الفوضى قانون الطبيعة، النظام حلم الإنسان..

ثمة خلط ومعاناة مع كلمة نظام في لغتنا، فحين نريد ترجمتها تظهر لنا الكلمات التالية: order, organization, system, regulation وبصورة أقل كلمات مثل: discipline, regime. ولكن في الحقيقة لكل كلمة خصوصية لا محض ترادفات، فكلمة order تعني الترتيب أو النظام الذي يقتضي ترتيب أو تعاقب أو تسلسل، أما system فتعني مجموعة من العناصر المترابطة التي تشكل كلاً موحداً. غير أنه -من ناحية الاشتراك اللفظي- ما الإنجليزية عن ذلك ببعيد، كأي لغة، بالرغم من انفتاحها على التجديد. فحينما تصادف كلمة order في الفيزياء فيقصد بها الترتيب أو النظام الخفي، في السياسة -لا على التعيين- تعني إعطاء الأوامر، أو القيادة المبنية على الأمر والذي نحن بصدده بصورة أخص.

في هذا المقال سنتحدث عن النظام التكتيكي، أي الأسلوب المنمط أي المبني على الأنماط وعلى التلقين، النقد سيطول مدربين أو مدرب بعينه كمثال فقط، وهم من بين الأفضل بالنسبة لي إن لم يكونوا الأفضل. يكتوي لاعبو أنتونيو كونتي من نظامه وصرامته ليس فقط على مستوى الأسلوب، بل قد يتدخل حتى في حياة اللاعب الشخصية، ناهيك عن البرامج الغذائية والصالة الرياضية. تسير الأمور على النحو المطلوب بالنسبة لكونتي في البداية ولكن سرعان ما يبدأ الفريق بالملل وتصبح فرقه مكررة في كثير من الأحيان، وهذا يناقض ناموساً من نواميس عالم التدريب، المدرب يحتاج وقتاً، كونتي ينجح في البداية على ما يبدو، وربما يعود ذلك لأسلوبه المبني على الهيكل الثابت والأنماط والرقابة الفردية والقوة البدنية والدفاع المستقر في وسط الملعب، وحينما يحصل على اللاعبين المناسبين يكون قد قطع شوطاً لا بأس به وهذا ما يجيده أيضاً عندما يتفق مع الأندية التي يقودها، أما حينما لا تأتي الظروف على النحو المرغوب فسيقال كغيره من المدربين، وهذا ما حدث له مع أريدزو وأتالانتا، كونتي مدرب المشاريع القصيرة المدى وليس كما يُعتقد.

Antonio Conte: Why I Left Cesc Fabregas Out Of Chelsea Win

“بصفتي مدرباً، أول ما فكرت به منذ اليوم الأول كان أنني أردت إيجاد حلول للاعبي فريقي عندما تصل الكرة إليهم، لأنني لم أستطع فعل ذلك (كلاعب).” -كونتي

“حظيت بمدربين كبيب [غوارديولا] الذي يقوم بالكثير من التمركز، لكن كانت لدينا حرية داخل هذا. أما مع كونتي، فالحرية غير موجودة، كان يخبرني أين يجب أن أمرر الكرة.” – سيسك فابريغاس

النظام أولاً

رفض كارلو أنتشيلوتي إبان تدريبه بارما فرصة التوقيع مع روبرتو باجّو، لم يُخفِ مدرب الريال ندمه في عدد من المقابلات لاحقاً. كان لدى أنتشيلوتي مبرراً وقتئذٍ، حيث كان متعلقاً بنظامه، بأسلوبه، فلم يكن باجّو مناسباً لأسلوبه، هنا تأتي مركزية المدرب، هو أولاً ثم اللاعبين. هل فعلاً هناك لاعبين لا يناسبون أساليب معينة؟ هل يبالغ المدربون بهذه الأحكام؟ ألا يمكن أن تكون هذه الأحكام اعتباطية في الأساس؟ هل يجب أن يتأقلم المدرب مع اللاعب أو العكس هو الحال كون اللاعب هو المركز في اللعبة وفي أي لعبة. يخسر الفريق والمدرب واللاعب أحياناً بسبب هذه الدوغمائية، بل أن ماركو جامباولو وصف نفسه بـ”الطالباني” الذي قد يغير الخطة أو مركزَ لاعب ولكن ليس مبادئه. جامباولو مدرب لامع، بين أوساط المدربين هو مدرب مرموق وذو مكانة، يحضر إلى تمارينه الكثير من المدربين الطامحين، يُدعى لإلقاء محاضرات في نقابات المدربين. المحلل والمدرب الميلانيستي إيمانويلي بوتّوني يصف جامباولو بأنه “أحد أكثر المدربين المرموقين من الناحية التكتيكية. يعلّم زملائه، مدربُ دُرِس من قبل جميع المدربين الإيطاليين لفترة”. لكن جامباولو -مثل زيمان- إما يصعد بك أو يخسف بك، تكون فرقه بطيئة في البداية بل بشعة ولكنها أشبه بالتحولات أو الاستحالات في البيولوجيا، metamorphosis، فلا يمكن أن تحدث عمليات التطور بين ليلة وضحاها، ناهيك عن تغيير السلوكيات والعادات -لدى اللاعبين- والتي هي عملية معقدة تنطوي على تغيرات نفسية ومعرفية.

في مقابلة مطلع 2020 استعاد برونو فيرنانديش ذكرياته مع جامباولو والتي لم تكن بالرائعة، معرباً أنه كان “لجامباولو طريقة غاية في التحديد، يجب أن يكون اللاعبون متناغمون بنسبة 100٪ على طريقته. في إيطاليا صانع الألعاب فقير إلى حدٍ ما: في خارج إيطاليا يلعب دائماً 90 دقيقة لأنه يعبر عن نفسه في المساحات، ومن الصعب أن يلعب مباراة مثالية بالكامل لأنه يجب أن يخاطر”. لم يقدم فيرنانديش ما كان مأمولاً منه في سامبدوريا ربما لأنه “في أسلوب جامباولو صانع الألعاب يتحرك بصورة أقل” كما وأنه أحس بالانعتاق في البرتغال إذ يضيف “لقد وجدت الحرية في سبورتنغ”.

“اليوم أصبح متحجراً نوعاً ما لمبادئ معينة. يفتقر إلى الجنون، فبالنسبة له كل شيء يجب أن يكون كاملاً. في هذا يشبه سارّي، لقد كان الأخير هو من يذهب لمشاهدة تدريبات ماركو، وليس العكس.” –جوفاني غاليوني

أنا كم نصحتك يا صديقي، لعل هذا لسان حال غاليوني… “ماركو، لقد أخبرتك بهذا عندما كنت في بداياتك وأكرر ذلك الآن: أطلق خيالك، وإن لم تخاطر تغدو قابلاً للتنبؤ”. فالتر ساباتيني هو الآخر يصف نقطة ضعف جامباولو الوحيدة -على حد قوله- المدير الرياضي كان مستعداً للتوقيع معه في روما، ولكن تشيزينا كان قد فاز به قبلاً، بعدئذٍ وقع اختيار روما على لويس إنريكي بناءً على تقارير من جامباولو كان قد طلبها منه ساباتيني. بالنسبة للمدير الرياضي يجب أن ” يتغلب ماركو -إذا أراد- على تلك المعيقات الصغيرة التي يعاني منها جميع المدربين تقريباً، نوع من الخوف دعنا نضع الأمر على هذا النحو… يريد دائماً أن يكون واثقاً جداً من المنتج الذي يقدمه ولكن في بعض الأحيان في كرة القدم هناك أيضاً الصدفة التي تؤثر على (ما يريد). لا يمكنك أن تطلب منه ذلك لأنه عالِم وبالتالي فإن كرته لا تتوقع الصدفوية. أنا متأكد وأنا شاهد على الصدفة، والتي تكون أحياناً رائعة وخيرة. بل في بعض الأحيان تفوز بالصدفة.”

إقصاء العشوائية والصدفة ليس من العلم في شيء، العلم الحديث الذي يتبنى التعقيد ولا يخجل من القصور ولا اللاكمال خضع وطأطأ رأسه للصدف وللامتوقع. ليس المقصود بالصدفة هنا أن “ننزل إلى الملعب وسنرى” وحسب، بالطبع من واجب المدرب النظر في التفاصيل، اختيار الأسلوب والعمل على المبادئ، لكن ليس بمقدورك إعطاء اللاعب كتيب حلول في لعبة ذات تدفق سريع، “عندما يحدث كذا قم بكذا”. أحداث المباراة بطلها اللاعب، ما تستطيع القيام به هو إرشاده، هو تعويده على سلوكيات وعادات معينة وليس إلى حد التنفير، باكيتا سئل عن الفرق بين جامباولو وبيولي وذكر بأن كثرة التفاصيل مع جامباولو مشوِّشة. لا شك تختلف استعدادات اللاعبين وثقافتهم، ففي إيمبولي أو سامبدوريا ستجد من يضحي ومن هو قابل للتعلم، في بعض الأحيان يظن اللاعب أنه ليس بحاجة للتعلم فهو في ميلان أو ريال مدريد، والمعيق هنا للمدرب هو الرفض، تلك الأماكن ربما أنسب للمدراء أكثر من الفنيين، أنسب لتناغم الفرديات من كلٍ أكبرَ من مجموع الأجزاء.

لا يعني -ما تقدم- بأي شكلٍ تقسيم المدربين إلى هذه الثنائية، قد يجمع مدرب ما بين الاثنتين، أو يرجح كفة الإدارة أو كفة اللعب، أو ربما حسب الموارد والمستوى. أسلوب الزعامة قد يفلح مع كونتي، يفلح مع شخصيته ومع استعداد النادي لتحمله، فيما سارّي الذي يدخن مع لاعبيه لا يهتم إلا بالملعب، جامباولو كذلك والذي يبدو بأنه لا يبني علاقة مع لاعبيه، فابيو كوالياريلا ذكر أنه لم يقابل جامباولو في مكتبه إلا مرتين طوال 3 سنوات، ولكن الفريق كان يؤدي جيداً وهذا الأهم، يتفق المدربون المذكورون في الأسلوب التدريبي ولكنهم يختلفون في إدارة الفريق، بالطبع يحبون أن يفرضوا أسلوباً معيناً وبتفاصيل معينة، تنجح أحياناً وتفشل أحياناً. ولكن تعاطي الإعلام أو الجمهور معها يتباين في معظم الأحيان، فقد تمجد أحداً وتذم آخراً رغم انتهاجهما ذات النهج، وهذا يعتمد على النتائج، إذا فاز الفريق فسيُضرب بالمدرب المثل في الصرامة، فيما سيُذم الآخر في تزمته الزائد…

“يخلق الزعيم (boss) الخوف، بينما يزرع القائد (leader) الثقة. يمد الزعيم أصابع اللوم بينما يصحح القائد الأخطاء. يعرف الزعيم كل شيء، فيما يطرح القائد الأسئلة. يجعل الزعيم العمل شاقاً، في حين يجعله القائد ممتعاً. الزعيم مهتم بنفسه، بينما يهتم القائد بالمجموعة”. – راسل إوينج

متى ما وضع المدرب أو القائد أهدافه الشخصية كأولوية فقد جعل الأمور تتمحور وتتمركز حوله -من حيث يدري أو لا يدري- عندئذٍ يصبح زعيماً وليس قائداً، يلقن ويأمر ولا يشرك لاعبيه في العملية، لديه قوالب جاهزة، اختزالي وحتمي. أياً كانت نتائجه أو جودة أداء فرقه، فللفوز ألف طريق. إن القاعدة في الطبيعة هي الفوضى، ولكن حلم الإنسان هو النظام كما يقول هينري آدامز، حلم المدرب هو النظام، وليس كل مدرب طبعاً، حينما نقوم بترتيب غرفة أو مكان فستحل فيه الفوضى مجدداً، هذا ما تخبرنا به الطبيعة الانتروبية في الحياة، هنا لا إشكال إذا كان المدرب -بين شد وجذب- يحاول دفع فريقه إلى النظام ولكن يجدر به أن يقبل الفوضى كحسنة وكمنطلق للتنظيم أيضاً، أي بحسب فالدانو “يجب أن يكون نقطة البداية فقط، إلا أن العديد من المدربين يبتعدون بالأمر ويتخذونها نقطة البداية والنهاية، أي أن كل شيء نظام”. يؤمن عالم الفيزيولوجيا العصبية الفنلندي ماتي بيرغستروم أن النظام الفاقد للفوضى لا يتطور، ثمة فوضى محمودة ينبغي حقنها لمحاكاة سلوكيات الانتظام الذاتي، أي استخدام عمليات احتمالية بدلاً من العمليات الحتمية الصارمة كما يعتقد فرادي.

“غالباً ما تولد الفوضى الحياة، فيما يولد النظام العادة.” هينري آدامز

المدرب المتمكن بالنسبة لأوسكار كانو مورينو هو من:

  • يجعل اللاعب بطل عملية التعليم، يعرف أن العقل يفكر “بالأفكار”؛ في المقابل يرى أن المدرب لا ينبغي أن ينشغل بالتلقين، فالعقل لا يفكر “بالمعلومات”؛
  • يقدر الإنسان ككائن تحويلي للسياقات؛ ولا ينبغي أن يتأقلم مع المدرب؛
  • يعترف بالشك كمصدر طبيعي للمعرفة؛ وليس عبر السبب والأثر، إذا قمت بكذا سيحدث كذا، كما أن المدرب الأقل وعياً اختزالي ويرعبه اللايقين؛
  • ينتشئ الأسلوب عندما تتلاقى قدرات اللاعبين، (أي بتفاعل اللاعبين)، وليس عبر المدرب وما يعرف أو عمّا يعتقد أنه يعرف.

يعجَب الناس بالنظام وبالترتيب والدقة والصرامة، يستحسن كثير منهم الجماعية المفرطة والامتثال للأعراف أو اللباس الموحد بوصفه يمثل التقاليد، يضيقون ذرعاً من الأذواق التي لا تعجبهم ولو قُدر لهم لوحدوا المأكل والموسيقي وما شئت أضِف. هذا ما طبق إلى حدٍ ما في أجزاء من العالم بداية القرن العشرين، ذلك التوحد المُشِلّ والامتثال المرغوب والأنظمة التعسفية والصرامة الماسخة سمة من سمات الشمولية، كالأنظمة الفاشية أو النازية. هنا نستطيع القول بأن النظام المفرط صورة من صور التخلف، من رفض الاختلاف والتنوع، من رفض الغموض واللايقين، ومن ادعاء العلم اللانهائي. أما الفوضى المفرطة فهي الأناركية، التفكك، العماه، والعدمية. اللعبة كما العالم، لا سبيل للانبثاق والتخلق والحياة إلا أن يتعايش النظام مع الفوضى، نريد تنظيماً يحمي اللاعبين وهو “الجزء العلمي” الذي ينطوي على التخطيط والتعليم والدقة والتحليل، ونريد إبداعاً وخلقاً يأتي بالجديد “الجزء التلقائي” الذي ينطوي على اللامتوقع وتفاعل اللاعبين مع اللعب، هذا بحسب فلسفة فرادي،  إننا نريد رزانة ونريد جنوناً، الجماعية تفيد الفرد شرط ألا تقيده، والفردانية تفيد الجماعة شرط عدم الحياد عنها، المدرب يتأقلم مع اللاعب واللاعب يتنازل للمدرب لما فيه مصلحة للجماعة، كما اليين واليانغ هذه تكتمل بتلك.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: