هل أتاك حديث التعقيد؟
“أبسط حياة، أكثر الأفكار الممكنة تعقيداً، تلك هي ميولي.”
–باول فاليري
العالم والكون معقد، تبدو عبارة مبتذلة، إلا أننا في الواقع نفترض البساطة أكثر من التعقيد في طبيعة الأشياء والظواهر من حولنا، حتى أن أهم أداة بشرية ضلت تتحرى النظام والتبسيط والاختزال والتفكيك والحتمية منذ 4 قرون. عمد العلم الكلاسيكي النظر للكون كساعة محكمة الضبط، الحاضر كالماضي كما المستقبل، فالظاهرة المعقدة تُقارب عبر اختزالها وردها إلى أجزائها، الكائنات الحية كما الدراجة -مثلاً- يمكنك فهم كل قطعة وجزء ما يمنحك فهماً للكل وكيفية عمل هذا الكل. غير أن الأمر مع الكائنات الحية أو الأنظمة التي تتضمن الكائنات الحية ليست بتلك البساطة، والأمر لا يقتصر على كمية العناصر وحسب.
تشكل العلم الكلاسيكي على أفكار فلاسفة وعلماء لعل أبرزهم ديكارت ونيوتن من بين آخرين بالطبع. اشتهر ديكارت بالعقلانية، أي مركزية العقل والذات في البحث عن الحقيقة غير آبهٍ بالتجربة الحسية، كما تلمّس البساطة واليقين ودعانا لقصر اهتماماتنا “على الموضوعات التي يبدو فكرنا قادراً على اكتساب معرفتها اكتساباً يقينياً لا يداخله شك”. يرى ديكارت أن الحواس هي مصدر الأوهام وأما العقل فمبلغ الكمال ببداهاته وضرورياته وحدسه واستنتاجاته المنطقية والرياضية التجريدية بصرف النظر عن الواقع. فالمعرفة لديه بدهية/قبلية “a priori” وليست لاحقة/بعدية “a posteriori” والناتجة عن التجربة وإن لم يتنكر لأهمية التجربة. لم يرفض لابلاس -المتأثر بنيوتن- فكرة التعقيد، إلا أنه اعتقد أنه قائم على عدد صغير من القوانين العامة البسيطة. أما التعقيد فهو ظاهري وطافٍ على السطح ليس إلا. لربما هذا ما يرغبه العقل/الذات في رؤيته للواقع الموضوعي، أي أن يفرض النظام على الفوضى، اليقين على الارتياب، الوضوح على الغموض، التجانس على التمايز، الحتمية على الاحتمالية، الاختزالية على الكلانية، الخطية على اللاخطية، الفصل على الوصل، والضرورة على الصدفة، ما عدا ذلك ما هو إلا شطط وجهل، ولعله من طبيعة العقل أن يرى الترتيب والنظام ولو توهماً وانحيازاً وأبحاث علم النفس المعرفي ونظريات علوم الأعصاب تبين لنا ذلك.
“لقد كشف الإنسان طبيعة سلبية وميتة، طبيعة تتصرف كالآلة المبرمجة متى تمت برمجتها فهي تتبع الأوامر المسجلة في هذا البرنامج. بهذا المعنى فإن الحوار عزل الإنسان عن الطبيعة بدلاً من أن يقربه منها. لقد انقلب انتصار العقل البشري إلى حقيقة محزنة، وبدا وكأن العلم يحقر كل شيء يلمسه.” –بريغوجين وستنجر
ترى العقلانية عالماً أصماً، عاجلاً أم آجلاً سيكون طوع أمرها، أفلا تؤدي الطبيعة دوراً؟ أليس ثمة علاقة جدلية وحوار “ديالوج” بين الإنسان والطبيعة؟ ليس أجدر من بريغوجين ليجيبنا: “لا يمكن إجبار الطبيعة أن تقول ما نريده، والبحث العلمي ليس حواراً من طرف واحد ‘مونولوج’…”. ليس الراصد -أي الذات- متلقياً سلبياً كذلك، لا يمكننا نفي دوره في تشكيل الواقع، فالمعرفة قائمة على العقل والتجربة على السواء، قائمة على الراصد/الذات غير منفصلٍ عن المرصود/الموضوع. وحين يحاول العالِم عزل نفسه عن الموضوع المدروس فهو كمثل ذلك الحيوان الذي بنى عريناً وظل يراقبه في رواية “العرين” لكافكا، هو بالخارج يراه ويطمئن له وحينما يكون بالداخل ينتابه القلق وبلا خلاص من هذه الحلقة المفرغة. لا وجود للموضوعية المطلقة، فالذات -أو العقل أو الراصد- هنا ليس بمعزل عن العلم الذي ينتجه، هو يكمل مسيرة الاصطلاحات والإجماعات كتراكمات ما لم يأتي “هو” بجديد، يجب أن يعلم الإنسان العلم -بتعبير موران- فقد طورت العلوم وسائل معقدة للغاية لمعرفة الأشياء الخارجية، ولكن لا توجد وسيلة لمعرفة نفسها. وكأننا أمام مفارقة طاليس الذي بذل ما في وسعه لمعرفة ما يدور في السماء دون أن يحترس مما هو تحت قدميه.
تؤدي المعرفة الموضوعية بحسب موران “إلى الحاجة إلى القضاء على الذاتية، أي الجزء العاطفي المتأصل لكل مراقب، لكل عالم، ولكنها تضمنت أيضاً القضاء على الذات، أي الكائن الذي يتصور ويعرف. ومع ذلك، فإن أي معرفة، بما في ذلك الموضوعية، هي في نفس الوقت ترجمة دماغية تبدأ من بيانات العالم الخارجي وإعادة بناء عقلي، بدءاً من إمكانات تنظيمية معينة للعقل. من المؤكد أن فكرة الموضوعية المحضة فكرة مثالية. تُنتَج الموضوعية العلمية من قبل الكائنات التي هي ذوات، في ظل ظروف تاريخية معينة، بدءاً من قواعد اللعبة العلمية. […] أيضاً، أعتقد أنه سيكون من الضروري الوصول أكثر فأكثر إلى المعرفة العلمية التي تدمج معرفة العقل البشري بمعرفة الشيء الذي يقبضه هذا العقل ويدرك عدم الفصل بين الموضوع والذات”. وتبعاً لأومبيرتو ماتورانا نصل إلى المعرفة من خلال أعضائنا الحسية عبر عملية إسقاط -رسم خرائط- للواقع الخارجي الموضوعي على نظامنا العصبي. إننا نشارك في صنع الواقع، ليس الإنسان -بإزاء الطبيعة- بقارئ وحسب، بل كاتب أيضاً وفقاً لباساراب نيكوليسكو… “رأى غاليلي الطبيعة نصاً مكتوباً بلغة رياضية يكفينا فك رموزه وقراءته. وهذه الرؤية التي اجتازت القرون تَبيّن أنها ذات مردودية مرعبة. لكننا نعلم اليوم أن الوضع أعقد بكثير. تظهر لنا الطبيعة بالحري وكأنها نص أولي: كتاب الطبيعة ليس كتاباً للقراءة بل للكتابة”. إذاً، يتحدد العلم وتتحدد المعرفة عبر طبيعة أسئلتنا، “ما نلاحظه ليس الطبيعة نفسها، بل الطبيعة وهي معرضة لطريقتنا في الاستجواب”، يقول هايزنبرغ. من ذلك، يلوح لنا إشكال فلسفي آخر ألا وهو تسليط الضوء على مشكلة دونما اعتبار للسياق وللعناصر المجهولة، فلنتأمل ذلك في أمثولةٍ لجحا الذي كان يبحث عن خاتمه:

رأوا جحا ذات مرة يبحث في أرض لا شيء فيها فسألوه: عمَّ تبحث؟ قال: خاتمٌ سقط مني. قالوا: وهل سقط هنا وليس في الأرض أثر للخواتم؟ قال: بل سقط في الزقاق الذي هناك. قالوا: وما بالك لا تبحث عنه حيث سقط؟ قال: وأي جدوى للبحث في الظلام؟
إننا أمام مشاكل منهجية وأمام مشاكل فلسفية، رغم ذلك، لا مراء ولا ريب أن العلم الكلاسيكي حقق إنجازات هامة وتطورات غير مسبوقة، ثمة قوانين واكتشافات لا زالت صالحة حتى اليوم، غير أن ممارس العلم الكلاسيكي أضحى بمبادئه كالقابض على مطرقة يرى كل مشكلة مسماراً ويبحث فقط حيث يرى، وقد يرى بعيداً ويغفل عما يدنوه. النظرةُ هذهِ لا زالت منتشرة في المجتمع العلمي، فالعقل العلموي عادة يُخضع كل مشكلة وظاهرة للعلم، نازعين في معظم الأحيان إلى الحتمية والاختزالية. تلقت المثالية الحتمية أولى الضربات عبر المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن العملية الطبيعية تسير باتجاه واحد لا عكوسي ما لم يكن هناك مؤثر خارجي على النظام، أي زيادة الإنتروبيا -مقياس العشوائية- في نظام معزول. ومع آينشتاين لم يعد الزمان مطلقاً، كما ولم تعد الميكانيكا الكلاسيكية قادرة على التعامل مع مستويات ما دون الذرة، فظهر ميكانيكا الكم، استنتج بوانكاريه استحالة معالجة مسألة الأجسام الثلاثة، تلك المشكلة التي لاحت لدى الملاحين نتيجة التزيح parallax، ثم أخطأ عالم الأرصاد لورنز حسابياً وظهرت نظرية الفوضى بناءً على اكتشاف بوناكاريه: الاعتماد الحساس على الظروف الأولية… ثم ظهر التعقيد، متحدياً الاختزالية والحتمية.
أول المبشرين، إدغار موران

هل التعقيد فرع فلسفي، أم علمي؟ أم فرع جديد يضم ويلاقح الفرعين المعرفيين السالفين محدثاً تحولاً بارادايمياً كما يبشر الفيلسوف البنائي أو فيلسوف التعقيد إدغار موران؟ لا يرى الفرنسي -مع ذلك- أن فلسفته أحادية التوجه ومنكفئة على نفسها، يوضح هذا في كتابه Science avec conscience … “لا يتمثل الهدف من البحث في المنهج (سلسلة كتب المنهج لموران) على إيجاد مبدأ موحد لجميع المعارف، ولكن للإشارة إلى ظهور الفكر المعقد، لا يمكن اختزاله في العلم أو الفلسفة، ولكنه يسمح بالتواصل فيما بينهما من خلال إعمال عُقد حوارية”. ها هنا تقبع الغاية، أي إيجاد الخيط الذي يربط ما بين المعارف والعلوم والتخصصات، أي البحث عن العبرمناهجية، هذا لا يعني وضع المناهج والتخصصات في خلاط، فالتعقيد يحترم التعدد والتنوع، التعدد في الوحدة والوحدة في التعدد، واضعاً اعتباراً للأجزاء ومميزاً إياها.
“وهكذا تتكون الأفكار، من عدة أفكار بسيطة مجتمعة، أسميها معقدة؛ كالجَمال، العرفان، الإنسان، الجيش، الكون.” -جون لوك
كأي منا، لم يأتي صاحب الـ100 عام بشيء من العدم، حيث اطلع على نظرية المعلومات وعلى السيبرنيطيقا وتأثر بوليام روس آشبي ونهل من نظرية النظم ومؤسسها لودفيغ فون بيرتالانفي مستمداً العديد من المفاهيم من هذين المجالين. جرى التطرق للتعقيد فعلاً عبر غاستون باشلار ووارن ويفر، غير أن أول من شيد هذا الفكر -كفكر- هو موران، بوصفه نهجاً قائماً بذاته في الستينات. يستهل موران أحد مقالاته بما يلي: “قبل أن يستحضر باشلار عام 1934 فكرة تعقيد العلم المعاصر، لم يُظهر لا العلم ولا الفلسفة اهتماماً صادقاً بالتعقيد بحد ذاته”. وفي ذات المقال أشاد بإسهامات فون نيومان وفون فورستر، كما وكان موران المعلن لهذا الفكر بمعية أونري لابوريت في مجموعة العشرة Groupe des dix، والتي كانت نخبة مثقفة فرنسية تجتمع في السبعينات. ثم الجانب العلمي للتعقيد، والقبلة هي “معهد سانتا فـِـي” في نيوميكسيكو لدراسة النظم المعقدة الذي افتتح في 1984، وكبار مفكريه جون هولاند وموراي غلين-مان وجون كوان، علاوةً على مفكرين وعلماء مستقلين كأونري أتلان وأومبيرتو ماتورانا وإيليا بريغوجين وجون لوي لوموان ورالف ستيسي وغيرهم. ولربما جاء الإنصاف والإقرار للتعقيد في جائزة نوبل للفيزياء للعام 2021 حيث منحت الجائزة بالمناصفة لمساهمات جورجو باريزي وكذلك لكلاوس هاسلمان وسيوكورو مانابي في النظم الفيزيائية المعقدة.
ما هو التعقيد؟
يعود جذر كلمة complexity إلى complexus من اللاتينية، وتعني: ما نسج معاً. لا يمكن حسر واختزال التعقيد في تعريف، ماذا وإلا انتهكنا أولى شروطها: لا للاختزال. “التعقيد ليس شيئاً يمكن ببساطة تعريفه ليحل محل البساطة” بحسب موران، ذلك أن “التعقيد كلمة تشير إلى مشكلة، ليست كلمة تشير إلى حل”. كتعريف عام نقول بأن النظام المعقد هو جملة العناصر أو الأنظمة الفرعية المتفاعلة والمتعالقة والمترابطة التي تشكل سياقاً شاملاً أو كلاً واحداً مُبدية خصائص انبثاقية جماعية. بالنسبة لجيروم سينغر فالنظام المعقد “نظام يتضمن العديد من العوامل المتفاعلة التي يجب فهم سلوكياتها الإجمالية. مثل هذا النشاط الكلي لا خطي، وبالتالي لا يمكن اشتقاقه ببساطة من خلاصة سلوك المكونات الفردية”. فيما يصف آشبي التعقيد على أنه درجة التنوع في نظامٍ ما.
“الكل له صفات أو خصائص لا توجد في الأجزاء إذا عُزلت عن بعضها البعض، وبعض الصفات أو الخصائص للأجزاء قد تُثبَّط من خلال القيود التي يمارسها الكل.” -موران
“…نظام معقد، بمعنى أن عدداً كبيراً من العوامل المستقلة تتفاعل مع بعضها البعض بطرق كثيرة جداً. فكر في الكوادريليونات من البروتينات والدهون والأحماض النووية المتفاعلة كيميائياً التي تشكل خلية حية، أو مليارات الخلايا العصبية المترابطة التي تشكل الدماغ، أو ملايين الأفراد المترابطين الذين يكونون مجتمعاً بشرياً.” -ميتشل والدروب
تتفاعل عناصر أو أجزاء النظام مع بعضها البعض ضمن قيود محلية ونطاقات زمنية، تتيح هذه التفاعلات انبثاق خصائص جديدة ليست موجودة في الأجزاء منفصلة، عندئذٍ يكون الكل المنبثق الجديد أكبر من مجموع الأجزاء، وهذه الجِدة ليست كمية وتراكمية بل نوعية تحدث بسبب الاتصالية والتفاعلية والتآزرية. خليقٌ بنا ألا نخلط بين التعقيد complex والمتعقد complicated، من اللاتينية plicum ما هو متجعد أو متطوّي، أو ما هو متعقد بالفعل -أي بفعل فاعل- وهذا يمكن حله وتفكيكه أو اختزاله إلى مبادئه الأولية، ولا ينطبق ذلك على ما هو معقد من حيث هو نسيج، plexum باللاتينية، والذي لا نستطيع تجزئته وتحليله، فلا يمكن تفكيك كائن حي، حيوان، أو نبات، ولملمة أجزائه مجدداً أو فهم انبثاق العقل أو التفكير من خلال الأجزاء؛ أي الخلية العصبية. لا و”لا يوجد حب في ذرة الكربون، ولا يوجد إعصار في جزيء الماء، ولا انهيار مالي في ورقة الدولار الواحد” كما يقول بيتر دودز.
الفرق بين الأنظمة:
الأنظمة البسيطة: تحتوي على أنظمة فرعية محدودة؛ مطرقة، مقص… وما شابه.
الأنظمة المتعقدة complicated: تحتوي على أنظمة فرعية كثيرة ولكن مخرجاتها متنبأ بها بناءً على المدخلات؛ مثلاً: الحاسوب، السيارة، الساعة… الخ. الأنظمة المتعقدة ميكانيكية وهي مجموع أجزائها وتُعالج بطريقة تحليلية (تصميم أعلى أسفل) فيمكننا فك الجزء المعطوب وتبديله أو إصلاحه، أو حتى تفكيك كل جزء من الحاسوب وإعادته وسيبقى صالحاً.
الأنظمة المعقدة complex: تحتوي على أنظمة فرعية عديدة -ليس بالضرورة ضخمة- ولكن ما يجعلها معقدة هو طبيعة هذه الأنظمة الفرعية أو العناصر، وكونها حيوية هي معقدة بحد ذاتها، مثلاً يكمن التعقيد في حركة المرور بأن الإنسان هو من يقود السيارة، فالكائن الحي لا متنبأ به، وعندما يتفاعل مع كائن آخر وآخر ضمن قيود وبيئة ينبثق التعقيد ويتطور النظام، بصورة أخرى العلاقات بين العناصر هي مناط التعقيد، فعند دراستنا للأسد لوحده وللشجرة لوحدها لن نفهم الغابة أو النظام الإيكولوجي. تعالج الأنظمة المعقدة بطريقة نُظمية تركيبية، (تصميم أسفل أعلى) فهي ليست مجموع أجزائها.
خصائص التعقيد
يفضل موران استخدام كلمة تنظيم organization بدلاً من نظام system ولا يبدو هذا الاختلاف جوهرياً مع نظرية النُظُم إلا أن موران يعلل استخدام كلمة تنظيم إلى أن التنظيم هو الذي يحول مجموع الأجزاء إلى كل. يتشكل التنظيم عبر علاقة حوارية بين نظام ↔ لا نظام ↔ تنظيم، تفضي بدورها للانتظام الذاتي والذي يفضي إلى انبثاق ما هو جديد، ثم نأتي لمبادئ خاصة بالفيلسوف الفرنسي وهي: مبدأ الحوارية؛ مبدأ العودية أو الارتدادية؛ والمبدأ الهولوغرامي. علاوة على الإجمالية/الغلوبالية والسياق وتعددية الأبعاد؛ والاعتماد المتبادل أو التواكلية، واللايقين والفوضى، وسنجيئ على ما سلف في قادم السطور، غير أن حبكتي ومقاربتي للتعقيد تختلف نوعاً ما عن موران بما أن ثمة تفسيرات مختلفة للتعقيد ولكن تتشاطر مبادئ أساسية بإمكاننا تعدادها. (انظر ميتشيل وهولاند في المراجع للاستزادة من المقاربة العلمية للتعقيد).

كرة القدم نظام معقد، فمن ناحية نُظمية systemic هو نظام مؤلف من نظامين فرعييْن؛ أي الفريقين، الفريق يتألف من نظام فرعي ألا وهو اللاعب، بذلك، كرة القدم نظام مكون من أنظمة. يعتبر الفريق نظام متكون من مجموعة لاعبين يسعون لتحقيق هدف مشترك وهو تشكيل لَعِب بتناغم وانسجام بغية تحقيق الفوز. يتواشج الفريقان ليشكلا هذا النظام المفتوح البعيد عن التوازن far from equilibrium والفاقد لنقطة جذب ثابتة يستقر عليها النظام نتيجة التبادل الدوري المستمر للمعلومات -المادة والطاقة- مع البيئة الخارجية؛ بصياغة أخرى، تبديد الطاقة للحفاظ على حالة تغيّر دورية. أي تعريف للتعقيد سيكون قاصراً، ولكن النظام المعقد -مرة أخرى- من خلال كرة القدم هو النظام المتألف من عناصر (اللاعبين)؛ كل عنصر (لاعب) يؤدي مهمة معينة ضمن تموضع ديناميكي، شاغلاً مركزاً ومؤدياً لوظيفة؛ كرة القدم نظام تواكلي وترابطي، ينبثق عن الاتصالية والترابطية والتواكل المتبادل والتفاعل بين اللاعبين تنظيمٌ جماعي، بوصفها شبكة علاقات. ثم إن العلاقات والتفاعلات بين اللاعبين لاخطية ويعسر التنبؤ بها؛ والاضطراب الطفيف قد يتطور لدرجة إحداث تحولات جذرية كما سنفصل.
الانبثاق emergence
الانبثاق يعني ظهور خصائص وخصال وأنماط من عناصر بسيطة أو أقل تعقيداً لم تكن تمتلك تلك الخصال معزولة، الانبثاق يمثل الجدة والتخلق الذي يصعب فهمه. بالنسبة لجيفري غولدشتاين فالانبثاق هو ظهور بنى وأنماط وخصائص جديدة ومتماسكة أثناء عملية الانتظام الذاتي في الأنظمة المعقدة. مثلاً لا ذرات الكربون ولا الهيدروجين ولا الأكسجين مذاقها حالٍ ولكن حينما تتفاعل ينبثق عنها السكر. الكائن الفائق أو الخارق superorganism هو مجموعة من الحشرات أو الحيوانات المتفاعلة المتعاضدة المتناسقة التي تؤلف كلاً واحداً، فالنحلة ذات ذكاء محدود وقدرة محدودة على مجابهة المصاعب والحفاظ على النوع، ويصحب هذه الوحدة تقسيم عمل وهرمية بناءً على خصائص معينة، أي من حيث الحجم والقدرة التناسلية، غير أن العمل عشوائي على مستوى الأفراد وليس ثمة قائد مركزي.
الانتظام الذاتي self-organization
تشير هذه الخاصية إلى العملية التي ينظم بها العضو أو العنصر نفسه عفوياً ما يسفر عن نظام غلوبالي/كوني -أيضاً عفوي- جراء التفاعلات المحلية والمتجاورة للعناصر بعد حالة من الاضطراب أو الفوضى، يحدث الانتظام الذاتي دون قائد مركزي أو تحكم خارجي. يُحدِث الانتظام الذاتي مستويات/نطاقات جديدة من الانبثاق، الخلايا العصبية في الدماغ ذاتية الانتظام شأنها شأن أي عملية داخل جسم الإنسان، والأمر سيان بالنسبة لأسراب الطيور أو مجتمع النمل. الكائن الخارق هو انبثاق عن الانتظام الذاتي، ثمة آليات تنسيق ضمنية وغير مباشرة ما بين الحشرات، تسمى التنسيق الوصمي stigmergy، حيث تترك النملة أثراً كوسيلة تواصل واستحثاث للعمل اللاحق دون اتصال أو تواجد متزامن، تفرز الحشرات فيرومونات بحيث تجتذب الذكر للتزاوج أو إعلاماً بوجود غذاء أو تنبيهاً لخطر وشيك. نستطيع تمييز الأنماط من هذه السلوكيات الجماعية، تخلّق الأنماط انبثاق عن الانتظام الذاتي، وذات نفع لتوليف الكائن الخارق، فنرى تنظيم ومسارات مشي أو ما يعرف بهمهمات الزرازير murmuration والتي تطير بأنماط معينة لتوليف كتلة متحدة ضد الأخطار أو لتتبع مصدر الغذاء أو حتى كمصدر تدفئة، حينئذٍ نعي أن الأنماط تتخلق لخصائص العناصر المتفاعلة التي تتواصل بكيفية معينة وليس مما هو آتٍ من سلطة مفارقة خارجية أو داخلية، كنوتة يلتزم بها الموسيقيون. ولو أن بعض الألعاب والأنماط تبدو مدبرة لدى الإنسان وذلك عائد للقدرات العقلية ومستوى الوعي المرتفع جداً مقارنة بالكائنات المذكورة. يطور بعض المدربين أنماطاً معينة، إلا أنها لا تظهر بانتظام فللعبة أحكام، أحياناً لا تظهر الأنماط أو السلوكيات المرغوبة أبداً فيشتكي المدرب من عدم قيام اللاعبين بما تدربوا عليه. ذلك أن التنميط والتنظيم استحوذ على المدرب، ظناً منه أن هذا دوره فتكون النتائج مروعة للفريق ككل، على المدرب المراهنة على الانتظام الذاتي، فأنماط اللعب المدبرة غير عفوية وقد لا تكون كذلك حتى لو حفظها اللاعب لأن هناك مسار محدد يهيمن على حضور اللاعب الواعي فيشتته، أ يمرر لـ ب وب لـ ج …الخ، أما التنظيم والقليل من الأنماط الحركية قادرة على الإضافة للاعب وإرشاده، فكرة القدم نظام لاخطي وتشعبي (من bifurcation)، والمخرج لا يتناسب مع المدخل في أغلب الأحوال. لذا يكون التنظيم نقطة بداية ينبثق عنها أنماط ناتجة عن التفاعلات وفقاً لسياقات بيئية محددة تبعاً لأنخيل ريك وزملاؤه.

الطريقة التقليدية في فهم كرة القدم؛ عقلية الصوامع في ملعب التدريب، تحليلية؛ تعتقد أن الكل هو مجموع أجزائه. أما الرسم التوضيحي أدناه، فهي فهم كرة القدم من حيث هي نظام معقد.

من أين تبدأ كرة القدم؟ من نقطة البداية في منتصف الملعب، وهذا خيار اضطراري، والحق أنه لا بداية في كرة القدم… لا تبدأ كرة القدم بالتدريج، 1 × 1 ثم 2 × 2 وهكذا، يبدأ اللعب بإجماليته، يبدأ اللعب ككل، يصطف الفريقان بملعبهما بحالة تجانس homogeneity ويبدأ النظام بالتطور والتقلب والاضطراب عندما يتمازج النظامان الفرعيان (الفريقين) – إنتروبيا ↔ ثم نظام مجدداً مع توقف اللعب لأي سبب أو مع عودة الفريقين لحالة تجانس كعودة الكرة لحارس المرمى بوضعية مريحة. اللعب -على أي مستوى- هو انبثاق ناتج عن تفاعل اللاعبين، عن الانتظام الذاتي، لاعب واحد لوحده ينطط الكرة ويتلاعب بها هو لاعب أسلوب حر freestyle. هذا اللاعب الحر يستعرض فنياته وتكنيكاته وغايته تلك الفنيات، فيما كرة القدم -كلعبة جماعية- تتسامح مع درجة عادية من المهارات الفنية، ولا يكون للمهارات الخارقة معنى ما لم تكن مفيدة جماعياً، أي ضمن السياق الكلي. فالتمريرة الجيدة ليست التمريرة التي انتقلت من قدم إلى قدم، من اللاعب أ إلى اللاعب ب، بل التي تتيح تقدماً في الهجمة أو التي استدرجت خصماً واخرجته من موقعه أو التي أمنت الكرة كأضعف الإيمان. والأمر سيان بالنسبة للمراوغة أو المهارة. كذا وليس الجري والركض بدون سياق ذا مغزى، ولا التخطيط والتكتيكات كنشاط ذهني ذا منفعة دون قدرة على التنفيذ، كرة القدم متعددة الأبعاد، الأفعال مزيج الفكرة والتنفيذ، اللاعب مطالب بأفعال وسلوكيات هدفها التهديف ومنع سبل تلقيها، لذا، الأفعال البيوميكانيكية بالكرة وبدونها وسائل لتحقيق هاتين الغايتين. الفنيات والتكنيك دون سياق فريستايل، والجري والتسابق الخالص للعدائين، التفكير والتخطيط والاستراتيجيات للاعب الشطرنج، لاعب كرة القدم هو لاعب كرة القدم بكليانيتها، ليس فني أو بدني أو تكتيكي، قد يتميز بجانب أكثر من آخر ولكنه يبقى لاعباً قادراً على الإضافة من خلال خصائصه. كرة القدم أعقد من الألعاب السابقة، فهي ثرية الأبعاد؛ التكنيك واللياقة والمهارات الإدراكية والحضور الذهني تشكل الفعل الكروي/الأداء الكروي “ككل” ولا سبيل لنا للفصل بين تلكم المكونات، الفكرة لن تنجز بدون قدرة على التنفيذ، تصرف اللاعب هو انبثاق عن تلك الأبعاد، والتدريب مكان أينما نحاول تطوير الأفعال والتفاعلات وردود الأفعال، ليس لتطوير اللياقة أو التكنيك أو القيام بجلسات نفسية، يتطور اللاعبون من خلال اللعب، من خلال تدريبات كرة القدم، ولا يغرنّكم ما تعرضه بعض الأندية من تدريباتها فما هي إلا تدريبات تنشيطية وإحماءات. لا يعمل الجهاز الفني بعقلية الصوامع، كلٌ بعالمه، بل المدرب هو قائد العملية برمتها، هو المسؤول عن النجاح والفشل، ولهذا يعمل الجهاز الفني بتناغم بناءً على فكرة اللعب ومنهجية التدريب، ومعاونوه يساعدونه من المساعد الأول وحتى أصغر دور في العملية كالتحليل وجمع المعلومات.

الشبكة المعقدة: رسم بياني تجريدي يُظهر عقداً (عناصر) موصولة بحواف (روابط) ذات سمات طوبولوجية لا تافهة non-trivial، تستعرض هذه الرسوم أنظمة واقعية كشبكات الدماغ، شبكات بيولوجية، شبكات المناخ، الشبكات الاجتماعية، وشبكات الكمبيوتر. الشبكة أعلاه شبكة التمرير عبر بولدو وزملاؤه.
دينامية النظام
“حافة الفوضى أين يكون للحياة استقرارٌ كافٍ لتحافظ على نفسها، وإبداعٌ كافٍ لتستحق اسم الحياة.” -والدروب
“خطران يهددان العالم باستمرار: النظام والفوضى.” -بول فاليري

بينونية النظام المعقد، لا هي فوضى ولا هي نظام. بين ركود البحر وهيجان الموج ثم تبعثر جزئيات الماء بلا نمط. نرى مثال تقطير كوب الماء بالحبر، يكون كوب الماء قبل التقطير بحالة تجانس، ثم يزداد التعقيد بإضافة قطرة الحبر وبسلوك هيجاني يبدو متركزاً في مواطن معينة (تنوع وتغاير)، وما إن تنتشر جزيئات الحبر بالتساوي يعود للتجانس رغم عشوائية توزع هذه الجزيئات السابحة بحُرية، دون إغفال أن التعقيد سينخفض. يعتبر الكوب هنا نظاماً لاعكوسياً فلا يمكن إزالة جزيئات الحبر رغبة في ارتشاف الماء، وعلى أي حال كرة القدم نظام مفتوح عكوسي ولاعكوسي، يتأرجح oscillates بين نظام ولا نظام، يمكن أن يعود النظام مجدداً بفعل فاعل أو عبر الانتظام الذاتي، ولهذا أحرى بنا أن نشببه هنا بتفاعل بيلوسوف-جابوتينسكي وهو تفاعل كيميائي بعيد عن التوزان في الديناميكا الحرارية أيضاً. هذه الأضداد تعمل سوياً كي ينبثق النظام، يمكن أن يكون المدرب سبباً في تعقد الأمور to complicate أي التعقد السلبي، اللاعب كذلك حينما يتصرف تصرفات بلا سياق يتسبب في تعقد اللعب، مراوغة بلا جدوى أو إعادة الكرة للخلف رغم توافر الحلول للأمام، لا يتواصل، جسده مغلق التوجيه…الخ.
يتصف اللعب بالتقلب بين نظام ولا نظام، بين استقرار واختلال، نظام يقبع على حافة الفوضى edge of chaos، كحالة طورية انتقالية بين النظام والفوضى، فلا ينبعث من النظام والاستقرار أي جدة وحياة وتطور بل قد يؤدي النظام الزائد إلى تحجر بالمعنى الجيولوجي، ذلك أن الكائن الحي المتوازن ميت، يموت حقاً وليس مجازاً، يخبرنا فريتيوف كابرا أن المتعضِّية الحية -بوصفها بنية مبددة- “تتميز بدفق مستمر وتغيُّر في الاستقلاب الذي يتضمن آلاف التفاعلات الكيميائية. ويحدث التوازن الكيميائي والحراري عندما تخمد هذه السيرورات. بكلمات أخرى، فإن المتعضّية المتوازنة متعضّية ميتة. تحافظ المتعضّيات على ذواتها باستمرار في حالة بعيدة عن التوازن؛ وهذه هي حالة الحياة”. إن الفوضى المجردة ستؤدي إلى تفكك، حافة الفوضى هي منطقة من الاختلال المحدود التي تولد تفاعلاً ديناميكياً مستمراً بين النظام والفوضى؛ هذه المنطقة الوسطى هي التعقيد ومن هنا تظهر سلوكيات الانتظام الذاتي، أي اللاعب الذي يقرر ويبدع ويبتكر ويعالج. ثمة مفهوم مشابه لهاينز فون فورستر وهو النظام من الضوضاء order from noise، أو النظام من الفوضى لبريغوجين، وكذلك معادلة التنظيم لموران: نظام ↔ لا نظام ↔ تنظيم. حالة التطور في النظام المعقد صدفوية ومفاجئة ولا يمكن التنبؤ بها، كما أنها متقطعة، تُعرف هذه الدينامية بالتشعب bifurcation وهي الحافة أو الحالة الحرجة التي تؤدي إلى التغير، والنظام المعقد ديناميكي متقلب ومتغير -أي- تحولات ومراحل اللعب في لعبتنا. مراحل وحالات اللعب عرَضية تمنح اللعبة صفة التقطع discontinuity، والتقطع هو تقطع الهجوم والدفاع وأما اللعب فتواصلي.
وإن كنت قد أفردت مقالاً عن الفوضى مؤخراً، إلا أنني ألمحت إلى أن الفوضى في التعقيد ليست حتمية كما هو حال نظرية الفوضى/الكايوس. الفوضى تتعامل مع أنظمة ذات عناصر بسيطة وعدد قليل من العناصر، الأنظمة البيولوجية والإيكولوجية والاجتماعية ليست أنظمة حتمية خطية، وحتى مع افتراض إحاطتنا بالظروف الأولية ليس بمقدورنا التنبؤ إلا على وجه الاحتمال. الفوضى والارتجاع الإيجابي -الذي سنأتي إليه- مفهومان متشابهان، فمتغير صغير قد يتطور إلى ما يحمد أو ما لا يحمد عقباه. يعتقد موران أن كلمة الفوضى chaos يجب أن تحمل المعنى الإغريقي الأسطوري والذي يمثل أصل الكون، إذ رأى الإغريق كوناً منظماً يتبدى لهم من خلال المشهد المباشر والترتيب الذي لا تشوبه شائبة للسماء، حيث تستقر النجوم دائماً في نفس المكان. وإذا كانت الكواكب متحركة فستعود إلى نفس المكان مجدداً؛ “مع ذلك نعلم اليوم من خلال التصورات الموسعة للوقت الكوني أن كل ذلك النظام هو -في نفس الوقت- مؤقت وجزئي في كون الحركة والتصادم والتحول. […]. من الضروري تناول كلمة “فوضى” بمعنى أعمق وأكثر حدة من معنى نظرية الفوضى الفيزيائية”. تتخلق الحياة باستمرار على حافة الفوضى، بين دمار واستقرار، بين هدم واستعمار، تكوّن نظامنا الشمسي من الغبار الكوني الناشئ عن انفجار نجمي، تكون النفط والغاز الطبيعي من بقايا كائنات حية، قد يكون الموت إعلان لحياة جديدة.
حلقات الارتجاع
كيف يستتب النظام في كرة القدم؟ سنستقي من السيبرنيطيقا مفهوم حلقات الارتجاع؛ فالارتجاع السلبي يشير إلى الإخماد؛ بمعنى قمع أو كبح الانحرافات والحفاظ على النظام؛ المدربون والقوانين مصدر بث للنظام في اللعبة، تتقلص بذلك العشوائية والاضطراب والتشوش. الارتجاع السلبي آلية تحافظ على الاستقرار في النظام، ففي الجسم نظام داخلي استتبابي homeostasis يحافظ على درجة حرارة معتدلة، ومستوى معتدل من السكر في الدم والعديد من الوظائف المماثلة للحفاظ على استقرار الجسم. وأما الارتجاع الإيجابي فهو تضخم أو تفاقم الاضطراب واللااستقرار من اضطراب صغير، والذي قد يكون عاملاً لازدياد التعقيد وخلق شكل جديد من التنظيم أو التغير الجذري، مثلاً؛ في الاستتباب هناك آلية تجلط الدم التي تمنع النزيف عند الإصابة، أو كأثر ضار؛ قد يؤدي الارتجاع الإيجابي إلى تكوين أورام إثر إطالة عمر الخلايا وهذه حالة مهددة للحياة من جراء إبعاد النظام الداخلي عن التوازن. هذه الحلقات الإرتجاعية الإيجابية عندئذٍ قد تكون مفرغة vicious circles أو حميدة virtuous circles، الحلقات المفرغة لا تؤدي للاستقرار، ذلك أن الحدث أو الموقف السيء يتغذى على نفسه ويزيد الأمر سوءاً، فيما تؤدي الحلقات الحميدة إلى نمو وتحسن. في لعبتنا، سلسلة تمريرات سريعة تحفز اللاعب التالي إكمال اللوحة عبر تمريرة أخرى ترفع النسق، هذه السلسلة الغير متوقعة تؤدي إلى تبدل سلوكي؛ أي إلى تحركات نحو المساحات الناشئة وهي ناجمة عن تنشيط مواقع كانت خامدة، وأما لدى الفريق المدافع فسيزيد الاضطراب وسيحاولون التغطية والقيام بحلول وقائية كالتراجع بوصفها آلية ارتجاع سلبي وتثبيط، أو تفاقم في الاضطراب والأخطاء كارتجاع إيجابي مع تسارع وتيرة اللعب.

حلقات الارتجاع تحيلنا إلى اللاخطية، إلى العلائقية أو السببية الدائرية، أ يسبب ب، وب يسبب أ، نظام الثرموستات يثبّت على درجة حرارة 20° في الغرفة مثلاً وعندما تنخفض درجة الحرارة إلى ما دون ذلك يقف من تلقاء نفسه، درجة الحرارة هنا سبب وأثر. الإنسان في تكوين المجتمع منتِج ومنتَج، هذا المجتمع -بعاداته وتقاليده- يشكل وعيه ويعود هو ينتج هذه الثقافة عَوْدياً عبر التربية والممارسة. في الاقتصاد البائع مستهلك، وفي النظام البيئي المُفترِس هو نفسه فريسة. اللعب التمركزي الجيد للفريق في حالة الاستحواذ من شأنه التأثير على التحول للدفاع وتلافي الهجمات المرتدة، وعليه يؤثر الهجوم في الدفاع والعكس. لاعب جيد في التمركز يساهم في تحسين اللعب التمركزي للفريق ككل، لعب الفريق ككل يحسن من الفرد، هكذا بشكل دائري. المشكلة المحلية (اللاعب الفرد) قد تتطور لمشكلة غلوبالية/كونية (الفريق ككل)، مثلها كمثل محاربة الجهاز المناعي للعضو المزروع الجديد.
الحواريـة
يقودنا المثال الأخير لمبدأ الحوارية أو الجدلية، حيث يلتقي الضدان؛ النظام والفوضى، الموت والحياة، الدفاع والهجوم، فتدخل الجهاز المناعي لمحاربة العضو الغريب والذي زُرع لاستمرار الإنسان قد يكون بحد ذاته قاتلاً. والحياة تستمر بالموت المبرمج للخلية الحية عند تكاثر الخلايا، حيث تحافظ على استمرار الكائن الحي، دون الموت المبرمج للخلية سيكون الكائن العضوي عرضة للأمراض القاتلة. هنا يجتمع النقيضين، أو الثالث المشمول النافي للثالث المرفوع لستيفان لوباسكو، فبالموت حياة، والالكترون له هوية مزدوجة، فهو جسيم وموجة في ذات الأثناء كما يخبرنا ميكانيكا الكم. نُبقي الكرة بحوزتنا فنهاجم وندافع في نفس الوقت، نضغط باستمرار على الكرة في الحالة الدفاعية ولكن كسلوك هجومي عدواني. اللعبة ديناميكية وذات تدفقٌ مستمر وسيال، أي أن اللعب حالة واحدة وليست حالتين أو أربعة حالات، بل تجليات مختلفة لكيان لا ينفصم، فكل حالة غير قابلة للتجزئة، دفاع ↔ هجوم، مدافع ↔ مهاجم…الخ.
الجزء داخل الكل ولكن الكل داخل الجزء كذلك؛ لم يعد الأمر نزوعاً صوفياً وحسب، فكل خلية تحمل نفس المجموع الجيني للكائن العضوي ككل. يتجسد هنا مفهوم العالم الأكبر والعالم الأصغر، فاللاعب بوصفه إنساناً “ليس قطرة في محيط، بل المحيط كله في قطرة” يقول جلال الدين الرومي، إذ هو صورة مصغرة من الفريق، بوصفه فركتالة كمستوى صغروي، أو كسرة هولوغرام تضم جميع معلومات المجسم المصور، فخصائصه تتوائم مع الأسلوب، إينييستا، تشافي، بوسكيتس كلاعبين للعب التمركزي. غراتسيانو بيلي أو لوكاكو صور مصغرة لأسلوب أكثر بدنية، وهذا ليس للحصر فبمقدورهما التكيف مع أساليب أخرى، ربما، فالأنظمة المعقدة أنظمة تغايرية ولاتجانسية heterogeneous تقبل التنوع والتعدد بعيداً عن الثنائيات الحدية، إما / أو. وهكذا أيضاً يصمم المدرب تمارينه، فالتمرين شكل مصغر من الأسلوب ككل، كل تمرين يحتوي على مبادئ الفريق ومفاهيمه وأنماطه ولكن على مستويات. يتخطى التعقيد الكلانية التي لا ترى إلا الكل، فالكلانية والاختزالية ضدان ولكن التعقيد يضمهما ويقصي شوائبهما، فالكل ليس مجموع أجزائه، كما أن الكل يتضمن أجزاءً ينبغي فهمها، غير أن فهمها يجب ألا يكون معزولاً عن السياق وعن الغلوبالية، الفرد في كرة القدم نسبي وليس مطلق، ليس ثمة تصرف إلا ويكون حوارياً، حتى حركة الزملاء تؤثر في تصرف حامل الكرة بالسلب أو الإيجاب. لاعب كرة القدم -من عالم الكوانتم- متشابك entangled مع الآخر لا منفصل عنه، أيضاً اللاعب الذكي هو من يتصرف كما لو أنه اثنان، هو حامل الكرة وهو المنافس أمامه، هو الممرر وهو المستلم، إذ سيتصور نفسه بموقف زميله… اللاعب الذكي بحالة تراكب كروي، superpositioned..!
“وإذ كانت جميع الأشياء مسبِبة ومسبَبة، مساعِدة ومساعَدة، مباشرة وغير مباشرة، وكانت جميعها متصلة برباط طبيعي غير محسوس يربط أبعدها وأكثرها اختلافاً، فإني أجزم باستحالة معرفة الأجزاء دون معرفة الكل أو معرفة الكل دون معرفة الأجزاء.” –بليز باسكال (خواطر باسكال ص32)
“[…] أنت تلعب ضمن سياق الفريق. إذا استلم اللاعب الكرة في منطقته، وجلس لاعبو الخصم جميعاً على العشب وجرى بالكرة بطول الملعب وراوغ حولهم وسجل هدفاً… لا يزال هذا ليس عملاً فردياً لأنهم إذا لم يجلسوا، فلا يمكنه فعل ذلك. ما يفعله اللاعب الآخر هو ما يفرض عليك هذا القرار أو ذاك. يتحدث الناس عن “أفعال فردية”، لكن لا توجد أفعال فردية.” -خوانما ليـّو
تطوير قدرات اللاعب تنطوي على التفاعل والتواصل والتكيف ضمن مهاراته وضمن سياق الفريق، كما أن الفرق تتطور بتطور التفاعلات والعلاقات ما بين الزملاء مقابل الخصم، ذكاء جمعي وذكاء فردي، الذكاء الفردي والمهارات الفردية تؤتي أكلاً على المستوى المحلي (مكان الحدث) ما قد يتفاقم كحلقة حميدة على المستوى الكوني والغلوبالي (تطور الهجمة واضطلاع لاعبين أكثر). تحدث خوانما ليـّو لبليزارد عن التقييم الفردي واضعاً باعتباره السياق قائلاً: “عقليتي هي التفاعلات والصلات. إذا قلت، ’هلمّوا نقيم الظهير الأيمن‘، سأقول، ’لكن من بجانبه؟ من أمامه؟ من هو الأقرب إليه؟‘..” أضيف؛ ما هو أسلوب مدربه؟ وأما التعلم -من ناحية أخرى- فهي عملية فردية، لعل كرويف يوضح الفكرة بشكل جزئي، ذلك أن الفرق تتطور غير أنها “لا تتعلم. الأفراد داخل هذا الفريق يتعلمون. التطوير عملية شخصية حتى عندما تُجرى في بيئة الفريق”. فهناك مهارات وسلوكيات عامة غلوبالية في كرة القدم، كضرورة لدى اللاعب، لكن الفريق بعازة مهارات اللاعب المخصصة كيما يكون قادراً على تمثيل أسلوبنا، لا أظن كريستيانو رونادو قادراً على الإضافة أو الاستفادة من اللعب في فرق كلوب أو بيب مثلاً. عندئذٍ تطور اللاعب ونموه يكون ضمن نطاق معين، ضمن حدوده بصورة أدق، مارادونا بعظمته كان يغلب عليه استخدام قدمه اليسرى، لم يأته متنطع قائلاً سأطور قدمك اليمنى أو سأجعلك ضارب رأس وما شاكل. المدرب المتمكن لا يعلّم بل يجعل من نفسه مصدراً للتعلم وهناك فرق، اللاعبون يكتشفون ما هو لديهم من خلال المدرب، إذ يمكّنهم المدرب من استخراج ما في قوتهم إلى الفعل.
التكيف والتطور
ومن الفقرة السابقة نعلم أن كرة القدم نظام تكيّفي ناجم عن التفاعلات الهائلة اللاخطية الغير ملحوظة، وليس بين الزملاء وحسب بل وبين الفريقين. التكيف خاصية هامة في النظم المعقدة، وكما نعلم من البيولوجيا فالبقاء للأقدر على التكيف والتأقلم، العجز عن التكيف إيذانٌ بالموت وانقراض النوع. ينطوي التكيف على تفاهم الزملاء حين يتفاعلون، أي تناسق أفعالهم وقراراتهم المتزامنة، كيف هي وضعية زميلي من حيث التموقع مكانياً أو التمركز جسدياً، أو الانطلاق زمانياً؟ أو كيف هي وضعية حامل الكرة، وكيف يمكنه تمرير الكرة إليّ؟ لا يمكنني فرض فعل معين على زميلي، فإذا أردت كرة بينية وليس بمقدور زميلي التمرير إليّ، أكان ذلك لانسداد مسار التمرير، أو ريثما يدير حامل الكرة وجهه نحوي سأصبح في موقف تسلل وما شابه، وعليه يجمل بي أن أتكيف وأعدل وضعية جسدي أو مسار الجري. يعمل اللاعبون بأنانية إيثارية، أساعدك كي تساعدني، أريد أن أسجل لمصلحتي الذاتية (هدف صغروي) وفي الوقت ذاته سيصب في مصلحة الفريق (هدف كبروي) كجدلية تكامل بين الأنا ونحن، وهنا تتمتع العناصر داخل النظام باستقلالية نسبية. بيد أنه علينا أخذ العبرة من الإيكولوجيا، من حيث أن التنافس داخل النوع قد يسفر عن انقراض النوع، التنافس بين الزملاء ينبغي أن يكون في مصلحة الفريق، والإنسان شديد التعقيد بالمقارنة بالحيوانات الأخرى حينما نتحدث عن التعاون والتنافس. يتعلم الذكاء الاصطناعي من البشر، وحين نفترض جدلاً تبادل الأدوار، يجدر بنا أن نستلهم الحكمة من لعبة الحياة لكونواي، فالخلية المعزولة تموت، اللاعب دون مساندة لن ينجو من حيث الأداء وسيبدو سيئاً. الخلية المحاطة بعدد زائد تموت بداعي الاختناق، يخيل لي الفريق متقارب بافراط عند الاستحواذ ويكاد يصطدم أحدهم بالآخر فيما يُلغى وجود لاعب فلا يرجى منه جدوى، كما ستتعذر الحلول ويتعذر اختراق الخصم، يلزمنا أن نعلم أن الاتصال المفرط يخلق نظاما هشاً وليس جيداً وليس على المستوى الهجومي فقط بل على المستوى الدفاعي كذلك.

أما التكيف على المستوى الكبروي، فهي الاستجابة أو التعامل مع حالة الطرد، أو استقبال هدف مبكر، أو مع تغييرٍ جذري للخصم من حيث الخطة أو النظام الدفاعي…الخ. التكيف قد يعني التعايش أو الاعتياد وقد يعني التنازل، قد يعني فعل أو ردة فعل، ففي الأنظمة ما يعرف بالمتانة robustness وتعني قدرة النظام على مقاومة التغير والاختلال أو التكيف معه، إذ أن الهدف هو الحفاظ على الاستتباب وعلى هيكل ووظيفة النظام عبر كبح المؤثرات الخارجية، مثلاً سنحافظ على شبكات الاتصال والترابط بين الزملاء هجوماً أو دفاعاً. فباللعب التمركزي سنحافظ على مسافات مناسبة فيما بيننا، وبتقارب وتباعد جيدين سيجد اللاعب خيارات تمرير ومساندة دائمة وفي حال خسارة الكرة نحاوط الكرة وندحض المساحات المؤدية للعمق. في الدفاع يتخذ كل لاعب موقع دون إثقال الحمل على لاعب معين، فلا يستطيع أي لاعب الدفاع لوحده، إنما توزيع المراكز والمناطق والاتصالية وتوفير التغطية المتبادلة هو ما يفضي إلى هيكل حصين. أما مقاومة الاختلال، فتعني الحفاظ على أسلوبنا والتوكيد عليه، إن كنا نلعب بدفاعٍ عالٍ فسنضغط على الكرة دوماً وسنجعلها مغطاة، وليس علينا التغيير والتكيف حين نواجه خصماً يريد استغلال ارتفاع خط الدفاع. ثمة أمور لا يمكنك مقاومتها لبعض الأسباب المذكورة، الصمود في ظل الظروف القاهرة هي مرونة أو مطواعية resilience تنطوي على بعض التنازلات، استجابة للاضطراب والنفول منه للعودة للوضع كما كان، أو التكيف مع الحالة القاهرة. تنطوي على الاحتياطات تحسباً لريبية ولا يقينية كرة القدم، كوجود خطة بديلة أو تعديل محتمل وفق معطيات معينة، لاعب، خطة وما ماثل. الفرق بين المتانة والمطواعية هو أن الأولى تحاول الحفاظ على الوظيفة فيما تعني الثانية محاولة استعادة الوظيفة والحالة الأولية. التكيف -بأي معنى- ضرورة على المستوى الصغروي (بين اللاعبين وضد المنافسين) بوصفه نظاماً تعالقياً تواكلياً، ومرات كثيرة خياراً جبرياً على المستوى الكبروي (الفريق). النظام المعقد نظام هش fragile فإذا ما استُهدفت نقطة معينة وكَثُر الدق فيها من شأنه أن يحيق بنا الضرر، كمحاولة استغلال نقطة ضعف، أو نقطة قوة لدينا نحاول استغلالها وتعريض نظام خصمنا للهشاشة. ثم إن اللعب البسيط المنمط قد يأتي بنتائج عكسية، وإذا ما كانت لدينا ثقافة لعب (خطة ب، ج، ود ضمن أسلوبنا الرئيسي) فالفرق التي تنتهج نفس نهجنا أو لديها أفضلية نوعية ستفضح نظاماً هشاً وعلى النقيض من المتانة، رد الفعل والتحسب والمطواعية من خلال تحليل الخصم قد ينقذنا.
يتحتم علينا تصور اللاعب/الفريق بمواجهة مخطط صلاحية وعر يلزمه استراتيجية تكيفية تقتضي بدورها تعليماً تشعبياً عوضاً عن التعليم الخطي، فلا نجاة مع البساطة والحلول المعلبة، اللاعب بتفاعله مع البيئة قادر على الخلاص، آلية ذلك هي انتقاء الخيار الأمثل والأكفأ من بين خيارات عديدة، ليس الأمر بالسهل، سوء الاختيارات/القرارات عاقبته تعقد اللعب وسوء الأداء الجماعي، اللاعب الأفضل من ينتقي القرار الأفضل من ترسانة المهارات الحركية-الفنية-التكتيكية لديه. واللاعب مع السنين والخبرة يرشح ويصفي أفضل الخيارات والقرارات، أو جملة مهارات قادر على تكييفها على مختلف الحالات بناء على المكاسب “كثواب” من كل فعل أو قرار وهذا يعني التطور. كآلية الانتقاء الطبيعي؛ يبقى الخيار أو الاستراتيجية الأفضل والأسرع، يعتلي الخيار أو الحل المنتقى قمة الجبل في مخطط الصلاحية fitness landscape، في حين أن الحلول التي تتسم بكفاءة مقاربة ترتفع على قمم أخرى كذلك، وكلما انخفضت تضاريس المخطط كلما تساوت الحلول، أما المخطط ذو القمة الوحيدة فيعني أن الحل لا منازع له. مخطط كرة القدم وعر ومتعدد القمم، بيد أننا بحاجة اصطفاء الحلول الأفضل فردياً وجماعياً وحتى على مستوى انتقاء وتصعيد اللاعبين والمدربين، انتقاء الأسلوب ضرورة حتمية، فالتركيبة أو التوليفة الجماعية قد تفشل مع تدني الانتقاءات فتهوي إلى قاع مخطط الصلاحية: لن ننجو. دأب الفريق وديدنه الإستمثال، أي الحل الأمثل أو الأقرب للمثالية، وما يعرف بالخوارزميات الجينية الذي أطلقه جون هولاند أحد طرقها، تحاول هذه الطريقة محاكاة آليات التطور البيولوجي، كالانتقاء الطبيعي والطفرات والتوريث، أي إيجاد حلول عشوائية لمشكلة ما، ثم تتفحصها مصطفية ما هو أصلح وأفضل وربما تلاقح تلك الحلول لإيجاد ما هو أفضل من الصفات الأفضل لتلك الحلول. إننا لا نصل إلى أسلوب، ذلك أن خلق لغة مشتركة -كقواعد سلوكية وعلاقات- رحلة لا منتهية، يحدد أسلوبنا الظروف والبيئة علاوةً على ملعب التدريب وفقاً لخصائص اللاعبين وثقافة النادي ومستوى النادي وأفكار المدرب، حينها نقتنص تلك التركيبة المنجية زائداً الطفرات العشوائية التي قد تقفز بنا إلى الذروة، ذلك أن التمارين ستُبدي ما لم يكن بالحسبان مع الاستكشاف، والتجربة والخطأ، والتعديل والتبديل. التدريب في كرة القدم سيرورة لا صيرورة، إذ أن الذروة ليست ثابتة، أسلوبنا يمثل قمة المخطط من بين قمم أخرى ومن واقع متغير يتغير فيه المشهد باستمرار. لا وليس هناك ذروة أداء من الناحية البدنية في واقع التعقيد، خزانة اللاعب لا تُملأ في الشهر الذي يسبق الموسم، وإنما يبقى الفريق في حالة إعداد وتحضير متواصل، يوضع في الاعتبار الزمن ما بين المباريات وكثافة المنافسات، التوقفات والترحال والإجهاد…الخ. الكائن الحي متجدد، والشاب يمتلك نظام استتبابي قوي -بحكم السن- والجسم بعملياته الأيضية (البنائية والهدمية) قادر على تركيب وإعادة تركيب الطاقة ما من شأنه الحفاظ على لياقة اللاعب، بخلاف التحسن اللياقي-المعرفي بعد الأداء-الاستشفاء الجيد أو ما يعرف بالتعويض المثالي.

مخطط الصلاحية هو تجسيد مرئي للعلاقة بين الأنماط الجينية والنجاح التناسلي، والصلاحية أو اللياقة تعني قدرة النوع على البقاء والتكاثر. انظر نموذج NK أيضاً وهو نموذج يستخدم لمحاكاة النظم المعقدة.
التعقيد والنهج النوعي
“قد يظن المرء أنه مع كل النجاحات التي حققتها على مدى القرون القليلة الماضية، كانت العلوم الموجودة لتتمكن منذ زمن بعيد من معالجة قضية التعقيد. لكنهم في الحقيقة لم يفعلوا ذلك. وفي الواقع، فقد حددوا في غالب الأحيان إطارهم خصيصاً من أجل تجنب الاتصال المباشر به. في حين أن فكرتهم الأساسية لوصف السلوك من حيث المعادلات الرياضية تعمل جيداً في حالات مثل حركة الكواكب حيث يكون السلوك بسيطاً إلى حدٍ ما، غير أنها تكاد تفشل عندما يكون السلوك أكثر تعقيداً.” -ستيفن ولفرام
“[…] لطالما أخبرنا العلم أن الأشياء تحتاج إلى القياس والوزن؛ لكن العلاقات لا تُقاس ولا توزَن، بل تحتاج لأن تُخطَّط [تُصوَّر]. لذا فثمة نقلة هنا أيضاً من القياس إلى التخطيط [الخطاطة].” -كابرا
“استطلاعات الرأي، أو اتجاهات المشاريع، أو الإحصاءات الصناعية -وكلها تستخدم الجمع- ذات فائدة فقط إذا كانت تصف الخصائص الخطية للأنظمة المضمرة. من الأسهل كثيراً استخدام الرياضيات عندما يكون للأنظمة خصائص خطية لدرجة أننا غالباً ما نبذل جهداً كبيراً لتبرير افتراض الخطية. تُكرَّس فروع الرياضيات بأكملها لإيجاد وظائف خطية تقريبية معقولة عندما لا يمكن تحديد الخطية بشكل مباشر. لسوء الحظ، لا يعمل أي من هذا جيداً مع الأنظمة التكيفية المعقدة “cas”، إن محاولة دراسة cas بهذه الأساليب يشبه إلى حد كبير محاولة لعب الشطرنج من خلال جمع إحصائيات حول طريقة تحرك القطع في اللعبة.” -جون هنري هولاند
تَعتبر منصة Systems Innovation أن التعقيد “نوع جديد من العلم مدفوع بصورة أقل بالنماذج والمعادلات، وبصورة أكبر بمجموعات البيانات الكثيفة في الزمن الحقيقي. وهذا يعني أننا لم نعد نحدق في النماذج، بل لدينا الآن تصويرات بيانية visualizations بالمتناول تمنحنا المزيد من الثراء والحدسية، ومن نواحٍ متعددة معنىً حقيقي لماهية هذه النظم المعقدة”. استعير مفهوم اللاخطية في النظم من الرياضيات، فناتج النظام اللاخطي غير متناسب مباشرة مع مدخلاته، وكما هو معلوم معظم الأدوات الرياضية خطية، الحساب، الجبر، التفاضل، أما الأدوات الجديدة فهي اللاخطية والفركتال والفوضى والنماذج البصرية، يبدو أن المعادلات الخطية غدت قاصرة عن فهم العلاقات والشبكات والانبثاق والفوضى والعدد المهول من المتغيرات والسلوكيات اللامتوقعة؛ يقول كابرا بهذا:
“عندما نقوم بحلِّ معادلة لاخطية بواسطة هذه التقنيات الجديدة لا تكون النتيجة صيغة حسابية بل شكلٌ بصري، نموذجٌ يرسمُه الحاسوب. لذلك فإن الرياضيات الجديدة هي رياضيات النماذج والعلاقات. إن ما يدعى “جواذب” أمثلة على هذه النماذج الرياضية؛ فهي تصوِّر ديناميَّات منظومة ما بواسطة أشكال بصرية مرئية.“

النماذج/النمذجة في الأنظمة المعقدة ليست لـ “التنبؤ” بالمقام الأول، خصوصاً مع عبثية هذه الفرضية على المدى الطويل وعلى المستوى الصغروي تحديداً، ما تستهدفه النمذجة هو “شرح” الأنظمة المعقدة، لن يأتي متحذلق ليقترح على النمل طرقاً أفضل لإيجاد الغذاء. نرى على الجانب مثال على النموذج القائم على الوكيل، agent-based model، بعضها بسيطة مبنية على قواعد سلوك بصيغة تعبيرات شرطية “if-then”. الوكيل هنا هو العنصر أو العامل الفاعل وقد لا يكون بالضرورة فرداً واحداً.
تقوم هذه النماذج بمحاكاة أفعال وتفاعلات وعلاقات الوكلاء أو العناصر في بيئة ما أملاً في فهمه، عقلانية هؤلاء الوكلاء محدودة، ويتخذون قرارات لمصلحتهم الذاتية، كما أنهم ذاتيي الانتظام، قد يتواجد هؤلاء الوكلاء في الزمان والمكان ويقيمون في شبكات أو في أحياء تشبه الشبكة، تُرمّز بعدئذٍ مواقعهم وسلوكياتهم على شكل خوارزميات في برامج الكمبيوتر، وبذلك تتولد أنظمة ذات تعقيد يشبه تعقيد العالم الحقيقي ويصعب فهم النظام من خلال الوكلاء؛ تماماً كما لا يمكننا فهم فريق كرة القدم عبر الأفراد، بل عبر الانبثاق الناتج عن تفاعل الأفراد. أشرنا فيما تقدم للشبكات ومخطط الصلاحية والخوارزميات الجينية وزد على ما سبق الشبكة العصبونية الاصطناعية، وهن نماذج تستخدم أيضاً لمحاكاة النظم المعقدة، إضافةً إلى الأتمتة الخلوية، نموذج الفصل لشيلينغ، معضلة السجين في نظرية الألعاب، برامج محاكاة للواقع كالمجتمع الاصطناعي، اللعبة الجادة، Boids، Sugarscape،…الخ، وجميعها نماذج قائمة على الوكيل.

لعبة الحياة التي أتينا على ذكرها مثال لما يدعى الأتمتة الخلوية، هذه الأخيرة مثال على الوسائل الرياضية الجديدة لقدرتها على التقاط ونمذجة ومحاكاة الأنظمة المعقدة والأنظمة التطورية الديناميكية.
إن الرياضيات أداة من بين أدوات أخرى كاللغة الكتابية علاوةً على خطوات علمية كالملاحظة والتجربة والتحقق/التثبت والتنبؤ، تزيد أهمية الرياضيات بحسب التخصص، استخدام الرياضيات وحسب ليس بحد ذاته علماً، (انظر الجدل بين الرياضيين والفيزيائيين). إذا كان موضوع الدراسة كوكباً يهيم في الفضاء بمسارات معينة بلا إحساس ولا عقل ولا تجربة ذاتية، فيمكننا اللجوء للميكانيكا الكلاسيكية وصياغة خوارزميات لوصف تلك الظواهر، لكن كلما اضطلع الإنسان كفاعل، كتجربة ذاتية وكموضوع دراسة، كلما ازدادت صعوبة تطبيق الخطية والنماذج التحليلية، وحتى النماذج المذكورة تحاول تمييز الأنماط واستكشافها إلى حد تقريبي وكخادوم بالدرجة الأولى. كلما ازداد التعقيد وازدادت العشوائية لا يغدو المنهج التجريدي كافياً، لا ولا تقبض النماذج الإحصائية جمرة الحقيقة المطلقة، فلا يمكن تطبيق نهج تجريدي صارم على لعبة يكون فيها البطل الإنسان العفوي والغريزي والمتغير، الإنسان ليس آلة ولا يمكن التنبؤ بسلوكه، أضف عليه إنساناً آخر وآخر … ضد آخرين، حكم، وكرة تتنطط وتحلق، ثم العوامل الخارجية من مدرب وجمهور وطقس وأرضية. “لهذا السبب يمكن أن يعطينا العلم إجابة عن سلوك جزيء الماء أو نواة نجم ولكن ليس عن سلوك بني آدم” يقول جون غريبين. في الاقتصاد، أثبت عالم الرياضيات آلان ليويس في منتصف الثمانينات أنه لا يمكن -لكائنٍ من كان- إجراء الحسابات الموصوفة بالعقلانية التامة perfect rationality وهي طريقة اتخاذ قرار في الاقتصاد التقليدي تفترض إحاطة الفاعل بكافة المعلومات ومتبعاً خطوات منطقية. “وهكذا” -وفقاً لآلان ميلز- “بصرف النظر عن مدى تطور قواعد سلوكهم، لا يمكن للعناصر في نظام معقد (مثل البشر) أن يكونوا عقلانيين تماماً. لذلك، بالنسبة للأنظمة المعقدة في العالم الحقيقي مثل الأنظمة الاقتصادية، فالعقلانية التامة محض خيال”. يتعامل عالَم الاقتصاد التقليدي المُحدث مع البشر كما لو أنهم حواسيب تتصرف بموضوعية، بالمقابل صاغ هيربرت سايمون مفهوم العقلانية المحدودة bounded rationality أين اقترح نهجاً سلوكياً، فالبيئة ومحدودية المعلومات والوقت واللايقين -كقيود- تدعو إلى حلول مرضية لا مثالية. يحث الاقتصاد السلوكي على دراسة واستبصار عالم الاقتصاد كما هو وليس كما يراد له أن يكون، هذا لأن الفاعل واللاعب الرئيس فيه هو الإنسان، وميزان الربح والخسارة مرتبط بنقاط مرجعية شخصية كما استنتج كانيمان وعاموس تفيرسكي (انظر المراجع). لعل الانهيارات الاقتصادية أدت دورها في إيقاظ الاقتصاديين التقليديين من غفلتهم عن حقيقة أن علم النفس والسلوك اللاعقلاني يلعبان دوراً أكبر بكثير كما يصرح عالم النفس والاقتصاد السلوكي دان آريلي، “واحداً تلو الآخر، كقطع الدومينو، تساقطت البنوك المؤسسية -التي يعمل بها اقتصاديون رائعون (عقلانيون) أذكياء، أولئك الذين اتبعوا النماذج القياسية”. وفي نفس الصفحة يضيف السائر على خطى كانيمان وتفيرسكي وريشتارد ثالر أنه “[…] نظراً لطبيعتنا الخطاءة النزواتية، وميولنا اللاعقلانية، يبدو لي أنه ينبغي أن تستند نماذج السلوك، والأهم، أن تستند توصياتنا للسياسات والممارسات الجديدة إلى ما يفعله الناس فعلاً، وليس عمّا ينبغي عليهم فعله في ظل الافتراض بأنهم عقلانيون تماماً.”
لكم أن تحزروا من أين أتت فكرة الـ money ball؟ … أثر مجال الاقتصاد المتخم بالنماذج والعروض البيانية والبصرية على متخذي القرار في الرياضات الأمريكية، تسربت لاحقاً نحو كرة القدم، -ولها إيجابيات بالطبع كخادوم/بروكسي- ولكنها حطّت بواقع الأمر من العقل/الذات، يتضح أن غياب خلفية فلسفية رصينة توقع المرء في أغاليط فاتكة -كما سنرى مع ماكنامارا- لعل أهمها بيع فكرة الموضوعية وإقصاء الذات، وعليه آرائهم لا تعد آراء بل نصوص مقدسة مرتلين العبارة التالية: بلا داتا/بيانات لست إلا شخصاً لديه رأي. لطالما قلت بأن الفتى يبدأ برأي أو فرضية أو مقدمة ويعززها بالأرقام وليس العكس، في ظل ضخامة البيانات جونز وسيلبيرزان يشددان على أن “الحل الوحيد للتعامل مع هذا البحر من البيانات هو أن يكون لدينا فرضيات، أي أن يكون لديك رأي يوجه البحث حول كتلة البيانات”. بالنسبة لبيتر دروكر فـ “لا ينبع القرار الفعال، كما تدعي العديد من النصوص المتعلقة باتخاذ القرار، من توافق في الآراء بشأن الحقائق. إن الفهم الذي يقوم عليه القرار الصحيح ينبع من تصادم وتضارب الآراء المتباينة ومن التفكير الجاد في البدائل المتنافسة. إن الحصول على الحقائق أولاً أمر مستحيل. لا توجد حقائق ما لم يكن لدى أحد معيار صلة بالموضوع”. لا يمتلك الطاهي/الرسام/الفنان بيانات ليثبت أي شيء في صميم حرفته، برأي دروكر “عدم إبداء رأي بعد التعرض لمجالٍ ما لفترة طويلة ينم عن عين غير ثاقبة وعقل كسول”. يا ترى ما الحقائق التي سيستند عليها الطاهي الماهر؟ هل هناك ذوق معياري يعتمد عليه؟ الطهي مهنة تنطوي على الفن ومعرفة الطاهي معرفة تجرباتية (heuristic حدس مهني) قائمة على الخبرة، على فطرة سليمة لا يداخلها تحذلق، أسلوب المدرب وتفضيلاته هي تحيزات، يبحث المدرب عن الطريق المرضي -وليس المثالي- في انتهاج اللعب والتدريب بناءً على تراكم خبراته ومعرفته، فيما يحاول بعضهم تجنب الخسارة أو تجنب المخاطر كسلوك أميل إلى الاعوجاج… استخدام سبل خوارزمية بخطوات محددة لتطبيق أسلوب معين لا يبدو متاحاً في كرة القدم كمجال لا محدود ومنفلت عن السيطرة. التجرباتية بلغة كانيمان تعني إرشاديات الحكم كحلول عاجلة لمشكلة ما، إذ خط خطاً فاصلاً عمّا يسميه بحدس الخبير، إلا أننا نرمي لكلتيهما هنا وخصوصاً الثانية، يستطيع المدرب التفكير ببطء وتمعن واستخدام طرق منطقية وخوارزمية ولكن أمام سيل المعلومات سيكون كحمار بوريدان الذي أردته التحليلات المفرطة قتيلاً، عندئذٍ، نصل أوكام سيكون عاملاً جوهرياً في تعيين أسلوب معين وتقفي معلومات معينة، يَحسب البعض أنهم سيتغلبون على لايقينة وغموضية اللعبة بجمعهم كمية هائلة من المعلومات، من قبيل تمييز استعدادية اللاعب بمعلمات بدنية أو التعرف على أسلوب الخصم ببيانات واحصائيات فضفاضة. أما اللاعب، بالمقابل، فمقيد بزمن وتصفية معلومات وحالة نفسية…الخ، بحيث تكون “إرشاديات الحكم مفيدة جداً، إلا أنها تقود أحياناً إلى أخطاء منهجية جسيمة” بلسان كانيمان، الشطر الثاني يمكن إسقاطه على المدرب، أما اللاعب فسيخطئ وسيخطئ وسيخطئ. من ذلك، على المدرب أن يتعامل مع اللاعب وفق هذه القيود، ولا يخال له أنّ اللاعب قادر على نقل ما قيل له أو وصف له على أنه حل “أمثل” بيسر.
“تتضمن الإجراءات الحسابية تحديد جميع الحالات التي تعد حاسمة في اختيار العمليات المزمع تنفيذها، وذلك بغاية احتضان جميع الظروف الأولية المحتملة، في حين يمكن اعتبار التجرباتية فن الاستكشاف (موران، 1973) أو علم إيجاد الحلول (موليه، 1995). وكيما تكون فعالة، يجب أن تأخذ الخوارزمية -المتعلقة بلعبة كرة القدم- في الاعتبار جميع البدائل الممكنة، وهذا يتعارض مع العشوائية وعدم القدرة على التنبؤ في المواقف العديدة والمتنوعة التي تحدث أثناء اللعب. عوضاً عن ذلك، تبدو الإجراءات التجرباتية -لأنها لا تدافع عن مثل هذا التدقيق- أكثر ملاءمة لطبيعة اللعبة التي لا يمكن التنبؤ بها تماماً (غروهاينييه، 1992). رغم ذلك، كما يفيد غارغانتا (1997)، فقد أثبتت الخبرة أن كلا الإجراءين مهمان فيما يتعلق بتحديد وتفسير الإجراءات العديدة التي شكلها اللاعبون والفريق على مدار تاريخ اللعبة. تظهر الإشكالية بشكل خاص على مستوى التكامل والتوافق ما بين الإثنتين.” –أوليفيرا وغارغانتا وتوليدو
ليس هناك أسلوب مثالي في نشاط ككرة القدم، رؤية الراصد (المحلل أو المتفرج) وتمييزه لهذا الأسلوب أو ذاك رؤية ذاتية، يتميز البعض بفراسة وحدة نظر وآخرون لا، مدعمة بممارسة وتدريب ومشاهدة وتدقيق واستكشاف لا تأويلات اعتباطية. الطاهي ليس عالماً منخرطاً بأبحاثه ونظرياته وتجاربه بل وقد لا يعرف شيئاً في الكيمياء، مدرب كرة القدم ليس عالماً وقد لا يتساءل كيف يحدث التعلم أو كيف ترتفع اللياقة أو كيف يتعامل مع اللاعبين باختلافهم بلا مطالعة لعلم النفس، بيد أنه قادر على التعليم وعلى تجهيز اللاعب من كافة النواحي مستعينا بمتخصصين بمجالات تتداخل واللعبة، ولكن شريطة ألا نحيد عن الجادة كما يحذرنا جوليو غارغانتا: “نظراً لأن كرة القدم ليست علماً، فيمكن أن تستفيد كثيراً من المساهمات العلمية، طالما التزم الباحثون بقاعدة ذهبية: احترموا خصوصية اللعبة، مما يعني أنهم يجب أن يتوخوا الحرص كي لا يشوهوا المصفوفة التي تمنحها الهوية”. أولئك المتخصصين علاقتهم بتجهيز الفريق ارتباطية وليست سببية، أكثر ارتباطاً بقليل من ارتباط المهندس الزراعي بأرضية ملاعب الفريق.
“مساري التدريبي كان 3 سنوات في علوم الرياضة، وبعد ذلك سنتين في منهجية كرة القدم. ذلك أن علوم الرياضة تأخذنا إلى جادة لا نستطيع فيها أن نستوعب هل وأن كرة القدم رياضة أم علم، كرة القدم ستبقى دائماً، دائماً “رياضة” على الأقل من وجهة نظري.” -جوزيه مورينيو
تتطلب اللعبة أولاً الرصد قبل القياس، التجرباتية قبل الخوارزمية، تأويلية/هرمنيوطيقية أكثر من كونها وصفية، تقييم العملية عوضاً عن تقييم الوضع الراهن أو الحدث. وبوصفها مجالاً إنسانياً -أي تحت سقف العلوم الإنسانية، وليست علماً دقيقاً- فهي أميل للكيفيات من الكميات، ماذا وإلا اكتفينا بحفنة تكنوقراط تدير الفرق بدلاً من الاستفادة من خدماتهم الكمالية. سأحرف أنالوجي الرجل الأعمى والرجل الكسيح لشوبنهاور، يمكننا اعتبار الرجل الأعمى النماذج والخوارزميات التي لا ترى، والرجل الكسيح النظر والتبصر، الأعمى وسيلة والكسيح هو المرشد، يبدو أننا نحط من قدر العقل/الذات بهذا التمثيل، ذلك أن كل النماذج والإحصائيات تبدأ من الإنسان، من العقل، ولا تتخلق من تلقاء ذاتها أو تتكشف بتشكيلات الغيوم، بهذا ينجلي فساد الموضوعية المطلقة التي “يحلم بها” محلل بيانات ساذج. اللاعب ليس آلة، الإنسان ليس آلة، بناء على مدخلات معينة سنحصل على مخرجات محددة، كرة القدم -رغم فرادتها- ليست قائمة بذاتها بل عابرة للتخصصات سواءً بوصفها رياضة، لعبة، مجال إنساني، اجتماعي، نفسي…الخ. بالنسبة لغارغانتا وزملاؤه فمن المهم إفساح المجال لنوع آخر من النهج، ذو طبيعة نوعية. رصد السلوكيات ينطوي على خطوة مقارباتية من أجل الكشف عما يكمن وراء المظهر القابل للقياس أو “المرئي فقط” أو “المعروف بالفعل”. وهذا يعني الابتعاد عن العفوية إلى تصور تخصصي، وبالتالي تمييز المعلومات ذات الصلة من أجل الانتقال من “النظر” إلى “المعرفة”. عندئذٍ، نعي أن الذات هنا ليس مجرد إنسان غريزي تلقائي بل إنسان متعلم مثقف يفهم كرة القدم، مارسها وحللها، لا يمكن اعتبار حدس الخبير المتمرس لا عقلاني يخبرنا الموسوعي هيربرت سايمون (انظر المراجع) فعلاج المشاكل مبني على عملية تحليلية بمعية تلميحات ذهنية أو استحضار معلومات مضمرة في الذاكرة، أي أن القرار يتخذ بناءً على معرفة سابقة واستنتاج منطقي، وليست بالضرورة خبط عشواء، يقول الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أنه “من الخطأ التفريق بين الإدارة “التحليلية” أو الإدارة “الحدسية”. الحدس والحكم -على الأقل الحكم الجيد- مجرد تحليلات محفوظة في العادة وفي القدرة على الاستجابة السريعة من خلال القدرة على التمييز”. ثم يضيف “لا يمتلك المدير الفعال رفاهية الاختيار بين النهج “التحليلي” و “الحدسي” للمشكلات. إن التصرف كمدير يعني التحكم في مجموعة كاملة من المهارات الإدارية وتطبيقها عندما تصبح مناسبة”. متخصصو كرة القدم إن صح لنا هم رجال كرة القدم، وأنا لا أتحدث عن الرُخص، فهي كما رخص قيادة السيارة ليست إلا إقراراً بقدرتك على القيادة وليست مقترنة ببحث علمي أو فهم للميكانيك، مدرب أو محلل كرة القدم ليس متخصصاً بالمعنى الصارم، فما هي نظرية كرة القدم؟ على ما تستند؟ ما هي المنشورات العلمية -المنشورة في المجلات المرموقة- التي تتحدث عن كرة القدم من حيث هي كرة القدم؟ لا يوجد. ما ينشر هو التحليل الحركي وما هو متعلق بعلم الرياضة والأداء وعلم النفس التربوي والرياضي، أو الكرة بوصفها مقذوفاً في الفيزياء والديناميكا الهوائية، ليس ثمة علم اسمه علم كرة القدم، المدرب يتعلم من التخصصات السابقة وقد يكون متخصصاً بأحدها، لكن الأساس هو أن يفهم كرة القدم، تفاعل وتحرك وتغطية وتبوء مساحات ولعب مركزي وضغط ومراقبة …الخ. ثم دور اللاعب في تطبيق ما سبق علاوةً على المراوغة والخداع وهو الجزء الغالب في اللعبة.
تلاحق النماذج الكرة وحسب، أي نموذج سواءً دفاعياً أو هجومياً، نستثني المعلمَات البدنية التي تستخرج المسافة التي قطعها اللاعب ولا تحفل بأين ولماذا، بل تحفل بالكم والسرعة ليس إلا. إحصائيات التمرير تخبرنا بوصول الكرة للمستلم، ولكن ليس بأي وضعية وأي حال وهل المستلم مُساند أم معزول، لا أتحدث عن تخطيها وكسرها للخطوط لأن حتى هذه التمريرات قد تكون غير ذي جدوى، تمريرة عالية تتخطى العديد من اللاعبين ولكن قد لا تضيف أي شيء للهجمة، وتصور أن مستلم الكرة الهوائية كان تحت ضغط ثم استلمها وخطى بها خطوة أو اثنتين ثم قطعت أو فلتت منه، التمريرة وصلت ولكن الوضعية ليست مريحة للمستلم، يمكن أن تتجاوز الكرة 4-5 لاعبين صوب لاعب معزول. الأهداف المتوقعة تخبرنا عن احتمالية ولوج التسديدة للمرمى، ثم إن اللاعب صاحب المعدل العالي من الأهداف المتوقعة يسجل من الفرص الأكثر سهولة، وليس من أنصاف الفرص كما نهلل أحياناً، ما الأفضل هنا؟ التمريرة الحاسمة المتوقعة xA أو ما قبل ذلك من تمريرات في البناء xGB أو سلاسل الاستحواذ التي أدت لتسديدة xGC ليست أكاسير كرة القدم، تبدو أفضل من غيرها إحقاقاً للحق. لكن ماذا عن اللاعبين غير المضطلعين بالهجمة؟ أو المضطلعين بالهجمة وربما أثروا بها دون أن يمسوا الكرة؟ ماذا عن نواياهم، هل يمكن نمذجة ما هو داخلي؟




يصعب صياغة النواحي التكتيكية والفنية والتحفيزية بمعادلة أو مقياس “metric”، قد نستطيع تجميع بيانات ومعلَمات من ناحية بدنية وفيزيولوجية، فبعضها هام صحياً، أما كروياً وتكتيكياً فتحتاج لعين ثاقبة، يعلم المدرب من هم أنسب اللاعبين إذا كان يملك أسلوباً معيناً، لا يجلب غوارديولا لاعباً بناءً على عدد تمريراته الصحيحة أو حتى التمريرات المفتاحية أو الكاسرة للخطوط، بل عمّا يراه من سلوك: تمركز وكيفية استلام ومقاومة ضغط وحركة ناجعة وتبصر للمساحة، وإلى أين يمرر. من يستقطب بناءً على الإحصائيات كمن يبحث عن الطاهي الأفضل بناءً على الإحصائيات وليس على الذائقة… أو كأننا نعين موظفين بناءً على درجاتهم، لا على معرفتهم، الأمر الذي اعترفت غوغل بتهافته. من أفضلُ مغنٍ؟ إحصائياً من يتصدر أعلى المبيعات أو معدل الاستماع أو عدد حضور حفلاته، ذوقياً وحتى موسيقياً قد يكون مستواه متدنٍ. تصميم مقاييس معينة هي أمور للتسهيل ولاختصار الوقت، وهي رافد لا أصل. ثمة مشكلة مع بعض الإحصائيين وليس الإحصائيات، ذلك أنهم عالقون بمغالطة الكمية أو مغالطة ماكنامارا والأخير هو وزير الدفاع الأمريكي السابق إبان حرب فيتنام والذي اعتمد حصراً على الإحصائيات متجاهلاً ما لا يمكن قياسه، الأمر الذي أدى لخسائر وخيمة، يقال بأن ماكنامارا أخبر ضابط القوات الجوية إدوارد لانسديل أنه لا يستطيع قياس المشاعر، لذا لا يجب أن تكون مهمة. بهذا يحذرنا كوكيير وماير-شونبرغر أن “استخدام البيانات وإساءة استخدامها من قبل الجيش الأمريكي أثناء حرب فيتنام تُعد درساً مقلقاً حول محدودية الداتا/المعلومات بينما يتجه العالم نحو عصر البيانات الضخمة. فقد تكون البيانات المضمرة ذات نوعية رديئة، وقد يشوبها تحيز. يمكن أن تُحلل بشكل خاطئ أو تُستخدم بشكل مضلل. والألعن هو أن البيانات يمكن أن تفشل في التقاط ما تدّعي تحديده كمياً.”
قبل إسدال الستار، يجب أن نتعلم في كرة القدم من النهج السلوكي في الاقتصاد ولكن بتفسير مختلف، ضع بحسبانك أن الفاعل في الاقتصاد -كمستهلك أو كمستثمر- لديه متسع رحب من الوقت بالمقارنة بكرة القدم، في لعبتنا الوضع أعقد بكثير، اللاعب يقرر في معظم الأحيان بجزء من الثانية، فنماذج مثل الخوارزميات الجينية أو الشبكة العصبونية الاصطناعية تُطبق في تعلم الآلة وليس البشر في وغى اللعب وتعرضنا لها كان تشبيهاً، على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي طُور عبر محاكاة آليات طبيعية، إلا أن سرعة وفعالية وتقفي نطاق أكبر من الخيارات -لقدرتها في معالجة البيانات الضخمة- قد يكون أفضل في معظم الأوقات لدى الآلة. اللاعب لا يحسب المسافة أو السرعة أو ينشغل بأي قانون فيزيائي قبلما يمرر الكرة، هو يقوم بتلك العمليات عفوياً وفي التو واللحظة، ولا يجدر بالمدرب العمل في تدريباته كما لو كان اللاعب يتصرف بعقلانية خالصة، اللاعب يقوده اللاوعي ويستخدم آليات مختصرة في اتخاذ القرار، وأي تصرف مرغوب ينبغي أن يرسخ في اللاوعي حفظاً واستيعاباً وهذا ما سنرجئه لمقال منفصل. كرة القدم ستبقى أبداً لعبة عتيقة كما يصف دانتي بانزيري، وأي نهج مزعوم العصمة والدقة لا يوجد إلا في عالم المُثُل الأفلاطوني، فلننزل للواقع الأرسطي، للذاتية وللرأي المدعوم بالبيانات والمعلومات.
كلما كانت الرياضة أكثر تعقيداً، تضاءلت الثقة في الأساليب القائمة على الإحصائيات فقط. هذا لا يعني أنه يجب أن نتبع حدسنا فقط. وهذا يعني أنه يجب أن نبدأ بمعرفة ما نعنيه عندما نقول إن كرة القدم معقدة.“ -دافيد سمبتر
التعقيد ليس محض صفة، هذا ما اعتقدته عندما كنت أقرأ عن التحقيب ولمحت بكتاب كارلوس كارفاليال “developing a know how” تصدير فلسفي مقتضب لمست منه أنه ينبغي أن أبحث عن هذه الكلمة complex systems، عالمٌ تعددت مشاربه فُتح لي… على ما أظن. مصدر التعقيد في كرة القدم نابع من التفاعلات والروابط ما بين اللاعبين منذ التمريرة الأولى في هذه اللعبة في القرن التاسع عشر وليس نابع عن المدرب، المدرب قد يعقد complicate الأمور، أعاد لي هذا جملة لا أتذكر أين سمعتها: “فزنا رغم وجود المدرب”، أحياناً يكون المدرب مصدر تعقيد غير نافع. التعقيد ليست صفة حسنة وليست بالسيئة، وقطعاً ليست مديحاً، بل هي توصيف موضوعي للعبة، التعقيد تراكب أشياء/عناصر/أجزاء تتواصل وتتفاعل وتؤثر وتتأثر وينبثق عنها أنماط وبنى وهياكل يمكن تمييزها. يجدر بنا دراسة التعقيد بعيداً عن مبادئ العلم الكلاسيكي الثلاثة: الحتمية والاختزال والفصل، ذلك أننا سنمنح الأولوية للدراسة النوعية وتمييز الكيفات والعلاقات والنظام، عوضاً عن الكمية، والمادة والمكونات. منظور التعقيد والرؤية النُظُمية سينمي استيعاباً أكبر للعبة، كمدرب أو كمحلل أو كمحاضر بل وكلاعب. آمل أن هذه المقاربة النظمية للعبة والتقدمة للتعقيد أبانت لك عزيز القارئ أن التعقيد بالرغم من فضفاضية هذه الكلمة إلا أنها خاصة ومحددة حينما يُقال: نظام معقد.
المراجع
كتب موران: 1: الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المركب. 2: المنهج ؛ معرفة المعرفة: أنثروبولوجيا المعرفة (الجزء الثالث).
RESTRICTED COMPLEXITY, GENERAL COMPLEXITY. EDGAR MORIN (مقالة)
INTRODUCTION A LA PENSEE COMPLEXE. Morin, Edgar.
Seven complex lessons in education for the future, Edgar Morin.
JOURNEY INTO COMPLEXITY, Alberto F. De Toni, Luca Comello.
Complexity: The Emerging Science at the Edge of Order and Chaos. M. Mitchell Waldrop.
http://maaber.50megs.com/issue_august03/deep_ecology1a.htm
Using network science to analyze football passing networks: dynamics, space, time and the multilayer nature of the game. J.M. Buldu, et al.
Timescales for exploratory tactical behaviour in football small-sided games. Angel Ric, et al.
Complexity Science. An introduction (and invitation) for actuaries. Alan Mills.
https://www.jstor.org/stable/1914185?origin=JSTOR-pdf. Daniel Kahneman and Amos Tversky.
Predictably Irrational : The Hidden Forces That Shape Our Decisions. Dan Ariely.
https://www.technologyreview.com/2013/05/31/178263/the-dictatorship-of-data/. Viktor Mayer-Schönberger and Kenneth Cukier.
THE Effective Executive, The Definitive Guide to Getting the Right Things Done. Peter Drucker p143,144.
Making Management Decisions: the Role of Intuition and Emotion By Herbert A. Simon Carnegie-Mellon University.
HIDDEN ORDER, How Adaptation Builds Complexity. John H. Holland.
Complexity a Guided Tour – Melanie Mitchell.
اترك تعليقًا