق. غير أن الفرد قائمٌ بحد ذاته؛ أي أن الفرد موجود نسبياً وقد يكون صورة مصغرة من الكل الأكبر، كما في الفراكتال أو الهندسة الكسيرية، فالكسرة أو أجزاء الشكل تبدو مماثلة للكل أو الشكل الأكبر وهي بذلك متشابهة ذاتياً ومتكررة النمط ولكن بأحجام مختلفة كما في الصورة. يحدث تشابه الجزء بالكل أو تماثل الجزء للكل في تقنية الهولوغرام، فمثلاً، عند انكسار اللوح الفوتوغرافي يُظهر كل جزءٍ من الأجزاء المكسورة صورةً كاملة لا مجزأة، أي أن الكل يتمظهر داخل الجزء. يتعذر أن نولف فريقاً أو أسلوب لعب دون معرفة الأجزاء؛ أي اللاعبين، دون فصل الأجزاء عن الكل ودون فصل الأجزاء والأبعاد عن بعضها البعض. فلا ينبغي أن نرى الكل كشيء جامد بل بتعددية أبعاده، “لا يمكنني تمثل الكل دون تمثل الأجزاء، ولا تمثل الجزء دون تمثل الكل” أي لا يجب أن نرى الأجزاء فقط ولا الكل فقط كما يبين بليز باسكال. درءاً لأي التباس، لا يعني هنا أننا سنعزل الجزء، وإنما أن نفهمه بتمثله من خلال الكل.
“في البشر كما في الكائنات الحية الأخرى، الكل موجود داخل الأجزاء؛ تحتوي كل خلية في كائن متعدد الخلايا على مجموع تراثها الجيني، والمجتمع ككل موجود داخل كل فرد بلغته ومعرفته والتزاماته ومعاييره. مثلما تحتوي كل نقطة مفردة من الهولوغرام على مجمل المعلومات التي تمثلها، فإن كل خلية مفردة، وكل فرد يحتوي هولوغرامياً على الكل الذي هو جزءٌ منه، وهو في نفس الوقت جزء من ذلك الكل.” –إدغار موران
في المقال السابق تحدثنا عن الأسلوب التمركزي، وهو أسلوب جماعي، ولكنه في ذات الوقت أسلوب يشمل الفرد، قد يكون الفريق سيئاً تمركزياً لكن أحد أفراده بارع فيها، تشافي، إينييستا، بوسكيتس، تياغو ألكانتارا، فيرّاتي، دي بورين، والآن دي يونغ، ريكي بوج أو بيدري أو من هم في الظل تراشوراس أو روكي ميسا، برونو سوريانو، من بين أسماء عديدة هم صورة مصغرة للأسلوب، وفيهم انطوى الأسلوب الأكبرُ. يتشبع بعض اللاعبين بهذا الأسلوب ثقافياً منذ نعومة أظافرهم، ففي لا ماسيا يُدرَب اللاعبون كي يكونوا صالحين لهذا الأسلوب، تمركز، هيئة جسدية سليمة، استلام/لمسة أولى موجهة، قراءة اللعب فيكون إما رجلاً ثانياً أو ثالثاً، أو يميز من سيكون الرجل الثالث، يقف على الكرة (la pausa)، يجذب المنافسين، يرمق بنظره لذاك ويمرر لآخر، يرى البعيد ولكنه لا يفقد ملاحظته للقريب، يلعب السهل، ويبرع في لعب الصعب إذا دعت الحاجة، هذا هو المثال، هذا هو النموذج.
لهذا يبحث المدرب الذي يمتلك أسلوباً خاصاً عن لاعبين منسجمين مع فكرته، لأن اللاعب أسلوبٌ في حد ذاته، “اللاعب حقيقة تكتيكية في حد ذاته” كما يقول خوانما لـيّو. اللاعب نفسه تكتيك، بتموقعه، بتشتيته أو جذبه للانتباه، وبحركته يساهم في تطور الهجمات. هم بالنسبة لليـّو أو بيب لاعبي الوسط، لطالما تصورا فريقاً يعج بلاعبي الوسط الفنيين والخلاقين ذوي الحس التمركزي، هذا لا يعني أبداً أن بيكيه ليس جيداً لأسلوب بيب، بل هو كذلك، بيدرو أو ستيرلينغ أيضاً، وأي حارس جيد بقدميه، النجم الخارق كميسي أو الهداف الحساس كليفاندوفسكي، أو ظهير كآلفيس، بعض اللاعبين ليسوا استثنائيين ولكنهم متممون لهكذا أسلوب. ولن يعيش إينييستا أو تشافي بدونهم.
“كرتنا لم تنشأ بمحض الصدفة، إنها نتيجة ما تعلمه بيب، ونتيجة الكثير من العمل… أسلوب لعبي يحتاج إلى شركاء، بدونهم لا معنى لأسلوب لعبي. أنا لا شيء عندما لا يحاول أحدهم التخلص من الرقابة، أو لا يوفر الآخر نفسه كخيار تمرير قصير… بدون زملائي في الفريق، أسلوبي لا معنى له. يمكنني الالتفاف، ولكن إذا لم أجد تمريرة، فما الفائدة من ذلك بالنسبة لي؟ … أخبروني في برشلونة أنه إذا لعبت في المنتصف فلا ينبغي أن أفقد الكرة، ولأنني رجل مسؤول للغاية، فقد تعلمت الاحتفاظ بها، يروق لي ذلك. أكثر ما أحبه في كرة القدم هو امتلاك الكرة، أو امتلاك زميلي لها. أستمتع عندما نمرر الكرة، بوم، بوم، بوم ومثلث، ثم تمريرة جدارية…” تشافي
بعيداً عن المراكز والتنميط، هناك لاعب كرة قدم بالكلية ولخصائص اللاعب وبنيته أو سرعته أو نواقصه يوضع بمكانٍ ما. ولكنه مكملٌ يمكن أن يتعايش ويتأقلم، هؤلاء ليسوا المثال والنموذج، كإينييستا، تشافي أو بوسكيتس، بيد أن الثلاثة قد يحتاجون لأجنحة يرفرون بها، أو لصمامات أمان في الخلف تحميهم، هم مركز اللعبة والبقية أفلاك تدور حولهم. الأمر يتعلق بأدوار اللاعبين كمواقع وخصائص، ديل بوسكي يتفق مع بيب فيما يتعلق بلاعبي الوسط، “وليس فقط للربط واللعب، بل في الابتعاد عن الكرة، والبحث عنها بعمق الملعب” على حد تعبيره. ولكن قد يكون تشافي أو إينييستا نقيصة على الفريق، لأنهم محكومون بالآخرين، -كما يوضح تشافي- فهو لاشيء بدون الآخرين الذين يتحركون جيداً، ويفتحون مسارات تمرير أو يغطون المساحات سوياً، إذا كان اللاعبون من حولهم جامدين سيكونوا الأسوء، لأنهما ليسا بمقاتلين، أو يقضيان وقتهما لهثاً خلف الكرة، وإنما رسامان، زادهما للبقاء هو الكرة، تشافي وإينييستا لاعبا كرة نقيّيْن، وهم بحاجة للآخر. يعانقان الكرة بلطف وأنق، يريدان الكرة، ولكنهما يمهدان لها السبيل لترتمي بين أقدامهم، بوضعية جسدية متقنة، بإيماء جسدي مخادع، قلقان باستمرار ويترقبان الوضع حولهما، فعندما يجتمع القلق واللايقين يظهر ويتلجى إبداع.

بالنسبة لي، كتفضيل شخصي، ثمة أمر إضافي لدى إينييستا، هو جناح طراز العقدين الماضيين، كفيغو أو بيريس، وهو دوره في إسبانيا أراغونيس 2008. “أندريس لديه قدرة نادرة على اللعب في الداخل بالضبط كما في الخارج”، يقول بيب ويزيد “عندما تكون بجوار الخط، كجناح، فمن السهل اللعب، لأنك ترى كل شيء. أما اللعب في الداخل فمقلق، فلا ترى أي شيء لأن الكثير من الأمور تحدث في مساحة صغيرة جداً. لا تعرف من أين سيهاجموك أو كم عددهم. اللاعب الرائع هو الذي يجيد اللعب في المركزين…”. أندرس هو لاعب الوسط الداخلي interior كما يسميه الإسبان، كتشافي، هو الذي يتحكم بالكرة كجزء من جسده كريكيلمي، يدور بخصمه ويخرج من الضيق كالزئبق، رشيق الخطى لأنه يتزلج كما وصفُه تيتو فيلانوفا؛ “أندرس لا يركض، أندرس يتزلج. كلاعب هوكي الجليد، يتزلج ولكن بلا زلاجات. يذهب إلى جانب من الميدان، يتزلج، ويترقب ما يحدث حوله دوماً. ثم ينتقل فجأة إلى موقع آخر بتلك الانسيابية التي يتمتع بها. أندريس لا يركض، أندريس يتزلج.” بزعمي إينييستا قد يتغلب على بوسكيتس في مركزه، لأن رؤيته بانورامية، يبصر كل شيء، يرى قبل الجميع، يلعب السهل والصعب، ومضافاً لكل ذلك يرواغ كبرازيلي عتيق… نيمار يقول.



“… سنفوز بالمباراة لأن ميسي يسجل وأندرس ينتج كل شيء آخر: المراوغة، التمريرة الحاسمة من الداخل أو الخارج، إخلال توازن الخصم، والتفوق… يرى كل ما يحدث، ولديه موهبة المراوغة، هذه الهبة له وحده. المراوغة هي كل شيء اليوم، ساعدني أندرس في إدراك أهمية اقتياد الكرة عبر لاعبي الوسط الدخليين، عندما يراوغ ينساب كل شيء ويندلق، ستدرك ذلك مع الوقت.” -غوارديولا

“يسألني ماركوس ورامون عما أشعر به حينما أكون محاطاً بستة أو سبعة لاعبين، أو ما إذا كان أسلوبي مشابه لأسلوب فيدرر، في سرعته وتناسق حركته. يغمرني الخجل حقيقةً حينما يصفاني بأني بلعبةٍ واحدة فقط قد أُظهر جميع الصفات المطلوبة للاعب كي يعتبر مكتملاً: السرعة في اتخاذ القرار؛ جودة التمريرة؛ التسارع والتروّي أو الوقوف على الكرة؛ القدرة على الاستلام الموجه أو قدرتي على الدوران وتغيير الاتجاه. لا أعرف ماذا أقول، أفضل أن يصفني الآخرون.” -أندرس إينييستا
“أعتقد أن باكو [سيرولّو] وصفه بدقة، أندرس من أعظم اللاعبين، لماذا؟ لأنه بارع في العلاقة بين الزمان والمكان. يعلم أين يكون في كل الأوقات، حتى وإن كان محاطاً بعدة لاعبين، ويختار دوماً المنفذ الأنسب، ومن ثمة لديه خطفة وانطلاقة خاصة به.” -غوارديولا
“الحاصل أن إينييستا يُبطأ اللعب، يقول الناس: ‘أنظروا إلى سرعة ذلك اللاعب’، لا، لا يجب أن نخطئ، السرعة ليست الأهم، السر في الحقيقة يكمن في كيفية تمهله وأين يقف على كرته وكيف ينطلق.” -لورنزو بوينافينتورا


في اللقطة الأخيرة، نرى كيف يعيش إينييستا اللعبة، كل شيء محسوب لا شعورياً، يفهم كرة القدم بعمق ودون حاجةٍ للتنظير. يستخدم إينييستا نوعاً يبدو غير مفيداً من خذ وهات، (one-two) يمرر للاعب أمامه واللاعب الثاني يعيدها له مجدداً، نلاحظها بين قلب الدفاع ولاعبي الوسط أحياناً لسحب الخصوم وتوليد لاعب حر بين الخطوط. ولكنه بذات الأثناء لا يتحرك كما في اللقطة الثالثة من الأسفل، وعلى ذكر ذلك، يؤكد تشافي أن برشلونة تعلم الصغير أيضاً أن يمرر ويقف وليس أن يمرر ويتحرك وحسب، “أحياناً قد تبدو وكأنك ستصطدم بجدار، بهذه الحالة أمرر وأقف.” وبمجرد عودة الكرة لإينييستا خرج أحدهم للضغط عليه، وباستلام موجه؛ أي استلام بالقدم البعيدة للمساحة أو نحو المرمى، فقد راوغ أندرس خصمه حرفياً قبل أن يلمس الكرة، كما يشير خوان كارلوس أونزوي “أندرس يستطيع تخطي خصمه دون أن يلمس الكرة، أول أمرٍ يفعله 95% من اللاعبين هو السيطرة على الكرة، هذا هو الخيار الأفضل، ولكن إينييستا يرواغ دون أن يلمس الكرة.” بعد أن تخلص من الأول انفجر وكما يبدو وأنه سريع، لديه خطفته، تلك خطفته التي تحدث عنها بيب. وإن كانت الكرة الإنجليزية التقليدية تخدعك بسرعة اللعب وهي ليست إلا تقاذفاً للكرة وصراعات بدنية، فإينييستا يوهمك بأنه سريع بتملصه، ينتظر أن ينقض عليه الخصم، لأنه يتخطى بعقله وليس بقذف الكرة واللحاق بها، هو يبدع لأن لديه بعض النواقص، ليس سريعاً ولكنه رشيق، يغويك كي تقدِم إليه، ولأنه يعرف توقيت لمس الكرة، فهو ينتظر تلك القدم الممتدة لسرقة ما ليس لها، وبعدها….



خذ وهات لعبة معقدة، فبمجرد خروج الكرة من قدم الممرر يخرج عن نطاق السيطرة، لأن الأنظار تتجه صوب الكرة وحاملها المستقبلي. هنا، لأن الكرة قريبة من المرمى فمدافعي الخصم مضطرون للمواجهة، بالتالي فالمساحات خلف المدافعين القريبين ستُستغل، يخرج المدافع للضغط على أندرس، يمرر إينييستا لميسي وثم يهاجم المساحة خلف الضاغط… ميسي هنا يقوم بالعكس يمرر ويقف، هذه الكرة سريعة لسرعة العقول لا الأقدام.

الاستلام الموجه، بالإسبانية control orientado، أي استلام الكرة بالقدم البعيدة (أو الاستلام بأية كيفية) نحو المرمى أو المساحة، ينبغي على اللاعب قبل ذلك معاينة محيطه إن كان ظهره لمرمى الخصم خصوصاً، ويوجه جسده -وفقاً لمكان الكرة- لتمديد نطاق رؤيته كما في الصورة الأخيرة، وضعية جسدية مفتوحة صوب حامل الكرة، وبما أن الكرة على زاوية قُطرية فجسده أفقي/جانبي وليس صوب المرمى أو لا يعطي مرمى الخصم ظهره. قد لا يستطيع أحياناً الدوران أو القيام باستلام موجه، ربما ليس لإينييستا، لأنه يعي غاية اللعب، إينييستا يفاجئك بسرعة وجودة قراراته، فما يبدو وأنه صعب يستطيع الخروج منه بيسر. أندرس يكسر الأعراف والتقاليد، يسيطر بالقدم القريبة، بالكعب، أو ظهره للمرمى وخلفه مدافع، ليس ثمة تكنيك/تكتيك صحيح، هناك غاية، التصرف أو الوسيلة ينبغي أن تخدم الغاية، الغاية هي جني المساحة والتقدم للأمام. هنا يعجز المدربون، اللاعب هو المعلم، عبره سُنّت النظريات وباختراعاته كتبت كرة القدم عبر التاريخ، يقول المدرب الألماني ديتمار كرامر أن “أفضل مدرب في العالم ليس مدرباً دولياً ناجحاً، بل اللاعب نفسه. شاهد اللعبة وستتعلم ماذا تفعل”، اللاعب نفسه هو الذي علم المدرب بدون شرح وبدون تنظير، فاللاعب غوارديولا هو الذي أسس لغوارديولا المدرب.




كل هذه التصرفات لكسب الوقت والمساحة، أندرس يبتعد قليلاً، يقترب قليلاً، يميل، ينتظر، يتنبأ ويتخذ قراره.. اللاعب السريع واللعب السريع ليسا نفس الشيء، أن تجعل المنافس متأخراً دوماً ولا تسمح له بإعادة الانتظام، ما يسفر عن الكثير من الركض ومحاولة تدارك الأخطاء، انزلاق، شد، دفع، انعدام تفاهم وارتجال يقابله ارتجال فتحدث فوضى عارمة في خطوط الخصم على المستوى الجماعي. وهنا تتجلى جودة اللاعب وجودة الفريق، باتخاذ قرارات صحيحة وبالطبع تنفيذها بصورة صحيحة، ولهذا إينييستا هو سيد المساحة والوقت، “إينييستا هو اللعب التمركزي مجسداً”، ونفسه أوسكار كانو يقول عن إينييستا أنه هو اللعب التمركزي بذاته. وعلى مبدأ الهولوغرام عند موران، إينييستا ككسرة هولوغرام يحمل تفرده دواخلها… هو صورة مصغرة للعب التمركزي، بتصرفاته التي تضيف بعداً آخر للفريق، هو يحسن من زملائه، يربط بين زملائه ويطور شبكات الاتصال لمن هم حوله، وليس بينه وبينهم وحسب.

كما ذكرنا في المقال السابق، الحركة قد لا تفيد اللاعب نفسه، وبقصد أو بدون قصد قد تظهر المساحات بأماكن أخرى. الحركة ضرورية خصوصاً في الثلث الأخيرة لهز دفاعات الخصم. وأحياناً عدم الحركة مفيد للفريق، نرى دافيد فيـّـا في اللقطة اكتفى بالوقوف بعيداً، مهملاً من الخصم، ولكنه مع تواتر اللعب أصبح ضلعاً أساسياً في تسجيل الهدف الثاني. مثلما رأينا مراراً أن إينييستا لا يجري كثيراً بل يعدل وضعيته، يعدل تموقعه. هذه التفاصيل الدقيقة والتصرفات على المستوى الصغروي/المايكروي تقوم بغربلة على المستوى الكبروي، وقد تكون تلك محددات المباراة، اللمسة التي لا تبدو شيئاً جللاً قادرة على التأثير -كعلاقة ارتباطية وليس كعلاقة سببية- على الحاصل النهائي للهجمة، وربما للمباراة. هنا يقف المدرب موقف المتفرج، فلا يسعه تحفيظ اللاعبين الذكاء والدهاء الإبداع والابتكار والخيال، ولا يسعه اقتلاع اللايقين واللاتنبؤية والعشوائية من اللعبة، لكنه قد يقلصها بإفراط فتغدو فرقه ميكانيكية، والمدرب هنا يصبح عالة. لأنه يرى الكل ولا يرى الجزء، فيلغي الفرد، ويصبح رقماً فقط، وليس قيمة إبداعية. يقتبس كازا بازيلي لمانويل كوندي شارحاً أن الفريق الذي يتمتع بتناغم عالٍ سينمو، وسيخلق شفرة تكتيكية كونية لتأسيس توظيفه الجماعي دون تقييد أي لاعب، أن تعطي اللاعب على قدر ما يستطيع وبحريته النسبية. هنا تمكن قوة الفرق، في تفاعل الأفراد: فعل بالتزامن مع فعل؛ أقوم بكذا وزميلي يقوم بكذا، والثالث يقوم بكذا، عندئذٍ تتأسس اللغة المشتركة اللاواعية، وكلما استوعب اللاعب اللعبة كلما تيسر له التفاعل، وكلما يسّر للآخرين التفاعل. ومن ثم يتقلص اللايقين والشواش، ليس مسحها، لأن مسحها ضرر وتركها ضرر.
“إينييستا يستطيع اللعب بدون ميسي لكن ميسي لا يستطيع اللعب بدون إينييستا. […] ميسي يقوم بأفضل الألعاب والحركات، إينييستا هو أفضل لاعب في العالم.” -خوانما لـيّو
بالنسبة لمينوتي فـ “برشلونة عبارة عن إينييستا و10 لاعبين آخرين.” قد يبدو من المبالغة أن يعتبر المدرب الفائز بكأس العالم 78 أن إينييستا هو أفضل لاعب بالعالم وليس مواطنه ميسي، ولكن في سياق آخر قد تجلو العتمة عن تصاريحه السابقة بقوله: “بالنسبة لي ميسي لاعب عظيم في الـ15 متراً الأخيرة ولاعب مليء بالأخطاء عندما يعود 50 متراً للخلف.” ميسي خارق، فنياً وتكتيكياً، سرعته، ولكن على مستوى استيعاب اللعبة هو ليس كإينييستا أو تشافي، ظهرت براعة الأخيرين مع المنتخب بوضوح فهما بصحبة بوسكيتس في وقت ما، أو سينّا أو سيلفا طرزوا سياقاً يعزفون به سوياً، بتناغم وهارموني ليس لها مثيل، ليس هناك ميسي، قد يذهب بمغامرة لوحده -ليس لوحده بالضبط كما ذكرنا- ولكنهم سوياً صنعوا الكائن السوبر. تضافرت تلك المواهب التي “لا تبدو خارقة” لكي تنتج كلاً أكبر من مجموع أجزائها. فيما يجد ميسي صعوبة في فريق مشكلٍ من آحاد، هو يتصرف وحيداً، وليس هنالك سياق (أسلوب لعب) يبرز ما لديه. لذلك قد يظهر أبرع البارعين بأداء رتيب أحياناً في فريق ليس بـ”فريق”، ويظهر العادي بارعاً في فريق يصح تسميته بالفريق، ولا أجده إلا أمراً مثيراً للسخرية والامتعاظ بآن أن يعجب الكثيرون بإفراط ببعض اللاعبين الذي يأدون أداءً مميزاً في موسم ما، أو ضمن ظروف وسياقات خاصة، ثم ينتقل بمبلغ وقدره ولا يكاد يمضي الوقت إلا وهو كبقية اللاعبين بل وقد يقابل بالسخط، قد يكون مميزاً فعلاً ولكن الظروف الجديدة لم تخدمه، أو قد يكون عادياً والظروف السابقة خدمته، أو ببساطة قد يحتاج للوقت. لذا لا يرى مارتشيلو ليبي أن الأفضل كفرد هو من يلعب أو يُنتقى، بل الأفضل للفريق. ولا غرو أن الأمر يسهل عندما يضم المنتخب لاعبين من فريق واحد، متفاهمين ومنسجمين ويعرفون بعضهم البعض.
يبحث الفرد عن مصالحه الشخصية في المباراة، يقل ذلك أو يزيد ولكن كل لاعب يريد الكرة، يريد أن يكون أحد أضلاع المجد، ولكنه من حيث لا يدري قد ينفع فريقه، هذا الصراع الداخلي بين الإيثار والأنانية وبين “نحن” و”أنا” من شأنها أن تضيف للفريق؛ مهاجمٌ يتحرك نحو المرمى طالباً الكرة فإذا به يسحب الظهير فاتحاً المجال للجناح. المهاجم يريد التسجيل، ربما يريد المجد الشخصي ولكنه إن سجل فالمصلحة هي الفريق، والمنفعة تبادلية. قد تتسبب الأنانية بزعزعة تماسك الفريق، يتحرك اللاعب نحو الكرة باحثاً عنها، مظهراً انعدام الثقة بزملائه في الخلف وضارباً بأصول التمركزية عرض الحائط، لكن الفرد والفريق يمكن أن يتعايشان، فمن سيشكل الفريق؟ وأين الفرد كحقيقة تكتيكية؟ وكيف سيعيش الفرد بلا زملاءٍ يمدونه بالحلول ويتوزعون على بقاع الملعب، ويتبادلون المهام وتتقاطع مصالحهم وتتأثر قراراتهم بقرارات الآخرين؟
اترك تعليقًا