المنطقة؛ الهجوم في الدفاع…

تدور الأرض حول نفسها فيولي جانبٌ منها شطر الشمس، فيما يرخي الليل سدوله ويحل الظلام في الجانب النائي عنها، هكذا تحدث ظاهرة الليل والنهار، فلا ينتفي وجود الشمس بحلول الظلام، بل والأصل في الكون الظلمة الحالكة، إنما حلول النهار عرَض وحادث، ولكننا ضمن النظام الشمسي وندور حول الشمس، والشمس عطفاً على ذلك هي المركز الذي يحدد تعاقب الليل والنهار. الكرة هي مركز اللعبة، وهي التي تحدد تعاقب حالات اللعب، وهي التي يولي اللاعبون وجوههم شطرها، إذ يتنازع الفريقان على امتلاك الكرة محاولين زجها بشباك الفريق الآخر. الحالتان ليستا منفصلتين بل موجودتان في ذات الأثناء، هما صفتان أو حالان للعب، واللعبة جوهر واحد وسيرورة تواصلية، وليست جوهران منفصلان. فاللعبة ستبقى كما هي سواءً امتلكت الكرة أم لا، والشمس موجودة حتى وإن حل الليل حيث تطل على جانب آخر من الأرض، ونرى نورها منعكساً على القمر، وهذا من وجه. والفريق المهاجم -من وجه آخر- يدافع بشكل ما، والفريق المدافع يهاجم ضمنياً، الدفاع يحدد الهجوم والهجوم يحدد الدفاع، هناك تبادل تأثير دائري بين الحالات وبين الكل والجزء، ذلك لأن اللعبة انسيابية وذات تدفق مستمر.

هذا المقال يتصل بالمقال السابق لأنه ببساطة يقع تحت مظلة كرة القدم، غير أنه عندما نتغور في أعماقها ستبدأ عناصر أساليب اللعب بالاختلاف، أي ستتباين أشكال وألوان الهجوم والدفاع ولكن كأعراض، كإضافة الألوان على القماش، إذ سيبقى القماش على خامته قطناً كان أو حريراً مهما كُسي من ألوانٍ وحليّ، وهذا على سبيل التقريب. غير أننا سنتناول الحالة الدفاعية على العكس من المقال السابق، دون فقدان الصورة الكاملة ودون التغافل عن تكامل الحالتين؛ فبالنسبة لساكي أو غوارديولا أو كلوب فالحالة الدفاعية لها صبغة ونوايا هجومية، بحيث يكون الدفاع دفاعاً فاعلاً يضغط باستمرار ويحاول خنق خصمه أينما كانت الكرة، وتمتلك فرقهم خاصية الانسياب من الدفاع للهجوم كعكس ذلك. وكون كرة القدم تنطوي على حالتين رئيسيتين “متكاملتين” فستتطلبان تنظيماً بدئياً. بينما يصعب في واقع الأمر التحكم في الحالات التحولية البينية، فقد علمنا في المقال السابق أنهما أولاً رهن هيكلة مسبقة، ورهن استجابة سلوكية ثانياً. لكن كما نعلم هناك تمظهرات وتجليات مختلفة لكل أسلوب، فالأسلوب التمركزي لدى كرويف ليس هو نفسه عند ميخلز، وليس هو نفسه الخاص بفان خال، وكذلك ليس هو نفسه لغوارديولا، وليس هو نفسه تماماً في بايرن بيب أو برشلونة بيب، لأن المدرب قد تكون له يد على المستوى الكبروي، الذي من شأنه التأثير على المستوى الصغروي؛ أي اللاعب، واللاعب بدوره يضفي ويفرز الجديد ويجوّد من الأسلوب ومن زملائه (المستوى الكبروي). فاختلاف اللاعبين يغير حتماً من الأسلوب، ليس كمدخل من المدرب كمُرسِل (للمعرفة والمعلومات)، بل كمُخرَج مترجم من اللاعب بوصفه مستقبٍلاً لتلك المعرفة، ومن ثمَّ يضيف اللاعب على ما عرف إبداعاته وابتكاراته وحلوله. وعلى الرغم من اختلاف اللاعبين عن بعضهم البعض إلا أن اللعبة ستبقى هي هي، توقيت، مساحة، تمركز، دقة. وكذا الشأن بالنسبة لغوارديولا أو ساكي فأسلوبهما لا يتغير، ما يتغير هو تعبير اللاعبين عن هذا الأسلوب، خصوصاً إذا توافق اللاعب كخصائص وكاستعداد مع المدرب.
ونحن إذ نشير للعب التمركزي لا نشير إليه كأسلوب حصري لمدرب دوناً عن غيره، إنما هي بارادايم مليئة بالمبادئ والمفاهيم الكروية، تقل في فريق أو آخر، تتبدل المفاهيم ويشدد على مفهوم دون مفهوم آخر، ولكنه أسلوب لعب إذا ما أتقن بالكامل سنرى فريقاً صعب المراس. لو تتبعنا الجذور في أسلوب غوارديولا لوجدنا أنه مزيج من كرويف وساكّي، فالاثنان أسسا فرعين للكرة الشاملة عبر رائدها رينوس ميخلز، فكرويف راهن على الاستحواذ وخلق اللعب وتوسيع الملعب، فيما طور ساكي آليات الضغط والخط العالي ووحدوية اللعب، بحيث لا يكاد يختلف الهيكل الهجومي عن الدفاعي ومع ذلك فسيحتفظون بالانتشار الملائم، كما تتسم كرته بنسق أسرع وحالة حوارية مع الخصم وأقل من ناحية الهيمنة. يشابه بيب ساكّي كذلك في الصرامة وأولوية الجماعة على حساب الفرد، لربما كان ذلك من تأثير فان خال حيث تدرب على يديه كما نعلم، ولكن لفان خال أسلوب آخر في الحالة الدفاعية وتأويل مختلف أيضاً في اللعب التمركزي. اللعب التمركزي يشمل جميع الحالات، دفاع المنطقة يشمل جميع الحالات، فإذا كان هناك هجوم تمركزي فهناك دفاع تمركزي، وإن كان هناك دفاع منطقة فهناك هجوم منطقة، بالنهاية هي كرةٌ شاملة في أحدث إصداراتها، وأياً يكن المسمى تنطلق هذه الأساليب من منطلق أن كرة القدم لعبة جماعية، تتخطى الآحاد ويصبح الفريق “مجموعة دائمة التطور، يشارك فيها الجميع في المراحل الدفاعية والهجومية، وتكون متعددة المقترحات، مرتبطة بخيط غير مرئي ألا وهو اللعب.” هذا ما يراه ساكي، أما كرويف فيزعم أنك إذا ما انتقيت أفضل 11 فرداً فسينتهي بك الأمر بأفضل فرد وفرد وفرد … الخ، وليس أفضل فريق؛ كوحدة متجانسة ومتحدة الهدف. وإذا دربت 11 لاعباً يتحدثون ذات اللغة وقادرون على التواصل عبرها سيحدث التآزر والتعاضد، والأثر المترتب سيكون كلٌ جديد مختلف وأكبر جراء تفاعل العناصر وليس مجموع العناصر متفرقة، فذرة أوكسجين على حدة وذرة هيدروجين على حدة لن تصنع ماءً، ولكن عندما تتفاعل هذه العناصر سينبثق الماء وسيكون المركب.

دفاع المنطقة أسلوب جماعي

وصلاً للحديث من حيث انقطع وانتهاءً بالفقرة السابقة علمنا ما تعنيه عبارة الكل أكبر من مجموع الأجزاء، إذ تصبح خواص المنتج المنبثق شيئاً جديداً مختلفاً عن العناصر، ويصبح التعاضد بين الأجزاء/الأفراد أقوى وأكبر نوعياً كما يصفُ الشاعر: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا ـــــــ وإذا انفردن تكسرت آحادا. كرة القدم وحدة “متعددة” الأبعاد وليست وحدة “مدمجة” ببعد واحد كما يحدث في المركب الكيميائي مثلاً، وبالطبع كما هو بديهي فلن يندمج ويتمازج اللاعبون ببعضهم البعض كما يحدث فيما بين عناصر الماء؛ فاللاعب قائم بذاته، وبذا ستبقى هوية كل لاعب وسيكون هناك تعبيره الذاتي ضمن الهوية الكبرى “الفريق” وضمن النظام المتداخل العناصر والمُتبادَل التأثير. فمعلوم كما ذكرنا مراراً أن الجزء يؤثر بالكل والكل يؤثر بالجزء، قد تخفت عيوب الفرد ضمن فريق بأسلوب وثقافة كروية جيدة، وقد يضيف الفرد للأسلوب جودة وجِدّة وابتكار ولكن بقدر ضئيل لأن النظام هو ما سيطغى على الجزء الذي يؤدي وظيفة بحدود قدرته داخل هذا النظام. ولكن هذا القدر الضئيل في تسلسل اللعب سيكون هاماً، وإذا تصرف كل لاعب بشكل جيد وذكي، أي قدر ضئيل مضافاً على قدر ضئيل، مضافاً على قدر ضئيل… فالثمرة المحتملة: فريق قوي.

ما هو دفاع المنطقة؟

سبق وأن صنفت مقالاً يتحدث بالتفصيل عن دفاع المنطقة الخاص بجامباولو وسارّي، وديل نيري من قبلهم. وهو بالطبع تطورٌ عن منطقة ساكّي بمفاهيم أكثر صرامة على مستوى التمركز، فاللاعبين لا يولون للخصم أهمية مثلما يولونها للمساحة والمنطقة حول الكرة. في هذا المقال نحن نتحدث عن دفاع منطقة أعمّ يشمل عدة أشكال ويبرر مسوغات الأسلوب وأفضليته النسبية، تلك المفاهيم المذكورة في ذلك المقال باقية كما هي، فبإمكانكم الرجوع إليها إذ سنشير إليها كإشارات ولن يكون المقال تكتيكياً/استراتيجياً بحتاً بل مقالاً “كروياً” يشمل البعد التكتيكي والاستراتيجي وبقية الأبعاد كما نطمح، ذلك للإحاطة فالحديث تكتيكياً لا ينطوي على 4-4-2 وبعض الأسهم كما يقول خوانما لـيّو، فإذا لم تتواجد هذه التوضيحات غاب عن البعض المراد.

نُسِب ابتكار أو اكتشاف دفاع المنطقة للعديد من المدربين، ولكن في الحقيقة دفاع المنطقة ليس اختراعاً، بل تواجدت هذه المفاهيم بوجود اللعبة، فما حدث هو أننا نسميها بأسماء. ومن ثمَّ يصوّغ المدربون آليات أفضل كحلول عند تحليل تصرفات اللاعبين المميزين والفرق المميزة، وبذلك يحاولون تحسين جودة التمركز سواءً على مستوى الفرد أو الفريق. يرى خوانما ليـّو أن دفاع المنطقة هو السلوك الفطري ولكن بعض المدربين هم من يشوهون اللاعب بدفاع الرجل لرجل. أختلف مع لـيّو هنا نوعاً ما، فأرى الصغار يميلون لمراقبة خصومهم ويطلبون من بعضهم البعض المراقبة واحد لواحد ولكن مع ذلك فبعضهم قد يقف بموقعه كدفاع المنطقة، وأحياناً يتجمعون حول الكرة بعشوائية. هذا النوع من الدفاع -أي المنطقة- قد ينتج عن انتظام ذاتي تلقائي إذا ما كان اللاعبون أذكياء، غير أنه كي يُتقن فنحن بحاجة لفبركة وصناعة في ملعب التدريب.

دفاع المنطقة هو نظام أو استراتيجية دفاعية يحاول فيها الفريق استعادة الكرة عبر نصب كتلة أمام الكرة تتنقل معها ذات اليمين وذات الشمال، صعوداً وهبوطاً. يتوزع اللاعبون بشكل معقول لتشكيل السد؛ أو بصياغة أخرى يتدرج اللاعبون في التمركز ولكل لاعب موقعه ضمن الشكل المتنقل/الديناميكي دونما أي اعتبار للمنافسين إلا حالة كان داخلاً في الهجمة. وبما أن الكرة تتحرك فالكتلة كلها تتحرك وتتموج كسرب. كلمة “المنطقة” تشير إلى منطقة الكرة وليس إلى منطقة محددة، لذا فاللاعب ليس مسؤولاً عن منطقة بعينها إنما يكون مركز اللاعب داخل الملعب ديناميكي وغير ثابت، فتموقع اللاعب مناطه حركة الكرة. نَصّ نظام المنطقة في بداياته -كنظام مُدرَّب- على أن المدافع يراقب المهاجم داخل منطقته، إذ لن تسند له مهمة اللحاق بلاعب محدد حتى وإن خرج من منطقته، واليوم ليس هذا هو الحال بالضبط، وإن كان هذا أحد درجات الدفاع الجماعي، ولكن في النظام الحديث يتموقع كل لاعب وفقاً لمكان الكرة أولاً وزميله ثانياً والمرمى والمساحة بعدئذٍ، أما المهاجم حتى وإن دخل ضمن منطقة المدافع المؤقتة فلا يجب مراقبته إلا حالة كان داخلاً في الهجمة، أي كخيار تمرير محتمل. يعرّف مورا ومارتزيالي دفاع المنطقة على أنه “عبارة عن تكتيكات دفاعية غايتها استعادة الكرة؛ وبهذا السياق ينبغي أن يخالج حامل الكرة إحساسٌ بأنه يلعب ضد 11 لاعباً. وكنتيجة ينبغي أن يغطي كل لاعب منطقة محددة دون انفكاك عن مكان حامل الكرة، وعن الكرة ذاتها.” في هذا النظام يعمد الفريق تضييق وتقليص مساحة اللعب، الأمر الذي سيرفع نسق اللعب وبالتالي يُجبَر الخصم على اتخاذ قرارات سريعة ما يُسفر أيضاً عن ضيق الوقت، إذ أننا في دفاع المنطقة “نحاول بأكثر الطرق معقولية معالجة أهم نطاقين في كرة القدم؛ الزمان والمكان”، وفقاً لفيكتور فيرنانديز مدرب سرقسطة السابق.

“في مرحلتي الدفاع والاستحواذ، أعتقد أنه من الضروري أن يكون الفريق قصيراً وضيقاً. عند الاستحواذ، نظام لعبي قائمٌ على التزامن/التناغم والتوقيت. إننا نتخلى عن المساحات، وسيصعب الوصول (استقبال الكرات) بحالة حركة. ولكن الخصوم سيجدون صعوبة في التعامل معنا. يجب ألا تزيد المسافة بين من يمتلك الكرة وبين المستلم بشكل عام 12 أو 15 متراً. إذا كانت المسافة أكبر، فستكون التمريرات أقل دقة، وستكون غالباً عالية أو بطيئة، وسيكون المستلم معزولاً. بالإضافة إلى ذلك، كلما زادت المسافة (عن المرمى)، كلما قلّ خوف المدافع من التعرض للهجوم من الخلف… فلديه ثلاثون أو أربعون متراً للتصرف.” –أريغو ساكي

تتسم الفرق المطبقة لدفاع المنطقة بتقارب الخطوط وقصر المسافة بين خطوط الفريق عرضياً وطولياً أو كما يسميه ساكّي الفريق القصير squadra corta، ذلك أننا في حالة الدفاع ننكمش حول الكرة. وعلاوةً على ترابط خطوط الفريق تتمتع الفرق المطبقة لنظام المنطقة بوفرة اللاعبين قرب الكرة، كما يمكن التكيف أمام أي خصم لا الانصياع لهم أو محاولة مطابقة الخصم كما في دفاع الرجل لرجل، إذ أن أولويتنا الدفاع عن النفس بالنفس دون القلق بشأن الخصم بل للمساحة والمرمى ومكان الكرة في المقام الأول، فإذا نزعنا المساحة والوقت من الخصم فسنُبشر بطول سلام من أي خطر.

المبادئ والمفاهيم

التعاون والتنظيم ضروري في دفاع المنطقة حيث:

1) يحتفظ كل لاعب بمركزه ولا يقفز على زملائه، فالضغط المزدوج على سبيل المثال لا يطبق إلا حالة التفوق العددي، عدا ذلك فقد تظهر الثغرات في مساحات أخرى، وعطفاً على ذلك فالأولى لنا هو تغطية المساحات، ولذا هناك توزيع مكاني وإلا لاختلط الحابل بالنابل؛

2) سنعرف من نقطة “1” أن حركة كل لاعب مرتبطة بحركة زميله بإزاء الكرة؛

3) وحركة كل خط مرتبطة بالخط الآخر، والخط يشد الخط؛

4) والكرة تجذبنا معها، وهذا مايعرف بالامتطاط أو التمغنط الدفاعي، حيث:

أ- حالة استطاعة حامل الكرة لعب كرة للأمام ينبغي أن يعود الدفاع أدراجه، ما يعرف بالكرة المكشوفة. ب- وحينما لا يستطيع القيام بذلك تسمى كرة محجوبة؛ كأن يكون حامل الكرة تحت الضغط أو ظهره لمرمى فريقه فالفريق يبقى ثابتاً ولكن بوضعية استعداد حال انكشاف الملعب وقدرة حامل الكرة على تهديدنا. د- عندما تُلعب الكرة للخلف بالنسبة للمنافس أو تلعب عرضياً يتقدم خط الدفاع، وهذا تلقائياً سيضع المهاجمين في موقف تسلل.

“يتطلب الضغط فريقاً متراصاً ومنظماً، وفي الآن ذاته -من ناحية أخرى- من الضروري الانزلاق والإمالة بزوايا قُطرية. كمُن الإشكال في جعل لاعبي كرة القدم الذين يجرون للخلف يتقدمون إلى الأمام. يمكنك التقدم للأمام فقط إذا كنت منظماً وتعرف متى وكيف تفعل ذلك. كان الهدف هو التفوق العددي دائماً بالقرب من الكرة.” -ساكي

قبل الضغط نحن بحاجة لفريق متضام ومتراص ومتوازن لأقصى قدر ممكن كما رأينا في النقاط الأربع السالفة؛ دفاع المنطقة يعني الضغط المتواصل والموقف الهجومي من الدفاع أو كما يقول ماتورانا دفاع المنطقة يجعل الدفاع فن الهجوم، أي أننا نتخذ موقف المبادرة والهجوم في الحالة الدفاعية بلا كلل ولا ملل من الضغط، فإذا أردنا السلم ينبغي أن نستعد للحرب، وفي كرة القدم ينبغي أن نهاجم على هجوم الخصم. ولكن ثمة أسس للضغط، حيث:

– يضغط اللاعب عندما يكون هو أقرب لاعب للكرة ضمن نطاق منطقته المؤقتة/الآنية؛

– ضمان توفر التغطية والتدخل فور تخطيه؛ أي توفر القطريات والهرميات؛

– توفر التوازن حيث يغطي اللاعب الثاني لاعباً ثالثاً كذلك وهكذا. سيبقى الفريق متزناً بهذا الشكل طالما امتلكنا قابلية التغطية واتخاذ الفريق تكتل في عمق الملعب وجِهة الكرة وإغلاق الطرق المؤدية للمرمى.


مما سبق ينبغي أن يضغط اللاعبون في الوقت المناسب وفي حال توفرت الشروط لذلك:

أ) استعدادية اللاعب وتغطيته لظهره وإغلاقه منافذ عبور الكرة؛ ب) تأهب الفريق وترتبهم؛ جـ) مثيرات ومحفزات الضغط فردياً؛ د) مصايد الضغط جماعياً مرتبطة بالنقطة “ب”. وحينما نكون في حالة نقص عددي، لنقُل 2 ضد 4 فالأولى الانسحاب للخلف وانكماش الثنائي للعمق وتأخير الخصم، وفي حالة كان الفريق متقدما ينبغي الضغط على الكرة وتأخير الهجمة لحين عودة الزملاء وهكذا.

المنطقة تتعامل مع لا خطية كرة القدم وتعقيدها

دفاع المنطقة كاللعب التمركزي هو أسلوب عام، يضم العديد من المبادئ والمفاهيم الدفاعية، بل ينتشر دفاع المنطقة اليوم أكثر من أي نظام آخر، فالدفاع الجماعي مرتبط بدفاع المنطقة الذي يكون امتداداً للعب التمركزي وهما وجهان لعملة واحدة، ففي الهجوم نحاول توفير حلول وعدد حول الكرة، وفي الدفاع نحاول تكثيف الحضور أيضاً حول الكرة وقطع سبل مرورها بين خطوطنا. تطبق الفرق هذه المبادئ برؤىً مختلفة وتغليب مبادئ على مبادئ أخرى، وكونه عاماً لا يعني أنه سهل التطبيق بحذافيره، صف اللاعبين فقط بخطين مؤلفان من 4 لاعبين ومهاجمين أمامهما لا يعني إتقانه وضبطه، بل أن غالبية الفرق تطبقه بشكل سلبي ساكن فاقدة للحيوية ما حدا بالبعض اختيار الرقابة رجل لرجل لضمان الحيوية والاستباق والفعل وهو ليس دقيقاً -كما سنرى- بوجهة نظرنا. يمثل هذا الأسلوب خط التعقيد في كرة القدم، بالضبط مثل اللعب التمركزي، إذ تحاول التعامل مع التعقيد، تحاول التعايش معه، لا تبسطه، فهي تضع أمام اللاعب جميع المتغيرات والاحتمالات للتعامل مع هذا الواقع، لا تفترض أن المباراة عبارة عن آحاد مقابل آحاد، أي 1 ضد 1، بل أكبر بكثير من ذلك، فهي لا تخنق اللاعب ولا تضيق أفقه بمراقبة اللاعب المنافس، ولا تفترض أنه بمراقبة اللاعب ستتقلص ريبية اللعبة وستنحسر اللاتنبؤية، لأنه إن لم يفُتْك اللاعب فسيفوتك كل شيء آخر، المراقبة رجل لرجل مفهوم داخل المنظومة وليس خارجها، مضمومة في كنفها. المراقبة جزء من الدفاع وليس الدفاع نفسه، هو تكتيك في استراتيجية.

في المنطقة يعمل الفريق ككل، كوحدة تتنقل مع الكرة، تتحكم الكرة بتحركاتنا وسنحاول التحكم بتوجيهها، سنحاول إرغام الخصم على اللعب بسرعة بخنقنا إياهم زماناً ومكاناً، سنقطع مسارات وزوايا التمرير، سنحاول -بلا يقين- توقع مسار الكرة، سنحاول التعامل مع خيارات التمرير المحتملة، هنا قد وضعنا باعتبارنا عشرات الاحتمالات، ولم نقم بوضع لاعب أمام لاعب وحسب. وعندما يحدث خلل فالمجال للتعويض متاح، هناك ترميم ذاتي في حال تم تخطي اللاعب، هناك تغطية متبادلة، فمجال التعويض وتدارك الموقف لا زال متاحاً واللعبة مفتوحة على جميع الاحتمالات، فلسنا نلعب الشطرنج مثلاً، حيث لا يمكن استرجاع القطعة المفقودة ولملمة الثغرات. يزعم ساكي أن 5 لاعبين منظمين قادرين على دحض خطر 10 لاعبين، لأنه بدحض المساحة والوقت ندحض الخصم إلى حد كبير. فالظهير يخرج للضغط ويتبعه القلب مغطياً إياه ويمنع بتموقعه أي مسار قُطري للكرة، وحين تدخل الكرة للعمق عرضياً يخرج هو للضغط ويقوم الظهير بالضم للداخل ومجاورته، والقلب الآخر سيُبقي بصره على الكرة وسيتوقع مسارها وسيرى المهاجم وسيقف على الخط مع الظهير لتغطية القلب الضاغط وسيضع جسده بهيئة جانبية مطواعة وحية تمكنه من الدوران كي يركض نحو المرمى إذا استطاع حامل الكرة التمرير للمهاجم المنطلق. والأمر ذاته يطبقه بقية اللاعبين أسوة بالقلب الأخير. بإيصاد العمق ومهما كان العدد في هذه الحالة، لنقل 4 أمامهم 5 مهاجمين، ليس ثمة حلول إلا بينياتٌ لن يتيقّن حامل الكرة من إيصالها، ذلك لأن الخط المتباين الشكل والمتعرج بين المدافعين -على شكل هرمي- قد يَحُول دون وصول الكرة للمهاجم، وقد يضطر للخروج بالكرة إلى الطرف. من هذا المثال نرى أن اللاعب المدافع يتعامل مع سيناريوهات مختلفة، وليس متوقفاً على المهاجم، وإنما على عدد من العوامل في ذات الأثناء: كرة، زميل، مساحة، توقيت، منافس، مكان المرمى. ولهذا هي تتسق مع تعقيد اللعبة، لا تختزلها في لاعب ضد لاعب، ولا تحاول حجب التعقيد المتأصل في اللعبة. بل يبعد بنا خورخي فالدانو زاعماً أن “العظمة في كرة القدم ممكنة فقط بمراعاة نظام المنطقة.”

الدفاع مسؤولية جماعية

“المفهوم هو: كن متراصاً لتحسين التعاون والتواصل. أحد عشر لاعباً نشطاً بالكرة أو بدونها؛ هذه هي الطريقة الوحيدة للشعور بأن المجموعة أو الكتلة متحدة.” -ساكي

“المنطقة […] هو أن تدافع كنسيج حيوي وليس كمجموعة من الخلايا. في النسيج الحيوي، الفردية الخلوية تمتزج في المجموعة، والفرد موجود فقط في الكل، خارج ذلك، هو مجرد ضوضاء!” -جوليو غارغانتا

دفاع المنطقة دفاع عضوي وليس نتاج جودة لاعبٍ ما، لذا فهذا النوع من اللعب أو أي أسلوب جماعي هو صناعة لكائن خارق وانبعاث لقوة إضافية. ففي كرة القدم نحن بحاجة للذكاء الجماعي، يبزغ من ذكاءات الأفراد الذين تتباين مستويات الذكاء والنباهة لديهم، والإنسان مخلوق ذكي ويكون اللاعب أبرع كلما كان أذكى، وينخفض أداءه كلما انخفض ذكاءه. اللاعب المميز أو النجم المعروف جماهيرياً قد يبرز أكثر عندما يكون مضطلعاً بشكل مباشر بالكرة أو يكون حائزاً عليها، سواءً كمهاجم أو مدافع، لذلك تبرز عيوبه التكتيكية بعيداً عن الكرة أو عندما لا يكون في لحظة ما ليس متداخلاً في الهجمة، ولذا ربط جودة الدفاع كنشاط جماعي بجودة لاعب واحد رأي لا يمت للصواب بصلة. ولذلك نرى فرقاً متوسطة الجودة أو أدنى تبدو وكأنها قوية أو حتى فرقاً قوية تظهر بشكل أقوى مما هي عليه حينما لا يكون الفريق آحاداً وحاصل أجزائه فقط. يؤيدنا كانييدا قائلاً بأن دور المدرب هو “تزويد الفريق بمنظومة بحيث تتجاوز قيمة المجموعة (ككل) مجموع القيم الفردية”؛ قد تتخطى الفرق المُدربة والمتفاهمة جيداً قوة الأفراد كل على حدة، لذلك فلو جاز لنا سؤال من أولـﮯ بالعمل الجماعي والإعداد التكتيكي والاستراتيجي الجيد؟ سنقول الفرق الضعيفة أو الأقل على المستوى الفردي. والحق الحق أقول لكم، ما يبهرني في غوارديولا هو أنه يدرب فرقه وكأنها فرق متوسطة المستوى، رغم أنها ستفوز به أو بدونه ولكن هيهات أن تكون بهذا الاقناع والوحشية وأفضلية الدخول للمباراة أمام خصوم مرتعدة، وهي أفضلية لأن غالب الخصوم يدخلون المباراة خاسرين سلفاً. إننا نرى بعض الفرق الممتلئة بالنجوم والإيغو والأنـــا غير مميزة جماعياً مهما بلغ المدرب من جودة، لأن الفردية طاغية وقابلية التعلم منخفضة.

المراقبة جزء من دفاع المنطقة

لا يمكننا اعتبار مراقبة المنافس مضاد لدفاع المنطقة بل عنصراً من عناصر الدفاع ليس أكثر، ولا أعتقد أن لطريقة أسبقية على الأخرى، والطريقتان ليستا بمنفصلتين، أقول طريقة لأن الرجل لرجل لا يصح تسميته بنظام، فالفريق فاقدٌ للنظام، ذلك أن اللاعب يتصرف كفرد دونما اعتبار لزملائه ولمكان الكرة، أو بأشكال أقل صرامة حينما تكون هذه المرجعيات -أي الزميل والكرة- مرجعيات ثانوية. لا يجب أن نقع بخطأ الثنائية إما منطقة أو رجل لرجل، فهما مكملان لبعضهما في كرة القدم، يحسن بنا التوفيق بين الطريحة والنقيضة -إذا كان هناك ثمة تناقض-، فيتعين علينا تصور/تدريب الفرد النسبي، ذلك الجزء المتصل بالكل، ذلك الذي يتخذ قراراته وفقاً لزملائه والخصم والكرة والمرمى؛ أي اللاعب الشامل الذي يتخذ قراراته من تلقاء نفسه، الذي يعرف متى يراقب ومتى يبقى، متى يستبق ومتى يتريث.

لدفاع الرجل لرجل مثالب، كسهولة سحب المدافعين من مراكزهم وخلق مساحات. وثانياً شبه انعدام التكاتف جماعياً بما أن كل مدافع مهتم بمراقبة خصمه المباشر، وثالثاً سيترتب على النقطة السالفة قلة الترابط وخصوصاً عرضياً لأن الفرق هنا تدافع على مساحات متفرقة وتدافع توافقياً أي أن كل مدافع/لاعب يقترب من اللاعب الذي يتوافق مع مركزه؛ القلب مع المهاجم، الظهير مع الجناح وقس على ذلك، أي أننا توائمنا مع شكل الخصم الهجومي وسعينا أن نجيء على مقاسهم. وأخيراً نحن فصلنا الدفاع عن الهجوم وأصبحنا بالمراقبة ندافع من أجل أن ندافع، حتى وإن كان الفريق هجومي مبادر، لذلك تصبح التحولات عسرة وتتطلب مجهود مضاعف، لأن حالة التشتت من فرط التكيف مع الخصم لن يضفي سلاسة في التحول، ذك أن الفريق غير مترابط.

هناك للفرد الكلمة الفصل، جيداً كان أو سيئاً وستقل لديه قراءة اللعب وسيقل التعقيد إذ سيحاول إيقاف اللاعب أمامه وحسب؛ أي تم اختزال الدفاع بواحد ضد واحد، فإذا أُوقف اللاعب ستُدحض المساحة والوقت وكل تبعات ذلك، على مبدأ أن الكرة كي تدخل المرمى يجب أن تُركل نحوه، سيبدو وكأنه ناجع وفعال ولكن بالنسبة لكارلوس كارفالهال ليس هذا هو الحال: “لا، (ليست فعالة) لماذا؟ لأن الرجل لرجل والرقابة الفردية ذات خطر محدق. في المنطقة هناك تعاون ومساندة، هناك تبوء ذا فعالية للمساحات. وإذا ما اتقنت الإمالات والتنقلات فهناك كثافة بالقرب من الكرة ولدينا تغطية جيدة للمساحات الداخلية.” ثم يردف قائلاً: “على الرغم من أن الرجل لرجل والرقابة الفردية سهلة التطبيق إلا أنها أقل فعالية من المنطقة.” بالنسبة له هي أقل فعالية وأقل عملاً وأكثر أماناً لبعض المدربين؛ أي الرجل لرجل، هي آمنة لهم عندما يعملون، ولكنها ليست كذلك تكتيكياً حسبما يعرب مدرب براغا؛ “عندما أقول أكثر أماناً، فأقصد بأنه آمن في العمل/التدريب، ولم أقل أنه ناجع…” كما يبدو هو أسهل وأقل تعقيداً لأن التغطية والتعاون، توجيه النظر نحو الكرة، مراعاة الزميل، مكان المرمى، رصد المنافسين، الداخل منهم والخارج، جل هذه العناصر المتداخلة ستُجز وتضمحل. يتضح أن دفاع المنطقة يتطلب عملاً يربط اللاعبين ويناغم بينهم، وليس على غرار الرجل لرجل، فتوكيل كل لاعب بمراقبة لاعب -وإن كان ضمن منطقته- هو توزيع مهام منفصلة، تعتبر -بلا وعيٍ ولا إرادة- أن اللاعب فرد منفصل عن الفريق، فيصبح الدفاع ضمنياً مشكلته وحده، بينما في المنطقة ثمة توزيع مهام ضمن عمل واحد، الهارموني في الموسيقي هو صوتين مختلفين متآلفين في ذات الأثناء لكنهما منسجمين لا يتضادان بين العازفين، ثمة تفاهم بين العازفين ولا يعزف كل واحدٍ كما يرغب ويهوى. فالدانو يدعم هذه الحجة قائلاً أن “مراقبة الرجل لرجل تُباعد بين (اللاعب) وبين الفريق نفسه، ذلك أنها تقلص التعقيد عبر اللهث خلف قميص الخصم”. ولكن اتخاذ الطرق الوعرة والأساليب الجماعية مغزاه مشروع لعب، عدم فهم مشروع المدرب عصف بمدربين كثر، لم يعد يطيق أحد هذه العملية وبالطبع ينطبق الأمر على الأسلوب المتكامل الذي لا يحتمل الاختصار والتقافز، لذا يحترق الكثير من المدربين خلف لهث أنديتهم على أسلوب لعب ضمن فترة وجيزة، بل تضعهم النتائج على مقصلة الإقالة. فلا هي توفر الوقت وتتحمل التبعات، ولا هي توفر اللاعبين المناسبين، ظناً منها أن كرة نابولي سارّي تنطوي على لاعب يجيد التمرير من النقطة أ إلى ب!

نتيجة بحث الصور عن maturana cruijff

“أنا أستمتع بمشاهدة أتليتكو، يتبدّى لي ما أريد من الأسس ومن المبادئ في فن الدفاع. يُبدون لي أيضاً مدى خطأ من يعتقد أن الدفاع يحتاج إلى رجل ضخم يمكنه القفز جيداً، أو الركل جيداً. عندما تنظر إلى الأتليتي، ترى أداء الفريق. أرى ضغط مزدوج (مضاعفة)، انكماش، شراسة، نظام، تقارب…” -فرانسيسكو ماتورانا

لعلاج ضعف غوارديولا الدفاعي لم يكن لكرويف بدٌ إلا تقليص الحمل عليه، والأمر سارٍ على البقية. “الأمر يتعلق بالتنظيم، وأكثر من أي شيء آخر يتعلق بالتمركز”، يكمل كرويف ويضيف “لم أعرف قط كيف أدافع، إذا تحتم علي أن أدافع بمقدار هذه الغرفة وتقدم نحوي أحدهم فلن أجيد، وإذا كان علي الدفاع بهذا الجزء فقط (يشير بيديه بمقدار نصف متر) فلن يمر أفضل لاعب بالعالم، ما أرمي إليه هو أن الأمر نسبي، وما كنا نطلبه من غوارديولا على الدوام هو أن يدافع بمناطق مكتظة، ليس عليك أن تدافع بالمساحات الكبيرة. […] عندما يلعب الفريق متقارب (الخطوط) هذا يعني أن المنافس حال حيازته الكرة مرغمٌ على السيطرة على الكرة بشكل دقيق، فإذا أفلتها لنصف متر فنحن لها”. والمسألة بالنسبة لكرويف لا تنطوي على الجودة أو الضعف أو “إذا ما كنت جيداً أو سيئاً (دفاعياً)، بل بالقدر، بالأمتار التي يجب عليك الدفاع عنها.”

المنطقة والضغط اقتصاد في الطاقة

في المنطقة نحاول إخفاء عيوب اللاعبين/المدافعين ليس بتقليص التعقيد، بل بتقليص الحمل على كل لاعب من المدافعين وحتى المهاجمين، يصبح اللاعب القوي أقوى وأذكى إذا ما أبدى استعداداً، وسيبدو الأضعف أقوى، أو على الأقل سيقل أثره السلبي الذي سيكون واضحاً في الأسلوب الفردي، فسيكون بالأسلوب الفردي عالة على الفريق عندئذٍ، ففي المنطقة الدفاع مسؤولية الجميع، أو بتعبير خوانما لـيّو مشكلة الجميع، فـ “في المنطقة تصبح المشاكل جماعية، كل شيء ينتمي للجميع، ولا شيء ينتمي لأحد”، أي أن الدفاع ليس مشكلة لاعبٍ بعينه كما يخبرنا المدرب الباسكي. من ذلك سيلوح لنا بيت القصيد، فلن يركض أحد أكثر من الآخر إلا ضمن مراكز معينة أو توزيع خططي معين، بيد أن هناك توزيعاً عادلاً للمجهود والكفاح، ليس متساوٍ ولكن هذا ما تقتضيه خصائص كل لاعب، لن يبذل رودري مجهوداً كغوندوغان مثلاً، لأن الأخير لديه قدرات تحمل أكبر ولا يجد عناءً في التنقل بينما الأول قد يُستنزف. بزعم مينوتي “هناك توزيع للمساحة والجهد، كل شيء صالح داخل الفريق؛ بدون ذلك، لا شيء سيعمل”. لكل لاعب قدر ومنطقة يدافع فيها، نحن نتعاون وإن تخلّف أحدهم فالفريق هو الذي سيتضرر، لأن لاعباً ما سيضطر المدافعة بمنطقة أكبر، حينئذٍ سيركض أكثر وسيفقد طاقته، وقد يرتكب خطئاً يترتب عليه أن يركض بعض اللاعبين أكثر وأكثر. فمن أجل مسمار لحدوة الحصان ضاعت المملكة؛ أحياناً ليس الأمر بتلك البساطة، الخطأ البسيط قد يكون وقعه وخيماً إذا ما تم لململته فوراً.

بالنسبة لساكي فالضغط والفريق القصير في جميع حالات اللعب قد يكون اقتصادياً بدنياً، ففي حالة خسر الفريق الكرة “فالضغط -إضافة للكتل الوقائية- سيجعلنا نركض بقدرٍ أقل وسنوفر طاقة؛ سباقات السرعة ستكون أقصر، كما سيتجنب الفريق بأكمله الركض الطويل للخلف. فبواسطة التصدي الفوري للهجمات المرتدة عبر الضغط، تتهيأ الظروف لمواصلة التحولات القاتلة […]. ينطوي على ذلك مهارات تنظيمية وحدسية كبيرة، بالإضافة إلى المعرفة التي لا يمكن اكتسابها إلا من خلال العمل الطويل والمرهق والصبور.” نصبو بالتنظيم والجماعية بذل جهد أقل، والغاية هي البقاء في المباراة حتى النهاية، نهاجم بتروٍ وبتباعد جيد وبذات الأثناء بكثافة حول الكرة، نأخذ وقتنا بالكرة ونحاول تقليص فترة التحول للدفاع عبر الضغط المباشر، نضغط بتقارب وتعاون وفي أنسب الأوقات. هناك أيضاً الإجهاد الذهني، في المنطقة قد يصاب اللاعب بالإرهاق ذهنياً لمحاولة ربط عناصر/عوامل متعددة في وقتٍ واحد ولهذا هي تتطلب معرفة تتشكل بواسطة لعب وتدريب طويل الأمد، في دفاع الرجل لرجل الموضوع أيسر، غير أنه سيصبح أعسر لأن اللاعب مقطوع عن الفريق إلى حدٍ كبير، وحتى ذهنياً يسهل تشتيته، تبادل المراكز، الحركة المضادة، التقاطعات ما بين المهاجمين. صرح مارادونا ذات مرة أنه يواجه صعوبة بالغة في اللعب ضد دفاع المنطقة، ففي المنطقة ليس ثمة نقطة مرجعية للمهاجم بحيث يتخلص من الرقابة، حتى تبادل المراكز والتقاطعات يصعب إتقانها أمام فريق يجيد دفاع المنطقة. معاناة برشلونة كرويف ضد مهاجم أتليتكو مدريد خوسيه غاراتي ستلخص المراد، فالحل الذي أتى به يوهان هو التوقف عن مراقبته، لأنه كان جيداً في التخلص من الرقابة، وبحسب كرويف لن يتخلص من الرقابة إذا لم يُراقب من الأساس؛ “بلا مراقب لم يعد قادراً على شيء. لقد ضل الطريق، كان الأمر وأن نقطته المرجعية هي المراقب.”

لا يجب أن تحرمنا خصال كالحدة والقوة أو الجري بلا هدى لاعباً كإينييستا أو تشافي، لأننا نبحث أولاً عن لاعب كرة وليس مسترجع كرة، قد يعيدها مجدداً للخصم بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن ثَمَّ التقاتل على كرة ليس أمراً بسيطاً، عدد الكرات المقطوعة من القدم بنقاء قليلة جداً، (نستثني التدخلات سواءً احتسبت أم لم تحتسب) تسترجع الكرات غالباً عبر الأخطاء وليس من قدم لقدم، حتى الاستباق -وهي مهارة كروية عامة وليست لنظام معين- هي خطأ في التوقيت. بناءً على ذلك فالدفاع الجماعي التعاوني يثمر بوضوح أكثر حتى للفرق التي تدافع نسبياً بشكل فردي، لأن الضغط يرفع النسق، من يجيد الضغط حتى لو لم يقطع الكرة قد يتسبب في اخلال توازن الخصم، استعجال اتخاذهم القرارات، طردهم لمناطق أقل خطراً، وهلم جراً.

دفاع المنطقة حرية

نتيجة بحث الصور عن valdano menotti

هناك سوءة لا يمكن مواراتها في دفاع الرجل لرجل، إذ يرى مينوتي أن دفاع المنطقة يمنح الحرية؛ حرية لأن اللاعب يفكر ويبحث عن حلول، حر لأن اللاعب مستقل عن المنافس، مستقل عن مراقبة لاعب بعينه كما في المراقبة الفردية، نحن نحاول أن نفعل لا أن نرد بفعل. فالمراقب يصبح هو المُقيَّد بدلاً من أن يكون المُقيِّد، ويصبح أسيراً للمهاجم، يدلي فالدانو بهذا الصدد دلوه قائلاً: “من يستخدم رقابة الرجل لرجل سيذهب حيث يريد الخصم. هذه المطاردة هدفها القبض على العدو، لكن الوسيلة المستخدمة تجعل المراقب/المدافع سجيناً.”

قد يبدو وأن اللاعبين في الأنظمة الجماعية التي لا ترى الفرد إلا ضمن مجموعة ليس حراً لأنه مرتبط بالفريق، والحقيقة أنها تراه حراً لحدٍ ما، ولكن ليس فرداً مطلقاً، وهذا عائدٌ إلى أن هناك سياقَ لعِب، كل تصرف سبقه تصرف وسيلحقه تصرف، هناك تفاعل، إذا اتفق حامل الكرة وطالب الكرة على حركة معينة في لجة المباراة فثمرة هذا التفاهم منتج مفيد، لا تستطيع إلزام زميلك على التحرك للداخل كي تمرر له بينية وهو متشبث في مكانه على خط التماس، بالطبع التصرف الصحيح في معظم الأحيان هو الدخول لاستلام البينية، إذ ستمنحنا أفضلية تجاه مرمى الخصم، لكن على أحدهما التنازل. تضارب الحريات يعصف بالفريق ويكون للفرد الأولوية، ولهذا الذكاء الكروي مرتبط بالتصرفات التي تفيد الفريق ويكون الفرد إثرئذٍ عبقرياً والفريق قوياً، الجناح الذي يرفض الدخول واستلام البينية لم يتصرف بذكاء، والذي بدوره سيرغم حامل الكرة على إما التمرير له وستقل قيمتها، أو سيبحث عن حلول أخرى ونخسر بذلك وقتاً. هناك هدف مشترك، الهدف أو الدفاع نتيجة تسلسل لعب، هناك استثناءات لا شك، كوصول كرة بالخطأ من الحارس لمهاجم الخصم الذي سيحولها فوراً لهدف، ولكن اللاعب هنا لا زال متفاعلاً مع محيطه، أي الخصم والكرة ولم تكن هناك عبقرية خالصة. الفرد مهما كان جيداً هو داخل المنظومة، عضو يؤدي وظيفة، وإذا مرر أينما يريد، وتحرك كيفما يريد، وإذا راوغ طوال الوقت، أو سدد من مسافات بعيدة، فما هو إلا ضوضاء ونشاز وإزعاج. يخبرنا ساكّي أن اللعبة “تغيرت جذرياً عندما انتقلت من أسلوب فردي إلى أسلوب جماعي. في السابق، كانوا يقومون بـ ‘واحد زائد واحد، زائد واحد، زائد واحد …’حتى تصل إلى أحد عشر. لقد بدأت من أحد عشر للوصول إلى واحد.”

“في إيطاليا، الفريق بأكمله في الميدان كان يفكر بالفرد، بالعبقرية والإلهام الشخصي للنجم، كما لو أن الفرد بإبداعه سيحمل اللعب على عاتقه بمفرده. كرة القدم ليست [ولن تكون أبداً] هكذا. تُحقق النتائج الرائعة عندما يلعب الفريق بأكمله معاً، عندما تتناغم الخطوط المختلفة للفريق بانسجام، عندما يكون هناك نوتة مُتّبعة. هذا لا يعني بتر أجنحة الموهبة، بل منح اللاعب إمكانية التعبير عن صفاته الخاصة وتعظيم تلك الصفات، كالقيام بالتنويع في ذات الثيمة موسيقياً. ما كنت أبحث عنه هو الانسجام بين الخطوط، اتصال مستمر بين اللاعبين. بهذه الطريقة، سيلعب كل لاعب دوره في لعبة يكون فيها كل شخص هو بطل الرواية في التصرف، مع الكرة أو بدونها.” -ساكي

التحول للهجوم

كما شددنا ينبغي أن تتمتع الحالات بانسيابية واتصال وثيق، عندما نضغط عالياً فاحتمالية التسجيل تزيد، فقاعدة التقمع والتي تعني انحسار الفريق أكثر كلما اقتربنا من مرمانا، يقابلها دفاعٌ بمساحات أكبر في الأمام، تلك إذاً علاقة عكسية، كلما ضغطنا عالياً كلما ازدادات المسافات بين اللاعبين، وكلما تراجعنا كلما تقلصت. التباعد لا ينبغي أن يكون كبيراً، فمثلاً في دفاع الرجل لرجل نجد أن كل لاعب يقابل لاعب، في المنطقة يتوزع اللاعبون ضمن مناطق معينة كما في الصورة التالية؛

صاحب اللقطة والتوضحيات كتب أن ليفركوزن يضغطون عالياً رجلاً برجل، وهذا خاطئ تماماً بالنسبة لي، فكما نرى، الجناح الأيمن بعيد عن ظهير دورتمند، ويتخذ موقعاً توسطياً، ليس ثمة رقابة، هناك تموقع جيد وتغطية طبيعية تبعاً لمركزه. نرى كذلك المهاجم على اليمين، هناك تضييق في عمق الملعب وهذا طبيعي لأن اللاعبين في الوسط يتوافقون تلقائياً في التمركز وهذا بيهي في عمق الملعب.

في حال تم تجاوز خط الهجوم يتعين على المهاجم/المهاجمين أن يتخذوا مواقع توسطية تمكّنهم من التدخل في الهجوم والدفاع، الأمر مماثل للجناح في الجهة البعيدة عن الكرة مثلاً. عندما يقتاد المنافس المدافع أنـّا شاء ففرضية الارتداد التلقائي متعسرة، فاللاعبون أقل اتحاداً، وسيبذلون جهداً مضاعفاً لمهاجمة المساحات واستعادة التواصل الذي قُطع فيما بينهم، يقول ليـّو بهذا أنه “في الواقع، الفريق الذي يدافع رجل لرجل أو بشكل فردي سيكون غير متوازن من الناحية التمركزية [غير منظم!] في اللحظة التي يستعيد فيها حيازة الكرة، وهذا سياق لا يتوافق والتحول من الدفاع للهجوم [لن يكون سريعاً وآمناً!]، علاوة على كل العواقب السلبية التي قد تنشأ عن ذلك”. تلك حالات جدلية لا يمكن لنا اثبات صحتها، كما لا يمكن للآخرين أو من يختلفون في الرؤى نفيها. لذلك كرة القدم ليست علماً وهي لعبة الآراء، والجميع بمقدوره إثبات وجهة نظره بقليلٍ من الإحصائيات أو صورة جامدة يبين فيها عشوائية فريق قوي جداً تنظيمياً، صدقاً، الشيء ونقيضه ستجد له داعماً إحصائياً أو من وجهة نظر مدرب قدير. النقد لأي أسلوب أو فكرة هو نقد لتبرير رفضها وليس لنقد مستخدميها.

مثال للمراقبة رجل لرجل، كل لاعب مع لاعب، فريق متناثر، فقط لاعب في الأمام يأخذ موقعاً توسطياً لتعويض النقص العددي، في الخطوط الخلفية يزيد الالتصاق. مساحة طفيفة تترك فقط لأجنحة المنافس لبعيدة.
دفاع منطقة حيث أنظار اللاعبين للكرة ومعها تموضعهم الجسدي، تقارب خطوط مسافات مضبوطة بين كل لاعب ولاعب.

كرة ولاعبون

سؤال يجمل بنا استدعاءه ولو كان بديهياً، في كرة القدم أنلعب ضد لاعبين؟ أم ضد لاعبين إضافة لكرة ونقطة نهاية؛ أي مرمى؟ ألا تربط الكرة العلاقات والتفاعلات ما بين اللاعبين؟ ومن يكون هؤلاء الرجال بلا كرة؟ لن يكون هناك لعبة من الأساس! اللاعب الحامل للكرة أو اللاعب الذي يُحتمل أن يتداخل في الهجمة يتعين علينا الاحتياط منهم، بصورة أوضح، ينبغي أن نحتاط من اللاعبين المضطلعين بالهجمة فقط. اللاعب بلا كرة في حالة ما ولا يبدو داخلاً في خضم الهجمة ليس هاماً، لكن الكرة مقترنة باللاعب ومحمولة بواسطة اللاعب، وتغطية منطقة الكرة تشمل أيضاً مراقبة اللاعبين في هذه المنطقة كحل ظرفي لا أكثر، وأيضاً بالقرب من المرمى يستحسن التضييق على المهاجم، لكن ليس مراقبةً لصيقة قد تُفقد المدافع الرؤية للكرة وما يترتب عليها من توجيه جسدي مواتي. في الوقت نفسه لا يجب أن يكون المدافع محدّقاً على الكرة فقط، بل ينبغي أن يختلس النظر بين الفينة والأخرى لما يحيط به، ففي كرة القدم أفظع عمهٍ هو رؤية الكرة فقط كما يقول نيلسون رودريغيش، وفي كرة القدم ليس مكان الكرة الحالي وحسب هو ما يهمنا، بل من يتفاعلون معها كذلك، إلى أين ستذهب وإلى أي نقطة ستهبط ومن هم المُستقبِلون المُحتَملون وأين زميلي وما هي المساحة الأكثر خطراً. إذاً، ضمن نطاق الكرة هناك تضييق على المهاجم ولكن ضمن ظروف معينة كما تقدم، لا يمكن أن نرى اللاعب وحده أو الكرة وحدها وحسب، أيضاً لا يمكن إهمال المساحة ومكان المرمى، كل هذه النقاط ينبغي أن تسترعي انتباهنا، لا مجال للاختزال.

ختاماً حالة الدفاع ينبغي أن تكون حالة مؤقتة، وأيضاً امتداد للهجوم. الدفاع في كرة القدم مؤقت لأن الفريقان في الأصل يتنافسان لامتلاك الكرة وليس لمنع الخصم من التسجيل وتوهّم السيطرة على المباراة، من يسيطر ويهيمن هو الذي يمتلك الكرة والذي يسعى لامتلاكها، من اليسر أن نقف بوسط الملعب مشكلين حواجز ساكنة ونبيع فكرة أننا المسيطرون لأن الخصم عاجز على تخطي الخطوط واختراقها، أعقد وأصعب أن تتخذ موقفاً هجومياً في حالة الدفاع أيضاً، المنطقة حل للضغط المتواصل وليس للتقوقع، قد تكون لعبة كرة القدم اللعبة الوحيدة التي يمكن أن ترفض فيها اللعب، هذه سلبية نظام مفتوح ككرة القدم، وكونها نظام مفتوح هي أيضاً ميزة، لهذا يصف روبرت مورينو كرة القدم بأنها ملكة الرياضات: “ربما تكون كرة القدم هي الرياضة الجماعية الوحيدة التي قد يتمكن فيها فريق ليس لديه أسلوب هجومي -كنهج طاغي- أن يفوز بمباراة، بل وحتى ببطولة. هل يمكن لأي منا تخيل فريق كرة سلة أو فريق كرة يد يدافع فقط؟ إن كرة القدم أيضاً واحدة من الرياضات القليلة التي يستطيع فيها فريق أدنى بكثير من منافسه -نظرياً- تحقيق الفوز. ربما لهذا السبب هي ‘ملكة’ الرياضات.”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: