بقي هذا المقال في الدرج لكثرة الاستطرادات -رغم أهميتها- فأنا أعتقد بالعبرمناهجية، حالة المقال لن تختلف كثيراً عمّا كانت عليه في الدرج ولذا آثرت نشره ولتستبيحوني عذراً. كما أضفت قطعة مترجمة لجوليو غارغانتا بعد المقال.
تمر على مسامعنا عبارة “كرة القدم أصبحت علم”، وخصوصاً بعد إطلاق تقنية معينة، أو نموذج احصائي، أو شخمطات مدرب لن يفهمها هو نفسه. وطالما نعيش في عالم الكلام العام والمرسل فليس من تعريف محدد حول كنهها، ليس لأنها تفتقد لذلك، وإنما لأن هناك لبساً وتشويشاً حول كلمة “علم”. في الوقت الحاضر لا تتضاد كلمة العلم مع الجهل وحسب، خصوصاً في الأوساط العلمية وفي فلسفة العلم، العلم هو ما يعرف بالإنجليزية بـscience، وجدير بالإشارة أنني هنا لا أطلب احتكار المصطلح ضمن هذا النطاق، فبلغتنا العامة نفهم كلمة علم ضمن السياق، وتأتي بعدد من المعاني، كأن يكون ضد الجهل بمعلومة أو خبر أو مجالٍ ما، هذا دون ترادفها مع كلمة المعرفة. لكن إطلاق هذه الكلمة يشوبها خطر إذا كان القصد إعلاء مرتبة مجال ما، أو إيرادها عشوائياً في أي طرح فكري، فيصدّر لنا بعضهم كلامه أو مكتوبه كعلم دون معرفة بماهيته. فما هو العلم كمنهج محدد ومناط بالعالم الطبيعي؟
العلم هو منهج يحاول تقصي وتتبع وتفسير الظواهر الطبيعية وبناء الفرضيات بغية التوصل لنظرياتٍ مبنية على الأدلة التجريبية، هذا مع خضوعها للاختبار وقابلية التخطئة. يتبع المنهج العلمي خطوات معينة، بدءاً بالمشاهدة والرصد أو التكهن ثم وضع الفرضية ومن ثم التجربة والاختبار وقابلية تكرار الاختبار. يكتسب أي شيء صفة العلمية عندما تكون الفرضية أو الموضوع أو الادعاء قابلاً للتخطئة والتفنيد، مُعرّضاً عواصف الأسئلة النقدية الحادة دون شفقة، هذا مع بقاءه موقوفاً ولا يقينياً وفقاً لتطور البيانات والمعلومات التي ما تلبث تستجد.
وبينما يُعتبر الأحياء حقلاً علمياً بحتاً، فكرة القدم ليست كذلك، لكن عند تقديمنا أي ادعاء فإننا نحاول إثباته بالمنهج العلمي، فإذا ادعى أحدهم -شريطة أن يكون متخصصاً- أن تمرين الروندو يطور اللياقة أو يزيد من عدد اللمسات لكل لاعب، فسيقوم تجريبياً بالتحقق من هذه الفرضية، وإن كانت أمراً واضحاً بالبداهة، يقوم المتخصص -على سبيل المثال- بالتجربة عبر عدد من اللاعبين لفترة معينة (أسابيع مثلاً) بمقابل لاعبين يقومون بالتدريب بطرقٍ تقليدية، يضع المتخصص الطريقة المستخدمة method ومن ثم يضع التحليل للبيانات المسجلة وأخيراً استنتاجاته conclusion. ينال البحث الحقيقي القبول في المجتمع العلمي عبر مراجعة الزملاء المؤهلين قبل النشر. بذلك علمنا أن المنهج العلمي طُبق لتأكيد أو تفنيد فرضية ذات صلة بكرة القدم، وهذا على سبيل التبسيط فالأبحاث لا تنقطع وتتضمن بروتوكولات معينة ومعطيات مختلفة لاستقصاء فرضية كالتي ذكرناها، مدعمةً بالنهاية بالأدلة، كمعدل ضربات القلب أو مستوى حمض اللاكتيك، معدل المسافات المقطوعة باختلاف السرعات وما شابه، بالطبع مقارنة بالعينة الأخرى.
ولكن ما الذي يمكن إخضاعه للتجربة في كرة القدم تكتيكياً وفنياً؟ فادعاءات من قبيل: 4-3-3 أفضل من 3-4-3، أو هل أن دفاع المنطقة أفضل من المراقبة رجل لرجل، أم هل أن كانتي أفضل من جورجينيو أمام المدافعين، لا يمكن إثباتها أو نفيها هنا، فتبقى ادعاءات وقناعات شخصية ذاتية حتى لو دُعمت بالاحصائيات، لأننا قد نجد أن عينات الدراسة أو معاييرها محوّرة لتجيء على ما يرغبه البعض أو أن يتغافل البعض عن بعض العوامل أو المعايير وبالتالي تفتقد للموضوعية والمصداقية. يبدو أننا استنتجنا الصعوبة البالغة في ذلك، لكل مجال أو لعبة، أو فن، جانب موضوعي متفق عليه ولكنه لا يغدو بذلك علماً بالمعنى الصريح، لا يخضع كل شيء للمنهج العلمي وللتجربة، المنهج العلمي هو طريق من بين الطرق للمعرفة.
موضوعي؟ ماذا تعني هذه الكلمة؟
تتردد على آذاننا عبارة “العلم موضوعي”، موضوعي تعني النظر إلى الواقع كما هو، ويفترض أن يكون مستقلاً عن إرادتنا وخلفياتنا الثقافية، أي أنه لا يخضع للآراء ولا الأهواء ولا الرغبات أو التصورات الذاتية. أما الذاتية فبخلاف الموضوعية، يكوّن الشخص انطباعاته بناءً على الفكر وبناءً على شعوره أو اعتقاداته وميوله. مثلاً سقوط الأجسام سببه الجاذبية هذه حقيقة موضوعية، أما اعتقادك بأن غوارديولا أفضل مدرب في العالم هذا رأي، الأولى لا يماري فيها إلا جاهل ينظر لظاهرة الجاذبية المُتحقِقة واقعاً بتفسيرات واهية ذاتية وبدون الأدوات اللازمة، كانت فكرية أو تقنية، أما الثانية فهي رأي أو تفضيل شخصي ذاتي لا يمكننا جعله حقيقة موضوعية. ولكن قد تتدخل العاطفة في تفضيل اللاعب أو المدرب هذا أو ذاك فيكون معيار الأفضلية قائم على الانتماء أو حتى القبول الشكلي وتأثير الهالة، أنا أشجع ريال مدريد إذاً أفضل لاعب هو لاعب الريال وأفضل مدرب هو مدرب الريال وأفضل مدلك هو مدلك الريال… الخ. كذا ولن أقول بأن غوارديولا أفضل مدرب أو حتى مدرب مميز لأن التعصب أعماني، ولذلك تبدو الموضوعية تتويجاً فكرياً للمرء بعد القراءة والبحث وبعد جهدٌ مضنٍ في مصارعة النفس. بالطبع لا يجدر بنا التسليم بهذه الثنائيات، بيد أنه لا شك أن هناك رؤية ذاتية للأمور وهناك رؤية موضوعية، لكننا جميعاً نتأرجح بين الأولى والثانية، وحدها الآلة ستعمل بموضوعية ووفقاً للنظام المغروس فيها بلا ميْل أو نزوة، دون نسيان أن معايير الآلة غرسها الإنسان أيضاً فمرتكزاتها ذاتية للمفارقة!
نستطيع أن نقسم الكرة إلى قسمين متكاملين؛ أولهما من حيث موضوعيتها؛ أي القوانين، كنظام الفوز، فمن يسجل أكثر من المنافس يفوز، بخلاف أنظمة خروج المغلوب، ثم هناك قوانين كالتسلل وتحريم لمس الكرة باليد عمداً أو التدخلات العنيفة. إضافة لقواعد اللعب؛ كالتمرير، التسديد، الرأسيات، الضغط أو المراوغة… الخ. بعدئذٍ العلائق بين اللاعبين وتفاعلهم مع وضد بعضهم البعض، إذ أن كرة القدم نظامٌ يتكون من نظاميْن فرعييْن؛ أي الفريقين: 11 ضد 11، والفريق يتكون من نظام فرعي آخر ألا وهو اللاعب. يتفاعل الفريقان ضمن نطاق محدد وهي مساحة اللعب وضمن منطق اللعبة الداخلي. بإيجاز تنتهي الموضوعية في كرة القدم إلى هذا الحد، أي أن قوانينها وأنظمتها ومنطقها منفصلة عن ذواتنا، كمشجعين أو مدربين أو محللين. فالمدرب يرى كرة القدم رؤية ذاتية/شخصية ولا تخلو من الموضوعية بالطبع، ولكنه بمشاهدته ولَعِبه كرة القدم بنى تصوراته ورؤيته عن “كيف” تُلعب كرة القدم بعد فراغه من معرفة “ماذا”؛ أي كرة القدم موضوعياً، وماهية اللعبة على حقيقتها.
بالعودة إلى تعريفنا لكرة القدم نجد أنه تعريف نابع من نظرنا لكرة القدم كموضوع، فنسلط الضوء على ماهية كرة القدم من حيث هي، وليس حيثما نرغب أن تكون أو كما نتصورها بوجداننا، أي من دواخلنا وليس بالنظر إليها كشيء خارجي. قد يتفق الجميع على ماهية كرة القدم. بالمقابل عندما أقول بأن “كرة القدم لعبة جميلة وممتعة تستقطب الجماهير، … ” فهذا ليس تعريفاً موضوعياً، بل هو شعر نَصِفُ به كرة القدم من مبعث حبنا لها، ولكن هذه الكلمات لن تفضي إلى معرفة محددة، إذ لن يتفق من يحب كرة القدم مع من لا يحبها مع العبارة الثانية، إذ أن ذاتك المحبة لِلُّعبة قررت أنها جميلة وأصعب الألعاب وأفضلها، أما عندما تنحي حبك لها قد تفهم اللعبة أكثر فأكثر وستصبح أكثر من مجرد مشجع، ومن ثم ستعبر بعدئذٍ لفلسفة اللعبة باحثاً عن الغائية والمعنى، لماذا نلعب كرة القدم؟ أو لماذا نلعب بهذه الطريقة أو تلك؟

كرة القدم لعبة الآراء حسنة وسيئة في الوقت ذاته، الرأي يغدو أقوى بالمعرفة والحجة، وبالطبع كرة القدم تغلبها الأهواء، أي أن مورينيو مثلاً كذات يرى كرة القدم كموضوع بعقله ووجدانه وقلبه، فالإنسان ليس موضوعياً إلا بقدر ما، قد تزداد موضوعيته ويتضاعف تعقله في رؤية الأمور مع البحث الصادق والاطلاع والتفكر والتأمل، ومع كبح جماح العاطفة التي ترى الواقع مغبشاً ضبابياً لتكدسه بالماقبليات والانحيازات. مع ذلك، وطالما بقي بشراً فسيبقى مليئاً بالانحيازات ولكنه قد يصبح واعياً بانحيازاته وسيحاول إزالة غشاوة المترسخ في اللاوعي أو النظام 1 عند كانيمان حيث التسرع والأحكام المسبقة والصور النمطية. لذا نجد في الأوساط العلمية والأكاديمية ما يعرف بـ peer review، تترجم بمراجعة الأقران أو مراجعة الزملاء كما ذكرنا أعلاه، وهي عملية يقوم الباحثون وزملاء التخصص بتعريض ذلك البحث أو تلك الأطروحة للفحص والاختبار فإما أن تخرج منها سالمة أو يمكن اعتبارها ناقصة لأنها لم تستوفي الشروط ولا تتكئ على أدلة رصينة، أو أن تكون هراءً ببساطة. هناك تشكك في العلم، قد نثق بالشخص ولكن ليس بالمعرفة الصادرة عنه وهذا سارٍ على الجميع، أنا أثق بك وقد تثق بي، ولكن ينبغي أن تكون شيمتنا التشكك في المعرفة والعلم، أو كما يقول أرسطو: إني أعز أفلاطون، ولكن الحقيقة أعز عليّ منه، لكن كي نتقدم لا ريبة أننا نثق بالعلم كنهج لا كأشخاص. المفاهيم عندنا مقلوبة بهذا الصدد، فتُقبل الفكرة من مشهور وترفض من مغمور، وتستحب من محبوب وتُردّ من مكروه، يعرف هذا التحيز بمغالطة المنشأ أو مغالطة الأصل، أين يكون معيار استحسان الفكرة أو استهجانها هو مصدرها؛ أي قائلها أو العامل بها. ويا للغرابة أن يتهكم البعض أحياناً أو يسخر من صاحب فكرة دوناً عن الفكرة، ففي المعرفة يُعرف الحق لذاته لا من قائله، فكون نادي برشلونة قابع في إقليم كتالونيا حقيقة موضوعية ولسنا بحاجة لأحد كي يؤكد لنا ذلك.
“ألا يعلم الفاعل/الذات شيئاً؟ ألا يعيش شيئاً؟ ألا يمتلك طرقاً لتفسير العالم؟ ألا يمتلك طرقاً للمعرفة؟ هل وأن الذات لا يشعر، ليس لديه مخاوف، أماني؟ لماذا لا توضع كل تلك الأمور في الاعتبار؟”
-فرناندو هيرنانديز، عالم نفس إسباني.
إن الكون بما فيه كان موجوداً ولكن الفكر؛ -أي الذات المفكرة- هو من عرّف الواقع ورسم ما استقبلته حواسه على شكل نظريات ومفاهيم، “العالم، كما ندركه، ما هو إلا صنيعتنا” كما يقول هاينز فون فورستر. فقد احتلت تصورات الإنسان ووعيه من غابر الأوقات وعي الأخلاف، ومع حدة الأسئلة تتجدد المعرفة، وصولاً للثورات العلمية المتتابعة إلى اقتحام عالم ما دون الذرة، لتزداد الحاجة لأدواتٍ ترصد اللامتناهي في الصغر، فضلاً عن اللامتناهي في الكبر، فالعين المجردة لم تعد كافية. وهذا يدفعنا لسؤالٍ جوهري؛ هل هناك واقع موضوعي منفصل عن الراصد أو منفصل عن الوعي؟ هل الواقع كما هو أو أن الواقع من ابتكار تصوراتنا؟ ألا تتدخل الذات في طرح الفرضيات؟ وإن كان العلم موضوعي على الإطلاق فلماذا تحل نظريات محل نظريات أخرى باستمرار؟ أليس بسبب أخطاء الراصدين الأسبقين ونقص في المعلومات والبيانات وقصور المنهج؟
كان الصراع محتدماً بين آينشتاين ونيلز بور بهذا الشأن، لم يكن بور يعتقد بوجود واقع موضوعي بمنأى عن الراصد، فلا يمكن تحديد موضع الجسيم -بحسب ميكانيكا الكم-، إلا حين رصده ومراقبته، فهو قبلئذٍ في كل مكان. هذا الواقع الاحتمالي كان مرفوضاً من قِبل آينشتيان، فلم ترُق له فكرة أن القمر غير موجود عندما لا يَنظر إليه. قطة شرودنغر -كتجربة ذهنية- مثالٌ للواقع الاحتمالي اللاحتمي، فلن نعلم ما إذا كانت القطة حية أو ميتة إلا حين نفتح الصندوق، فهي في الوقت ذاته حية وميتة -وتُعتبر في وضع التراكب الكمي- إلى أن تمتد أيدينا وتتدخل طلباً لليقين، يُعرف هذا في فيزياء الكم بانهيار الدالة الموجية، أي انهيار كل التراكبات ما عدا حالة واحدة، وهذا ما نص عليه مبدأ اللايقين، فإن حددنا موضع الجسيم بدقة كبيرة فلن نستطيع تحديد سرعته والعكس بالعكس. شرودنغر أراد بهذه التجربة الخيالية مناهضة مدرسة كوبنهاجن بقيادة بور، فهو يقول إما حية أو ميتة، وليس هذه وتيك في نفس الوقت… لا يقف غموض عالم الكم عند هذا الحد فالالكترون مثلاً يجمع هويتين في آن، فيتصرف كموجة وجسيم في نفس الوقت، أطلق عليه نيكوليسكو بكتابه “بيان العبرمناهجية” الثالث المشمول -عكس الثالث المرفوع (إمّا ميتة وإما حية والاحتمال الثالث تم رفعه)- هنا يتبادر السؤال الأضخم والأزلي هل يشكل الوعيُ الواقع تبعاً لتفسير فون نيومان وڤيغنر الذي ربما هو -اليوم- سؤال فلسفي لا علمي، هل يسبب الوعي إنهيار الدالة الموجية؟
لقد ظن العلمويون أن العلم اقترب من فك شفرة الكون، ليفاجئهم عالم الكَم بفيض من الأسئلة عن الكون ودور الذات أو الوعي أو الراصد، عن كون لا حتمي، ليس بآلي، فتبعاً لبور “لا وجود لعالم كمومي، هناك فقط وصف فيزيائي مجرد. من الخطأ أن نعتقد أن مَهمة الفيزياء أن تكتشف ماهية الطبيعة. الفيزياء تهتم بما يمكننا أن نقوله عن الطبيعة”. بل وحتى مفهومي الزمان والمكان أصبحا متعلقين بالراصد مع نسبية آينشاين، وبتعبير هوكينغ فإن “قوانين الفيزياء نفسها قد تعتمد إلى حدٍ ما على الراصد”. يخال لي أن الاستنتاج من هذا أن الواقع -وضمنياً العلم- ليس موضوعياً بالإطلاق طالما تتضارب وجهات نظر الراصدين، وطالما احتاج الواقع لراصد… راصدٌ واعٍ كوسيط، أي الإنسان، فالآلة ليس لها وعي. فيرفض شرودنغر فكرة استبدال الإنسان بالآلة بشكل كامل، إذ أن “…حواس المراقب يجب أن تتدخل بالنهاية. فأكثر السجلات دقةً لا تخبرنا بأي شيء عندما لا يتم فحصها”. وبحسب هايزنبرغ “لم يعد العلم بموقع المراقب/الراصد للطبيعة، بل بالأحرى هو يعترف بنفسه كجزء من التفاعل بين الإنسان والطبيعة”. فريتيوف كابرا يدلي بهذا أن “المراقب البشري يشكل الحلقة النهائية في سلسلة العمليات الرصدية، ولا يمكن فهم خصائص أي جسم ذري إلا من حيث تفاعل الموضوع مع المراقب.”
فلسفياً، يرى المثاليون والعقلانيون بأسبقية الفكر على المادة، وتكون المرصودات نتاجاً للراصد. يرى الماديون -على الضفة الأخرى- أن المادة سابقة على الوعي أو الفكر، فالإنسان بتجاربه وبملكاته الحسية يتعرف على الواقع والظواهر، وبالتالي يكون الوعي نتاجاً للمادة. تتطرف اتجاهات حديثة معتبرة الإنسان محض دمية بيولوجية، أي يكاد يكون شيئاً أو موضوعاً مدفوعاً بغرائز حيوانية، وتختزل عملية التفكير مثلاً في التفاعلات الكيميائية والكهربية في الدماغ، إننا نتحدث عن العلموية التي تُزيح الفلسفة -بوصفها أداةً معرفية- إلى مرتبة سفلى، وتحاول الإجابة عمّا هو خاضع للتجربة وما سوى ذلك، فيحاولون بذلك احتكار المعرفة رغم عجز العلم عن الإجابة عن مفاهيم ميتافيزيقية كالعقل أو الوعي أو عن الأسئلة الوجودية، بخلاف المسائل الأخلاقية، عندئذٍ، لا تعتبرها إلا ترهات لا طائل منها وما هي إلا طروحات فلسفية، وبالتالي تفصل التكامل الضروري بين العلم والفلسفة، أو بين الموضوعية والذاتية.
الإنسان ذاتي وموضوعي في آن، هو مزيج متكامل ومتفاعل، ففي الجانب الأيسر من الدماغ نفكر ونحلل ونحسب، وفي الجانب الأيمن نبدع ونتخيل ونتعاطف، لا يمكننا شجب الذاتية باعتبارها لا عقلانية على طول الخط فتصوراتي الذاتية لن تعكس بالضرورة ما لا يطابق الواقع، ولا يمكن تزكية أياً كان من الأهواء أو قصر النظر أو أن نعتبر زاوية رؤية عالمٍ ما مطلقة، فكأن الإنسان سيصبح آلة عندما يرصد أو يحلل أو يتأمل. هل وأن العلم قائم بذاته بدون راصد أو بدون أسئلتنا، هل المنهج العلمي قائم بنفسه أم بالمعايير التي وضعها الإنسان؟ يعتقد البعض من الفلاسفة التجريبيين مثلاً أن الذات تتأثر ولا تؤثر في المعرفة، أجادل وأقول: لو كانت لا تؤثر لما تطورنا جيلاً بعد جيل، ولما حدثت تطورات مذهلة علمياً وتكنولوجياً ومعلوماتياً. تتطور المعرفة والعلم بالأشخاص، كوبيرنيكوس وابن حيان والخوارزمي ونيوتن وآينشتاين وهايزنبرغ وغيرهم، كم من اكتشاف علمي كان مجرد خيال أو حدس عبقري؟ كم من اكتشاف عظيم حدث بالصدفة؟ أو بُني على فرضيات تبدو بعضها مضحكة، أو هرطوقية سلبت البعض حريتهم أو أودت حتى بحياة بعضهم للتهلكة؟ لا يمكننا جز العالِم عن العلم، ولا الراصد عن المرصود، فبحواسنا ندرك الواقع وبالتجارب والخبرات يتشكل الوعي، يولد الإنسان وعقله صفحة بيضاء، والغرائز لا تعني أن ثمة معرفة سابقة، فهذا مشترك حيواني، إذ أن الحيوانات تمتلك غريزة الحياة فتبحث عن لقمةٍ لسد رمقها وتلك غريزة البقاء، التكاثر والخوف كلها وسائل بقاء تدفعها الغريزة. يمكننا تحرّي الموضوعية عبر اقتفاء الدليل وتنحية العواطف قدر الإمكان، عبر نقد الزملاء، وعبر الاختبار المتكرر على مداد السنين. إننا بإعادة المراجعة ومساءلة واستنطاق المفاهيم والقوانين المتراكمة تحدث طفرات علمية، أو كما أطلق عليها توماس كون: التحول البارادايمي.
من ناحية أخرى، تستهوي النزعة العلموية في كرة القدم تكميم كل شيء زاعمةً امتلاك ناصية الحقيقة وأن ثمة مصفوفة أو صيغة خوارزمية تستطيع توقع الأهداف أو تقترح لنا اللاعب الأنسب في مركز الظهير الأيسر لفريقنا أو تفترض أن تحسين الأداء ينطوي فقط على ما يسهل قياسه، اللاكتيك، التحمل، كريات الدم الحمراء، فاللاعب بالنسبة لهم جسد فقط؛ فـ”القياس الكِمي وتعديل أداء الفريق من خلال البيانات الموضوعية يمثل إغراءً لا يقاوم للأشخاص الذين يعيشون حول الرياضة ولكنهم لا يفهمونها حقاً.” يقول خاڤيير مايـّـو وقس على ذلك. تنحو هذه النظرة المفرطة الموضوعية نحو إقصاء الذات والفكر وإحداث شبه قطيعة مع الإنسان، ضاربة به عرض الحائط وجاعلة منه أجنبياً غريباً وهامشياً فيما أنتج وأبدع، تلكم محاولة بائسة لإقناعنا أن كرة القدم أصبحت علم ونحن الرجعيون نقاومها، وليسوا هم من يرون العلم جداول قاتمة ورسوم بيانية ومنحنيات خاوية وقياس ما يقاس وما لا يقاس، وربما لا يعرفون شيئاً عن الابستيمولوجيا/نظرية المعرفة أو فلسفة العلم، وما ينطوي عليه سؤال كيف نعرف أننا نعرف؟ فلنعتبر الإحصائيات جزءاً صغيراً لا يتجزأ في كرة القدم، وليس كرة القدم.
للمفارقة ينطلق بعضهم من منطلقات ذاتية/شخصية للمحاماة عمّا يصدره هو لنا كعلم، غير أن ذلك مُنطلقه انحيازه لتخصصه فهو يرى اللعبة من منظوره كمحب للياقة أو الإحصائيات أو كمشتغل بهما أو بأحدهما، هو يختزل اللعبة ويقلصها إلى لياقة أو إلى منطق رياضياتي. وآخر مهتم بعلم النفس يختزلها بالذهنية والحافز، ومن ثمَّ يقنعنا -كل واحدٍ منهم- بأنه لا ينطق عن الهوى وأنه سلطة ومرجع نعود إليه، وهو إذاً ذاتي التمركز بوعي منه أو بلا وعي. فيما يتعلق بالإحصائيات مثلاً، قد يسأل أحدهم: هل تلك الأرقام صحيحة؟ حسناً، نعم، ولكن ما الذي تعنيه تلك الأرقام؟ أو من أسّس في بادئ الأمر لهذه المصفوفة ومعاييرها؟ أليس بشراً مثلنا؟ ومن بعد ذلك أين الوسيط البشري المفسر لتلك الأرقام؟ وحيث أن النماذج المستخدمة في الذكاء الاصطناعي أحرزت ما أحرزت يعتقد بعضهم أن هذه الخطوات لا تشوبها شائبة في أي مجال، في الشعر، في الفنون، في الألعاب وما شابه. لا شك أن استخدامها أحياناً مفيد واقتصادي فيما يتعلق بالوقت، لكن ليست هي اللعبة، تطور كرة القدم ليس متعلقاً بتطور الأدوات والأمور الخارجية، تطور اللعبة تطور ابستيمولوجي معرفي، تطور فلسفي/علمي، أي برؤية كرة القدم من بوابة التعقيد ونظرية النُظم والديناميكا اللاخطية. لكن هذا التطور لا يرى القشور، بل يرى اللايقين في كوننا، الانبثاق أو التولد، الإنتظام الذاتي، يراها بشكل ما كما في البنى المبددة لبريغوجين حيث ينتج النظام من اللانظام، وفي نظرية الفوضى التي تتمثل بجلاء ووضوح في كرة القدم حيث السلوك البسيط القادر على قلب المباراة رأساً على عقب، يشابهها كذلك ما يُعرف بالارتجاع الإيجابي في نظرية النُظم بحيث يزيد الاضطراب جراء اختلالٍ طفيفٍ في النظام. ومن ثم هناك ما استقته كرة القدم من الفيزيولوجيا -كحقل بيولوجي- لمعرفة ماذا يدور في جسم لاعب الكرة أثناء وبعد اللعب وفي تطوير الأداء، بخلاف العمليات المعرفية واتخاذ القرارات من العلوم الإدراكية وعلم النفس ودراسات المخ والأعصاب وغيرها من العلوم التي ستضيف لكرة القدم، كل منها جزء لا يُجتزأ على حدةٍ من لعبتنا التي تعتبر بينمناهجية أو عبرمناهجية أو عابرةً للتخصصات، شأنها شأن بقية المجالات والميادين والعلوم تتقاطع وتتداخل سواءً العلوم الاجتماعية أو الطبيعية أو الشكلية/التجريدية أو التطبيقية.
قد يكون الخبير بارزاً على المستوى العالمي في تخصصه ولكنه لن يبصر العنصر الأساسي الذي يضع الموقف في سياقه. لذلك، يقوم الغوروهات (من guru) الذين يأخذون أدواراً متاخمة لموظفي الإدارة باختبار فرضياتهم الخاصة والتحقق منها في إطار إعادة بناء جزئية للواقع، بعيداً عن قيود المنافسة، ومتحصنين بمعرفتهم الخاصة. بالقيام بذلك، تُطوَّر النظريات بعيداً عن ظروف اللعبة الحقيقية (كانو، 2009)، دون احترام التفاعل بين الأنظمة الفرعية للاعبين والبيئة (أراوجو وزملائه 2005). ينبه (أوكونور وماكديرموت 1997) مجازياً حول هذا الإجراء بالقول بأن أحداً لن يفكك البيانو للبحث عن صوته. ونظراً لإمكانية جمع الكثير من البيانات أثناء المباراة، يمكن وعلى الدوام العثور على تبرير رقمي لتبرير الهزيمة من قبل كل متخصص.
[…] تفخر الأندية الحديثة حين تُشبَّه بفرق فورمولا 1 الراقية، حيث يتولى المهندسون مسؤولية الأداء الصحيح لكل قطعة من أجزاء السيارة. في ظل هذا الباراديم النظري، فإن التجميع المثالي للأجزاء سيسمح بتحقيق كل متفوق ومعرفة كاملة لموضوع الدراسة. وقد أدى ذلك إلى فرط التخصص في الواقع، ما أدى إلى القضاء على جميع المصادر التي يمكن أن تهدد اليقين المطلق (موران، 1994)، لأننا نفضل تصور الواقع كنموذج بسيط يمكننا فهمه (كريشنا، 2004، في كانو، 2009).”
-خاڤيير مايـّـو

قد يطبق العلموي العلمَ في كرة القدم، لكن ليس علم كرة القدم الذي يعتقد، بل يطبق نماذجه وفرضياته كغاية واللعبة هنا وسيلة، وعبثاً لا تعدو كونها موضوع تجربة، أي أن المراد هو العلم وكرة القدم فأر تجارب وبما أنها لعبة جماهيرية فهي استثمار واتحاد مسموم لسلطتي العلموية ورأس المال، الإحصائيون ومدربو اللياقة يشدون طرفاً والمستثمرون والاقتصاديون يشدون طرفها الآخر ويبدو مصير اللعبة إلى الأفول، مع عبارات نتنة مثل كرة القدم أصبحت صناعة، أو أصبحت علم، وليست لا كروكيتا إينييستا أو عبقرية بيب، أو حدس دي يونغ أو تمريرات بوسكيتس الخداعة. ما الذي يجعل برشلونة فريقاً قوياً أو يصدر مواهب مميزة، باكو سيرولو رجل علم بنفسه لكنه يعي أن اللعبة يطغى عليها اللعب واللاعلمية، وهي فن لها جانب حدسي تخيلي أكبر، ولها خيط غير مرئي، لها روح، ليست كالشطرنج يمكن أن يقوم الحاسوب بمعالجة البيانات الضخمة بسرعة كبيرة ويقوم بحساب كل الاحتمالات بفترة وجيزة ويختار الاختيار الأفضل. غوارديولا يعلم من هو اللاعب المناسب له، ألبيرت بوج يعرف الخصائص التي ينبغي الانتباه لها في الشباب، يعرفون كيف يطورون اللاعبين عبر اللعب، واللعب فقط. فاللاعبون اليوم أدوات ليس إلا والمدربون شيئاً فشيئاً لن يكونوا إلا إداريين. في صيف 2007 وفي أبهة التحاليل البدنية والاختبارات اللياقية والمنحنيات المرتسمة في الشاشة يسأل بيرند شوستر -إبان تدريبه ريال مدريد- متخصص الأداء فالتر دي سالفو بلهجة ملؤها التهكم “ما الذي سأقوم به في هذه الأثناء؟”. سيتبين لنا من تعبير الصحفي المدريدي كارلوس كارباخوسا حالة تحول ملعب كرة القدم إلى مختبر قائلاً: “…التعليق التالي من شوستر في ذات الحصة إلى رئيس ذلك ‘البوفيه’ الطموح من المعدين البدنيين يلخص الوضع بشكل أفضل: “فالتر، في مدرسة التدريب يجب أن يدرجوا موضوعاً جديداً، وهو المكان الذي يمكن لنا نحن المدربين أن نقصده ريثما تقومون بعملكم”. ختاماً، كرة القدم يتكامل فيها الذاتي والموضوعي، الأجهزة والمسطرة والقلم لها فوائد كبيرة، لكن إذا لم تكن هناك نظرة نوعية فنحن نشذ عن الجادة. بهذا يقول مايـّو في كتابه Complex Football أن ثمة تضارب بين البيانات الموضوعية وبين نظرة المدرب الذاتية، فالمدرب يرى أداء اللاعب من خلال سياق اللعبة، والأكثر غرابة لماذا تكون أرقام اللاعبين الأكثر فائدة أقل في لياقياً؟ يقول خافيير بالنص: “لمَ يبدو اللاعبون الذين لا يحققون أفضل الأرقام في اختبارات اللياقة البدنية أكثر اتساقاً مع أداء الفريق مقارنة بالذين يبرزون في أنشطةٍ كالجري بلا كرة أو القرفصة والقفز؟”. هذا دون التغافل عن أن قوانين اللعبة ليست موضوعية بل هي اصطلاح الخبراء والقائمين عليها، أي ذاتية تصبح موضوعية حين تُعتمد لمصلحة اللعبة وأحياناً تكون ليس في مصلحتها.
أقدم لكم إضافةً لتواضع ما كتبت شيئاً ذا جودة، التالي مقتطفات من أطروحة لجوليو غارغانتا بعنوان: Futebol e ciência. Ciência e futebol.
نواجه في الحالة الأولى العلموية التي تجرم الذاتية وتثبط وتسخف من النهج النوعي باسم الموضوعية والصرامة الزائفة، والتي -في رأينا- غالباً ما تتورط في شبكة من أخطاء اختلاف المنظر (أو التزيّح). أمـّا الحالة الثانية، فنواجه ميليشيا الخبراء (أصحاب الخبرة) والذين يقعون -في غالب الأحيان- تحت تأثير “المرموط وذيله في فمه”، حيث يحاولون شرح وتبرير النجاحات والإخفاقات في ظل خطاب مغلق يستهلك نفسه ويستنكر نفسه، أما شعاراتهم المفضلة فهي: “أنا رجل كرة قدم”، “ولدت وأنا ألعب كرة القدم”، “أهم شيء أن أشتم رائحة غرفة الملابس”، أو “كذا وكيت هي كرة القدم”.
كرة القدم في الحقيقة ليست علماً، قد تكون هذه إجابتنا. لا يوجد شيء في الدنيا يعتبر علماً بحد ذاته. ما يضفي الطابع العلمي على موضوع الدراسة هي طريقة تنفيذ النهج العلمي. إذا لجأنا في أي دراسة إلى الوسائل والأساليب التي تمتثل وتخضع لمبادئ ذات طبيعة علمية، فيمكننا إنتاج معرفةٍ تساهم في التطور، سواء أكان ذلك في كرة القدم أو في إنتاج الفلين أو في صناعة شامبو الشعر. يتعامل العلم مع المشكلات، وعند البحث عن إجابات لها، غالباً ما يستثير أسئلة جديدة أو متجددة حول هذه المشكلة أو حتى حول مشاكل جديدة. لهذا السبب، تعتبر النتائج العلمية مناهج مؤقتة يجب التلذذ بها لفترة من الوقت ومن ثم نتخلى عنها بمجرد ظهور تفسيرات أفضل (داماسيو، 1994). لهذا، العلم غير مريح لمن يهوى الإجابات النهائية أو لأولئك الذين يتعاملون بصورة سيئة مع تطور الأفكار. السيرورة التطورية تجعل حجة الخبرة لباساً لا يناسب الذين يكررون -لسنوات متتالية- ما قاموا به في السنة الأولى من عملهم. غير أن هذا يناسب المهتمين والمنفتحين على الإسهامات الجديدة، مستفيدين منها لإعادة صياغة ممارساتهم اليومية وإثرائها. إذا نظرنا إلى تاريخ البشرية، فإن المعرفة تتشكل مع الغاية العامة والمتمثلة في ضمان نجاح تفاعلات الفرد مع البيئة المحيطة به (كاراسا، 1997)، هذا ما يجعل الأفكار والتفسيرات حول الأشياء والعالم ليست إقطاعيةً للعلم أو ملكية خاصة للعلماء. وُجدت الأفكار مذ وُجد الإنسان، وستظل الأفكار موجودة أبداً، ليس فقط لتوجيه الفعل، ولكن أيضاً لرعاية ذلك الوجه السحري الذي نسميه القدرة الإبداعية أو الإبتكارية. العلم، باعتباره أحد الطرق الممكنة للوصول إلى المعرفة، يقدم نفسه كأداة معرفية/إدراكية لإنتاج استراتيجيات البقاء (كاراسا، 1997) ولتأكيد الإنسان وعلاقته بالمشاركة. من معرفة (الشيء) إلى فعل (الشيء) ثمة طريق طويل، ربما بنفس الطول ما بين الفعل إلى المعرفة (كاراسا، 1997). وهكذا، يبدو واضحاً أن كل تقدم في الفعل (التطبيق) يفيد المعرفة (النظرية)، تماماً كما أن كل تقدم في المعرفة يفيد الفعل (موران، 1990). تتطلب كرة القدم حالياً التخصص في الوظائف والمهام المختلفة – من اللاعب إلى المدرب، ومن الطبيب إلى أخصائي العلاج الطبيعي، ومن رئيس القسم إلى رئيس النادي – لذا فهي تتطلب من اللاعبين المزيد والمزيد مهارياً ومعرفياً، سواء كماً ونوعاً.
على مداد السنين، قام العلم بإضفاء الطابع المؤسسي، ضمنياً أو صراحةً على مفهومين يشكلان الإطار المفاهيمي للموقف العلمي الحديث: (1) نحن موجودون في عالم موضوعي، له قدرة على أن يكون معروفاً بشكل موضوعي ويمكننا من خلاله إعلان الافتراضات المعرفية التي تجعله يظهر كواقع مستقل عن الذات التي تريد أن تعرفه؛ (2) نصل إلى المعرفة من خلال أعضائنا الحسية من خلال عملية إسقاط -رسم خرائط- للواقع الخارجي الموضوعي على نظامنا العصبي (ماتورانا، 1974).
ما نشاهده ليس الطبيعة نفسها، بل الطبيعة التي تحددها طبيعة أسئلتنا. هذه الأسئلة التي نطرحها على الواقع، -أي فرضياتنا- لا تعدو كونها افتراضات نرغب في إثبات طبيعتها والتي توجه بحثنا في استكشاف الشيء.
تمثل وضعية الذات -بوصفه مراقباً/راصداً- وجهة نظر ثنائية، ذلك أنها تتيح وتُحِد بنفس الوقت من إمكانيات المعرفة (بالنسبة للذات).
يروي فرانز كافكا قصة حيوان يبني وكراً يأتوي إليه. وما إن يكون بالداخل مغطىً، يبدأ بالقلق حيال ما إذا كان المدخل مخفياً جيداً أم لا. يخرج للتحقق من ذلك، لكنه بفعله هذا يخرب التمويه. يدخل مجدداً ويعيد ترتيب التمويه، ثم يقلق مرة أخرى، يخرج، يدخل، يخرج، فيدخل. لا يمكن أن يكون بالداخل لأنه يريد رؤيته من الخارج. لا يمكنه أن يكون بالخارج لأنه يجب أن يكون بالداخل.
كي تكون آمناً داخل الوكر، عليك أن تكون في الخارج تراقب. هذه معضلة العالِم في علاقته بالعلم الحديث.
نظراً لأن كرة القدم ليست علماً، فيمكن أن تستفيد كثيراً من المساهمات العلمية، طالما التزم الباحثون بقاعدة ذهبية: احترموا خصوصية اللعبة، مما يعني أنهم يجب أن يتوخوا الحرص كي لا يشوهوا المصفوفة التي تمنحها الهوية.
اترك تعليقًا