كاوس أو في الإغريقية القديمة Χάος هو اسم الآلهة الأولى في الميثولوجيا الإغريقية حيث تعبر عن الفراغ أو الهوة أو الظلام الدامس الذي سبق نشأة الكون حيث اللامكان واللاشيء. هذا أصل الكلمة إيتمولوجياً، أما علمياً فقد اندلعت شرارتها الأولى على إثر ما يعرف بمسألة الأجسام الثلاثة والتي استعصت على الحل حتى على أكثر الرياضيين فذاذة، إلى أن أوجد بوانكاريه الحل: لا يبدو أن ثمة حل لهذه المشكلة. اكتشف الرياضي الفرنسي أن هنالك حساسية مفرطة للحالة الأولية أو الابتدائية لنظامٍ ما، عرفت لاحقاً بتأثير الفراشة، وهي أن أي تغير -مهما كان صغيراً- سيحدث عواقب هائلة وغير متوقعة. فتأثير الفراشة تعبير مجازي للمصطلح العلمي “الاعتماد الحساس على للظروف البدئية” أو “Sensitive dependence on initial conditions”. ظهر تعبير تأثير الفراشة بإحدى محاضرات عالم الأرصاد الجوية إدوارد لورنز كعنوان بديل في سبعينيات القرن الماضي، حينئذٍ تأخر لورنز في إرسال العنوان فوضع أحد المنظمين العنوان كالتالي: “قابلية التنبؤ: هل تُحدث رفرفة أجنحة فراشة في البرازيل إعصاراً في تكساس؟”. [1] ارتقت الفوضى لصفة العلمية إثر خطأ حسابي كان يعتقد لورنز بأنه هامشي، أراد الأخير تكرار محاكاة قام بها فعلاً لأنماط الطقس غير أنه قام بتقريب متغير واحد فقط رغبةً في الاختصار ما أدى إلى نتائج مغايرة كلياً، إذ أزال آخر ثلاثة أرقام -من ستة أرقام- بعد الفاصلة والذي أفضى بالحاسوب إظهار نتائج مختلفة تماماً.

لا تقتصر الفوضى على كوكبنا بل تصل إلى مستويات كونية، هب أن كوكباً -عطارد مثلاً- تغير موقعه بأقل من مليمتر واحد فقط فالنتيجة قد تكون مرعبة، قد يصطدم بالزهرة أو يهوى نحو الشمس بحسب تجربة لاسكار وغوستينو. [2] قام الأخيران بإبقاء الظروف الأولية كما هي ما عدا تعديل موقع عطارد تعديلاً طفيفاً، هذا التغير سيؤثر على النظام الشمسي بأكمله على المدى غير المنظور والبعيد جداً بالنسبة لنا، هذه التجربة من بين تجارب عديدة تثبت بأننا نعيش بكون فوضوي غير مستقر. شكلت نظرية الفوضى بلبلة في المجتمع العلمي إذ ساد الاعتقاد من أيام غاليليو وصولاً لنيوتن أن الكون لا يحمل غموضاً ولا فوضىً ولا شواشاً، فبالفيزياء الكلاسيكية وقوانينها بإمكاننا معرفة المستقبل والتنبؤ به بتمعن الماضي وحالته الراهنة كسلسلة سببية حتمية. أما وصفنا له بالفوضوي فهو عائد لجهل فادح… يقول الحتميون. تعتبر فيزياء نيوتن عندئذٍ “حتمية” تتصور الكون كآلة خاضعة لتسلسل منطقي سببي بعيد عن الصدفوية والعشوائية والشواش. طور بيير لابلاس مفهوم الحتمية العلمية لاحقاً استناداً على نيوتن وكان شيطانه “شيطان لابلاس” يعبر مجازاً عن قدرة المرء على معرفة مستقبل الكون بناءً على حالته الراهنة وفقاً لقوانين الميكانيكا الكلاسيكية النيوتونية، يقول لابلاس:
“ربما ننظر إلى الحالة الراهنة للكون باعتبارها نتاجاً لماضيه وسبباً في مستقبله. إذا كانت هناك قوة ألمعية تستطيع في لحظة معينة معرفة جميع القوى التي تحرك الطبيعة، وجميع مواضع الأشياء التي تتألف منها الطبيعة، فضلاً عن كون هذه القوة كبيرة بما يكفي لإخضاع هذه البيانات للتحليل، فسوف تتمكن من جمع كافة حركات الأجساد الكبرى في الكون، وحركات أصغر الذرات في معادلة واحدة. وبالنسبة إلى هذه القوة، لن يكون ثمة شيء غير مؤكد، وسيكون المستقبل تماماً مثل الماضي ماثلاً أمامها.”
بهذه الكلمات لا ترى هذه الرؤية إلا نظاماً order وتتعامل مع اللانظام أو الفوضى disorder على أنه نقص وعجز عن كشف النظام المضمر الخفي، رافضة الغموض واللايقين والشواش والاضطراب والثالث المشمول ومقولات ميكانيكا الكم وما يحيط بعالمنا الظاهري والمجهري. ورغم تخطي ميكانيكا الكم للفيزياء الكلاسيكية وانبلاج علم حديث بباراديم حديث، إلا أنه لا انفكاك من الحتمية والسببية الخطية أو العلم الكلاسيكي الذي يعرفه إدغار موران بأنه “ذلك العلم الذي يؤسس المبدأ الذي يقوم عليه التفسير على النظام والتبسيط”.

هناك ثلاثة نظريات تحاول تفسير كوننا، تبعاً لتحولات باراديمية (نماذجية) على المستويين العلمي والفلسفي، فيزيائياً هناك المكيانيكا الكلاسيكية (تتضمن نسبية آينشتاين) وهناك ميكانيكا الكم، إضافة للفوضى. أما الكلاسيكية فكما علمنا هي حتمية صرفة أين يسير نظام ما بشكل معين وفقاً للماضي وبناءً على الحاضر، أما ميكانيكا الكم فتعتقد بالاحتمالية ولكنها تنقسم لتفسيرين أحدهما أنها احتمالية حتمية أي لا زالت تستظل بالقوانين الحتمية ووجود نظام خفي. كمثال بسيط حينما يرمي الحكم القطعة النقدية مجرياً القرعة بين الفريقين لضربة البداية أو لاختيار الملعب هناك احتمال 50% كي تجيء القرعة من صالحك بيد أن النتيجة بحسب هذا التفسير لن تكون صدفة، فإذا أعدنا إجراء القرعة بنفس الشروط الأولية أي بحساب كل العوامل بدءاً من وضع الحكم العملة بيده وسرعة وموضع القذف وحتى سرعة الرياح وثبات يديه وأقصى ارتفاع للمقذوف إضافة لعشرات العوامل الأخرى التي نستطيع أو لا نستطيع إحصائها ستتكرر نتيجة القرعة مرة أخرى! أما التفسير الآخر وهو السائد في ميكانيكا الكم هو تفسير كوبنهاغن، وهو قائم على الاحتمال ولا تنفي أن ثمة حوادث عشوائية محضة على المستوى المجهري. أما نظرية الفوضى فهي حتمية حيث تقول -وبرغم ظاهرية شواشية الكون- إلا أنه ينطوي على أنماط متكررة وترتيب خفي وحلقات تغذية راجعة وترابطية وانتظام ذاتي وتكرار وتشابه ذاتي (فركتال)، فالفوضى تشابه الحتمية الاحتمالية. إذاً فنظرية الفوضى في الميكانيكا والرياضيات -كتعريف- معنية بدراسة السلوك العشوائي الظاهر أو غير المتوقع في الأنظمة التي تحكمها قوانين حتمية. والمصطلح الأكثر دقة هو “الفوضى الحتمية” رغم ما يحمله من تناقض.
لا يَجُبّ البارادايم الجديد ما قبله كلياً، فالعديد من الأنظمة البسيطة التي لا تتضمن عوامل عشوائية هي حتمية (الميكانيكا الكلاسيكية)، البندول أحادي الطرف مثلاً، وبقي كذلك حتى مع الثورات العلمية، يتبع البندول البسيط أحادي الطرف حركة دورية خطية وليس حساساً للشروط الأولية ويمكن توقع تطور حركته، بينما يستحيل التنبؤ بحركة البندول المزدوج عندما تختلف حالته الأولية، ولكن نظرياً -ونظرياً فقط- يمكن حسابه إذا استطعنا معرفة حالته أو ظروفه الأولية بالضبط كشيطان لابلاس وهذا ممتنع عَمَلياً، ورغم ذلك سيبقى البندول المزدوج حتمياً رغم فوضويته، بالضبط كالقرعة بالعملة أو حتى رمي النرد.
لنقتحم المايكروكوزم أو العالم الصغروي الخاص بنا، عالم كرة القدم، إذا كان عبثياً توقع نتيجة إجراء القرعة بالعملة ذات الوجهين، ذات الاحتمالين، أو فضاء العينة الذي يساوي { 1 ، 2 }، فما هو التوصيف المناسب لتوقع مآل هجمة ما في المباراة. مثلاً؛ كرة بين قدمي اللاعب “س” كاشفٌ للملعب ودون ضغط، تنطوي حالته الراهنة على: وضعية جسده، موضع الكرة عن قدمه، موقع المنافس، موقعه هو، خيارات التمرير، ما الذي رآه قبلاً ويراه الآن، تواصله (خارجي)، حالته النفسية (داخلي)، نتيجة المباراة، أرضية الملعب…الخ. نتحدث عن حالة ضمن نطاق ثوانٍ، نَقَل اللاعب “س” الكرة للجهة المقابل للاعب منطلق “ص”، هذا المنطلق لديه حالة مختلفة، سيستقبل كرة عالية ينظر إليها وهي قادمة، ومضافاً لتعامله مع جسم خارجي (الكرة) هو يحاول ضبط جسمه، سرعته وتباطؤه، دون ذكر المنافس وموقع المرمى، بهذا الكم من المتغيرات والاحتمالات ناهيك عن القدرات الفردية نعلم أننا أمام لعبة بعيدة عن الميكانيكية، أوَهل بإمكاننا إحصاء كل العوامل المذكورة لنتوقع الحدث السابق؟ لن نذكر عوامل الديناميكا الهوائية للكرة المُحلقة وعوامل فيزيائية أخرى، أجل، كرة القدم بهذا التعقيد، وهذا التعقيد كامن وطبيعي لم يفتعله أحد. إننا نتحدث عن حدث واحد، عن جزء من هجمة واحدة، ما بالك بهجمة كاملة، يضطلع بها تحركات 22 لاعباً، 3 حكام، حالات الأشخاص الداخلية والخارجية التي تتطور مع كل ثانية باستقبال معلومات جديدة وتتعرض لأحداث صدفوية أو انحجاب الرؤية أحياناً، إذا ما وضعنا كل ما سبق في الحسبان كيف يمكننا توقع نتيجة مباراة ما أصلاً؟ في كرة القدم كذب المتوقعون ولو صدقوا، نعم هناك احتمال أكبر لفوز ريال مدريد على مايوركا مثلاً، لكن توقع النتيجة وعدد الأهداف والمسجلين مثير للشفقة وما هو إلا محض تخريص وضرب من الدجل وليس موضوعنا في الواقع.
هذه اللقطات غيض من فيض، في الحقيقة هذه الحوادث تتسبب بشكل مباشر بهدف أو تمريرة أخيرة، لكن خليقٌ بنا ألا ننسى أن حدثاً في وسط الملعب قد يؤدي لتحول دراماتيكي للهجمة، وهذه طبيعة اللعبة، مضطربة، وحساسة جداً لأي طارئ، خطأ في التحكم بالكرة، في سرعة التمريرة، في انعزال حامل الكرة حيث لا يملك حلولاً ليصرّف الكرة، أو لخطأ في التفاهم والتواصل أو قراءة خاطئة للعب…الخ. لا حصر للاحتمالات كما ذكرنا في مثال اللاعب “س” والذي افترضنا بأنه مرتاح بكرته. يخضع اللاعبون لعمليات معرفية/إدراكية طوال الوقت، وهم عندئذٍ يتخذون قرارات أينما كانوا وكل قرار قد يؤثر على مسار اللعبة، وبذلك لا يتعلق الأمر فقط بحامل الكرة أو اللاعبون القريبون منها. قد تؤثر وضعية جسد لاعبٍ بعيد عن الكرة، أو بحركة خاطئة، أو تقدمه أو تأخره سنتيمترات -كظرف ابتدائي- لحرف هجمة محتضرة إلى هدف محقق، أو على العكس قد يجتث هجمة من مهدها كانت خطراً محدقاً لو تخطته الكرة.

تنبعث أسئلة أمام هذه الأهداف وخصوصاً في مستوىً كهذا، لكنها تخبرنا يقيناً أن كرة القدم لا يقينية. ثمة حدث فوضوي حاسم في اللعبة، تصرف لاعبي ريال مدريد؛ خروج كاسياس للامساك بالكرة داخل المنطقة كما يبدو، إلا أن الكرة فقدت سرعتها بسبب الاحتكاك، روبرتو كارلوس -وعلاوةً على اتكاليته- فقدْ فقدَ الرؤية لإيتو منذ أن خرجت الكرة من أقدام رونالدينيو، ربما لفرط الثقة أو لاعتقاده أن إيتو سيستسلم! هذا الهدف نتج عن خطأ في التفاهم والتواصل. إن ما حدث لا بد وأن يحدث وفقاً للظروف الأولية، هذا ما يقال في الحتمية والفيزياء الكلاسيكية. وهذا يتحقق رياضياً، أي نظرياً فقط في الحقيقة في نظرية الفوضى، تماماً كالسفر عبر الزمن أو فرضية الأكوان المتعددة في الفيزياء. من ناحية احتمالية يصعب أن نقول بأن هذا سيحدث حتماً، بل إن ما حدث كان احتمالاً من بين احتمالات، لا نتحدث فقط من نواحي تكتيكية/فنية بل من نواحي نفسية وذهنية كذلك، نحن أمام نسيج معقد قد يُحيّد قراراتنا. أمّا احتمالياً -في هدف إيتو- قد يشتت روبرتو كارلوس الكرة، أو قد يعيدها لكاسياس الذي سيقف بموقع أنسب، أو يعترض إيتو …الخ بصرف النظر عن الحالة الأولية. هنا قد تعترضنا مسألة الإرادة الحرة، بوصفها أيضاً حتمية، أي أن اللاعب مسير وقراره مقرر مسبقاً لعوامل تربوية وبيئية وجينية ونفسية، وليس المجال هنا للخوض في ذلك.
هذه الفوضوية والعشوائية لا تنتقص من كرة القدم، بل تجعلها متجددة وحية، كل مباراة هي حدث جديد خبيءٌ بأحداث جديدة، الفوضى تفضي إلى اللامتوقع وإلى الإبداع، لو كان كل شيء متوقعاً لما لعبنا أو حضرنا المباريات. لا تقلق شواشية اللعبة ولاخطيتها إلا صاحب التفكير الخطي الميكانيكي، بل أعزو -شخصياً- انخفاض جمالية اللعبة إلى المدربين الذين يكدحون دفع اللعبة إلى هوة الرتابة حيث يكبلون اللاعبين ويطالبوهم الاصطفاف والقيام بلا شيء حيث لا فشل، ولكنه تناسى أنه أيضاً لن ينجح ولن يأتي بالمفيد ما لم يخاطر ويكسر الرتابة ولن يمتلك إلى تسول هبات الخصم والركلات الثابتة وحوادث اللعبة العشوائية التي ينتفع منها للمفارقة. هذا هو التنظيم المرغوب، فريق يصطف بخطوط سيمترية مميزة ولكنه متخشب، يكافح سهم الزمن، يكافح الطبيعة الإنتروبية، فبدون أن يقصي الشواش أو ينظفه -باعتباره وسخاً بالنسبة له- سيهيم حائراً، وسيتكدر صفوه، في لعبة صفوها متكدر مضطرب. حينما لا تكون الكرة بحوزته يتفرج، يوجه اللاعبين بأن يقفوا ولا يخاطروا بفوضى منظمة، ربما لعدم معرفة بالضغط وأصوله أو ضبط المكائد والمصائد، بالتالي سيفضل القيام بلا شيء.
“إننا نجد أنفسنا في عالم حيث تنطبق العكوسية والحتمية على حالات بسيطة متناهية فقط، بينما اللاعكوسية والعشوائية هما القاعدة.” -إيليا بريغوجين وإيزابيل ستنجر [4]
مثّل سهم الزمن والانتروبيا أول لكمة للحتمية التي تعمم العكوسية، قبل حتى الاعتماد الحساس للظروف البدئية، يعتبر دوران الكواكب، أو دوران عقارب الساعة مثلاً نظامان عكوسيان حيث يمضيان بترتيب سببي خطي، فالماضي يتكرر باستمرار. أما القانون الثاني للديناميكا الحرارية، أي الانتروبيا فتفترض أن الكون يسير نحو الفوضى، فلا يمكن إعادة لمّ أجزاء كأس زجاجي مكسور، أو عكس عملية صنع شاي بحيث نعيده إلى ماء فقط قبل إضافة أوراق الشاي، إن انتشار جزيئات الشاي -أي إنتروبية الشاي- هو فوضى وليس تنظيم وبذلك يتشكل النظام من الفوضى! كأس الشاي نظام معزول تزداد فيه الانتروبية ولاتنخفض، فيما تعتبر كرة القدم نظام غير معزول، وعليه يمكن أن تنخفض إنتروبيته عبر الانتظام الذاتي أو التنظيم المتعمد. كرة القدم تتموج بين النظام واللانظام، يحاول المدرب أن يؤسس نظاماً وهذا لب دوره. هنا يخبرنا محامو التحقيب التكتيكي أن المدرب حينما يستلم الفريق يكون الفريق دون نظام وبفوضى مجردة وهو -بالتدريبات والتعليمات- يجعل الفريق يلعب بفوضى حتمية، أي أن ثمة انتظامات وأنماط وترتيب خفي، يكون هذا الترتيب أو التنظيم على شكل سلوكيات الفرد وانتظامه الذاتي مراهنين ليس فقط على الأسلوب بل وعلى ذكاء اللاعب وإبداعه، وهذا ضروري للغاية فالمدرب لا يعرف بدقة ما الذي سيحدث، فاللايقين سمة أساسية في كرة القدم بوصفها نظاماً فوضوياً وبالتالي تتطلب تصرفاً فورياً من اللاعب. برأيي، تكمن القوة في التعامل مع الفوضى، أو باستخدام الفوضى حتى، مثلاً الضغط المضاد لهيلموت غروس ورانغنيك، مبني على الركض نحو الكرة بفوضوية ولكن ليس بعشوائية، أي أنها فوضى منظمة، أي أن كل لاعب يضغط مؤمّناً ظهره وقاطعاً مسار التمريرات وعلى دراية بما يجري خلفه وأمامه. وفيما يبدو اللاعبون بحالة هلع يتقاذفون بكل اتجاه، تُفهم الإنتروبيا على أنها مقياس لدرجة الحرية، وفي حالة الضغط المضاد أو التحركات في الثلث الأخير عند شن الهجمات، هو نظام يتشكل من فوضى، ويراد به خلق عشوائية لدى الخصم.
إذا حوت اللعبة عنصر العشوائية -أي الفوضى المجردة- فيجب أن يتدرب عليها اللاعبون، إذ أن التمارين التي تتضمن العشوائية واللاتنبؤية هي التي تهيأ اللاعب للتعامل مع اللامتوقع في المباراة، فلا يجب التعويل على التدريبات النمطية التحليلية كثيراً، فكل حالة يواجهها اللاعب حالة جديدة وليس لها حل مسبق، هذه هي النقطة الحرجة التي تفصل بين الفريق الـمُدرَب جيداً والفريق المُميكن والمبرمج كثلة روبوتات. فالتعامل مع اللامتوقع واللامتنبأ به ينطوي على الإبداع وسرعة البديهة، وهذا لن يحدث في ظل أوامر ونواهي على طول الخط. بالنسبة لبوردوناو وفيّـانويفا “…ينبغي أن تكون العشوائية واللاتنبؤية حاضرة عند تصميم التمارين. […] إذا كانت اللعبة لاخطية (تحوي المجهول) فالتمارين -وإن بأقل تعقيد- يجب أن تكون لاخطية كذلك وتمنع أي علاقات سببية مباشرة”. وفقاً لمورينيو “لا يمكن أن يكون التمرين آلية ميكانيكية مغلقة. يجب أن تحتوي، على قدر أكبر أو أقل من التعقيد، على درجة من العشوائية، من الصدفوية، من اللامتوقع…، ما هو أهم هو عقول اللاعبين، أن يعرفوا الغاية ممّا يفعلونه وألا يفقدوا نمط الاتصال مع الكل أبداً.”
“نستطيع اللعب في كل مباراة بخطة مختلفة، غير أننا في النهاية نلعب بنظامٍ ضمن اللانظام. نحن أحرار إذا ما أردنا تبادل المراكز، أو ترك مواقعنا، أو إيجاد المساحات الخالية وشغلها، ولكن دوماً ببعض الأتمتة التي يجب استيفائها. مثلاً، إذا قام المهاجم بحركة ما، يجب أن يقوم صانع الألعاب بحركة -بالمقابل- كردة فعل. هذا يعتمد على المركز الذي تتخذه. ولهذا السبب نمتلك لاعبين متعددي الاستخدامات، … إننا نتبادل المراكز كثيراً ضمن نظام.” –داني أولمو متحدثاً عن أسلوب ناغلزمان
سيُبنى على هذا المقال مقالات متصلة، ولهذا بدأ المقال بمقدمة طويلة عن الفوضى عموماً وهي تنطبق على العديد من الميادين؛ إن كانت العلمية أو دون ذلك سواءً في الاقتصاد أو السياسة، تفشي الأوبئة، وإلى كرة القدم. كرة القدم فوضوية chaotic ولكنها أيضاً عشوائية random وتتمتع باللانظام disorder، كرة القدم في الواقع نظام معقد -يتخطى الفوضى- وهذا ما سنأتي عليه لاحقاً. برأيي المتواضع يمكننا بناء توقعاتنا على الاحتمال، كمدربين، كممارسين، كمحللين أو كمشجعين، في توقع النتيجة، في اللعب، في التدريب، كرة القدم ليس مكاناً يكون فيه أ سبباً لـ ب، لعبتنا ليست ميكانيكية وليست نظاماً مغلقاً حتمياً خطياً، بل حي ومفتوح فوضوي و”معقد” في المقام الأول… بمقتطع من كتاب ليونارد سميث “مقدمة قصيرة جداً: نظرية الفوضى” نختم هذا المقال، كونوا بخير.
“أجبرتنا دراسة الديناميكيات الفوضوية على القبول بأن بعض غاياتنا غير قابلة للتحقيق في ظل الخواص المزعجة للنظم اللاخطية. وبالنظر إلى أن أفضل نماذجنا عن العالم لا خطية – نماذج الطقس، والاقتصاد، والأوبئة، والدماغ، ودائرة مور-شبيجل الكهربائية، بل وحتى النظام المناخي في الأرض – يترتب على هذا الاستبصار نتائج تتجاوز العلم، تصل إلى دعم عملية اتخاذ القرار وصناعة السياسات. مثالیاً، ستسهم الاستبصارات المستقاة من الفوضى والديناميكيات اللاخطية في مساعدة واضع النماذج المناخية، وهو الذي يشعر بالثقة في تفسير حدود معرفتنا الحالية، عند توجيه سؤال إليه يعرف عدم منطقيته، ويقدم المعلومات المتوافرة، حتى إذا كانت أوجه القصور في النموذج تشير ضمناً إلى عدم وجود توقع احتمالي مرتبط بالسياسات، ساعد الفهم الأفضل للعمليات الطبيعية الكامنة متخذي القرار لعقود طويلة ولا يزال يساعدهم. تتخذ جميع القرارات الصعبة في ظل عدم اليقين، وقد ساعدنا فهم الفوضى على تقديم دعم أفضل في عملية اتخاذ القرار.” [5]
1: ورقة لورنز: https://static.gymportalen.dk/sites/lru.dk/files/lru/132_kap6_lorenz_artikel_the_butterfly_effect.pdf.
2: تجربة لاسكار وغوستينو، https://www.nature.com/articles/nature08096.
4: نظام ينتج عن شواش، بريغوجين وستينغر. ص41.
5: مقدمة قصيرة جداً: نظرية الفوضى، ليونارد سميث. ص172.
انظر أيضاً: نظرية الفوضى : علم اللامتوقع، جيمس غليك.
اترك تعليقًا