ملاحظات حول أسلوب شاختار…

الكرة الجميلة عملة نادرة في يومنا الحاضر، ما يجعل الناظر في حال الكرة اليوم يردد عبارة الأديب إدواردو غاليانو: “…أنا مجرد متسول أطلب كرة قدم جيدة. أمضي عبر العالم حاملاً قبعتي وأتوسل في الملاعب: -مباراة جيدة حباً بالرب”.

شكراً لله أن هناك غوارديولا والذي بلا إدارة متفهمة لعانى كغيره، فإذا تبنت الإدارة فكرة المدرب فيجدر بالإدارة أن تستمع إليه وتتشارك النجاح كما تتشارك الفشل، ولو أن إدارة الفرق فنياً ينبغي أن تتسامى على المدرب من حيث وجود ثقافة اللعب علاوة على المنهجية التدريبية التي تقتضي الاستمرارية وليس لمدرب بعينه؛ أياكس وبرشلونة كأمثلة. وعلى أي حال هناك ظواهر تدريبية كبيب وكلوب بنهوج مختلفة مع تبجيلي لبيب من نواحٍ عديدة. ثم هناك أنتشيلوتي وفيرغسون وغيرهم ممن هم قادة ومدراء أكثر من كونهم منغمسين باللعب والأساليب والانضباط التكتيكي، ولا تقلق، هم أيضاً لديهم خطط واستراتيجيات ولكن فرقهم لا تملك هوية متميزة يقف خلفها تدريب وتدقيق، الهوية التي يراها البعض توهماً على أي فريق هذه الأيام حتى بعد أسبوع واحد من التدريب، الهوية بالنسبة لي نتاج وقت وثقافة وخصائص لاعبين لا أجدها في فريق يصطف بشكل 4-3-3 ويقوم بأمور يقوم بها أي فريق في أي درجة ومستوى.

لازت أتذكر ذهولي لمقطع لفودجا دي دزيربي نشره جوزيبي مايوري على تويتر في 2016 (شخصياً ممتن له معرفياً)، ربما تقلصت اليوم دهشتي الطفولية التي رافقت خطواتي الأولى في هذه اللعبة الممتعة القبيحة المتناقضة التي لا تعترف بالأداء. على أي حال لا زلت أندهش حينما تلعب فرق غوارديولا ودي دزيربي من بين آخرين، دي دزيربي يبدو تلميذاً نجيباً لغوارديولا منذ أن كان في فودجا، آنذاك كشّر عن ظاهرة تدريبية محتملة. ظهور فرقه كما فرق غوارديولا تُنبي عن وصول رسائله وقدرة تدريبية لا تناقش. وإن كانت فرقه تبدي أنماطاً معينة إلا أنها ليست مبنية على الأنماط بقدر ما هي مبنية على اللعب المتناسق الذي يسبقه هيكلة وتمركز ومحفزات معينة تستدعي استجابات معينة بين الزملاء نراها في أنماط حركتهم، لاعبيه ربما يخضعون لمحاضارت تكتيكية وليس إلى أوامر ونواهي وحسب. هذا النوع من المدربين يكيف اللاعبين بمقدّراتهم بالطبع وليس مما هو ليس لديهم، وحينما يمتلك اللاعبين الخطأ، إن كانوا صعبي المراس أو غير منفتحين أو لا يمتلك المهارات المطلوبة في هكذا أسلوب فالفريق سيكون الضحية، يقع اللوم على الإدارة في اختيار المدرب وتتضاعف المسؤولية حينما لا تستمع إليه، المدرب هنا ملام كذلك فالتكيف سمة هامة في لعبة ليس بطلها المدرب، التكيف لا يعني التغيير الكامل للأفكار بل البحث عن طرق للوصول للاعبين ضمن نفس الأفكار أو التنازل عن جزء منها وانتظار سوق الانتقالات. اللاعب بدوره مسؤول تجاه المدرب كون الأخير وسيط لجعل اللاعب “لاعبَ فريق” لا يصول ويجول بسياق يخصه وحده، اللاعب في كرة القدم يصعب اعتباره حراً كما لا يجدي اخضاعه واستعباده، نعلم أن النظام المعقد “كلٌ” ليس مجموع أجزائه بل أكثر من ذلك وتلك هي التفاعلات والعلاقات والروابط والصلات بين اللاعبين، لكنه أيضاً “أقل” من مجموع أجزائه لأنه يأخذ من الفرد، فاللاعب لن يتجول في كل مكان، لكل لاعب حصته في الرقعة الخضراء، كما ولا يظهر كامل ترسانة مهاراته، لنقل -مثلاً- أن قلب الدفاع المراوغ لن يستعرض مهاراته بما أنه بموقع لا يسمح له بذلك، الظهير سيقلل من ذلك وفقاً لموقعه والمهاجم ليس مضطراً لتسجيل مقصيات وهوائيات كما يحلو له، بل سيأخذ النظام منه هذه المزايا من أجل الفعالية ومن أجل الغايات المرجوة من كل تصرف وفعل.

فلنرى كيف ظهر شاختار عند الاستحواذ أمام هايدوك -خصوصاً- مع وضع ظروف الفريق بالاعتبار.

شاختار يلعب لعب مركزي كما يقول الكتاب، غير أن شبان دي دزيربي يتبادلون المراكز بين الفينة والأخرى، والمراد هنا تبادل مراكز مقصود لا حلول ارتجالية. وحين أقول لعب مركزي فأعني الالتزام بالتمركز وفقاً للحالة ومكان الكرة ومكان الزميل إذ أن تبادل الأدوار مشروط، لكن كما نعلم كرة القدم نظام يتجه نحو العشوائية وأفضل الفرق هي التي تعالج هذه الحالات وهي التي تنتظم كما ينبغي للمفارقة.

الشكل العام هو 4-2-3-1 ينطلق منها الفريق لتشكلات مختلفة من 4-4-2 و 2-4-4 و 4-3-3 بل و2-3-5. القلبين غالباً قريبان من بعضهما، الظهيرين للداخل يخرجان للخارج وفقاً لاعتبارات معنية، زوج محاور غير متناظري الأدوار فأحدهما (#4 بوندارينكو) أكثر تنقلاً وتجوالاً، أما الجناحين فيلازمان خط التماس في كل طرف، خلف مهاجم وأمامه مهاجم، سولومون هو المهاجم غير أنه هو الآخر يسقط باستمرار للربط على الجهة اليمنى عادةً.

الفريق بحالة استحواذ، رغم ذلك نستطيع رؤية هيكل حصين في حالة فقدان الكرة، ما يبدو وكأنه تغطية وقائية هو تمركز يلبي استمرار تناقل الكرة.
قبل نشري للمقال تفاجئت بأن دي دزيربي يشجع لاعبيه على هذا التكنيك المشهور لدى لاعبي الصالات ويمكن ملاحظته لدى الحراس…(انظر: https://twitter.com/AhmadGamal1907/status/1538195385335914496)

يتسم شكل شاختار بمستطيل ذهبي بين لاعبي العمق، (ثمة خطة في الثمانينات تسمى بالمستطيل الذهبي بتشكل 4-2-2-2 ولا أقصدها هنا). يحتفظ هذا المستطيل بتقارب ولكن دون تسلل أي لاعب لمنطقة زميل آخر، أي أن المحورين مثلاً يقفان خلف مهاجمي الخصم وأمام وما بين محاورهم، المهاجمان سيان كذلك بين الدفاع والمحاور، والهدف بالطبع تخطي الخطوط والتفوق مركزياً بلاعب حر بين الخطوط بغض النظر عن المسافة، فاللاعب حر ما دام استلم الكرة وتوجه للمرمى دون وجود معارضة أو امتلك وقتاً لتمرير بينية أو أي سلك أي سلوك تهديدي. الظهير يضم للداخل أيضاً ما يوحي بتركيز شاختار على اللعب بالمساحات الضيقة في مراحل اللعب الأولى ثم انطلاقات الجناحين القطرية لاستقبال البينيات وكذلك توغلات المهاجمين الحاسمة إذا ما أفلحا في سحب المدافعين نحو المنطقة المكتظة التي شيدها رجال المدرب الإيطالي. عندئذ سنتقارب ككتلة ونرغم الخصم على التماهي معنا، يذكرني هيكل شاختار بهيكل نابولي ساري أو سامبدويا جامباولو، نموذج هجين لدي دزيربي، لنسميه بالـ”كرويفو-ساكياني” حيث يمتلك فريقاً قصيراً وجناحان بعيدان، هذه المناورات المحلية في مساحات ضيقة قد تؤدي إلى تفوق مستقبلي في المساحات الواسعة؛ أي على نطاق كلي (غلوبالي)، سنلعب ها هنا ونتبادل الكرات 1-2 ، أمام خلف فبينية… ثم تبدأ التوغلات في الأمام كحلقة ارتجاعية إيجابية. هذا الأسلوب يتطلب دقة “أكبر” على مستوى اتخاذ القرار وتنفيذ القرار بما أن عامل الوقت يتقلص بتقلص المساحة.

يسعى القلبين اجتذاب الضغط عند بناء اللعب، كما نرى مارلون يقف على كرته ناشداً المنافس للخروج والضغط، التمريرة تعتمد على الضاغط، فإذا غطى ما خلفه جيداً فالحل للظهير الذي سيكون طُعماً لاجتذاب الخصم بتموقعه القريب من القلبين، وإذا لم يكن الظهير متاحاً سيتبادل الكرة مع القلب الآخر “كورنيينكو” مجدداً أملاً باستفزاز خط ضغط الخصم الأول. في اللقطة التالية نرى مارلون يتقدم قطرياً متجهاً للمهاجم الثاني، عندها سيمرر الكرة للقلب الآخر الذي سيجد خياراً متحرراً للأمام أو سيتقدم بها لاجتذاب الضغط وكسره فوراً.

مارلون يتقدم بالكرة قطرياً كنمط.
حلقة جانبية، نزول المحور “المتنقل” بين القلب والظهير، أحياناً يتحرك ويتخذ الظهير #7 تموقع غير اعتيادي، ينطلق قاطعاً أمام الجناح underlap أو يتموقع بين الجناح والمهاجم. الظهير الأيسر نادراً ما قام بذلك.
لاحظ الظهير 7# كونوبليا متقدم ليشغل المنطقة الوسطى بين العمق والطرف.
شاختار عند بناء اللعب في مناطق متأخرة، لا يزال القلبان متقاربان، ونرى مجدداً الظهير الأيمن كونوبليا في المقدمة بما يشبه 2-3-5.
تدوير ومداولة لتفكيك خطوط الخصم حتى ظهور حل للقلب كورنييكو للجناح الأيسر في نهاية اللقطة، أشبه بالمحفز أو المستثير للاعبي الطرف.
أوقف الفيديو في 3:40 ولاحظ سقوط سولومون وتوغل المهاجم الآخر خلف الدفاع، سيمياء بين اللاعبين: بحيث يستثار اللاعب بمجرد استلام الظهير وكشفه للملعب (أي يستطيع التمرير للأمام).
ثانيتين لاحقاً سولومون يهجم قطرياً خلف ظهير الخصم المتقدم للضغط على الجناح نمط حركة نشاهده على الجانبين.
لعبة مشابهة للقطة السابقة: مجدداً اتصال وتفاهم بين الخط الأول والخط الأخير لا يمكن إغفال دور سولومون في سحب قلب هايدوك الأيمن، فهو والمهاجم الآخر في حالة نشاط للربط أو التفريغ أو التوغل القطري للخارج خلف الأظهرة.
يسقط المهاجم الثاني أسوة بسولومون لتشكيل مثلث مع #6 (ستيبانينكو في الدائرة) ومع القلب. هنا المهاجم إما يستلم استلاماً موجهاً أو يصل بالمحور الذي سيستلم بوضعية كاشفة. تمعن بوضعيتهما الجسدية؛ هما يمهدان لهذه اللعبة وستيبانينكو متأهب كرجل ثالث.
الصورة السابقة كانت محاولة فاشلة، هذه المرة لم يوفق الجناح في التقاط الكرة.
أراد محور هايدوك استباق اللعب ومنع وصول الكرة للمحور، سوداكوف #8 فاهمٌ لا بحافظ كما نرى في الصورة التالية، إذ استغل المساحة وتقدم بالكرة ليلعب بينية لم ترى النجاح.

ختاماً، يلعب شاختار باحتياطه تقريباً أدى كذلك لبعض التغييرات في المراكز بسبب الحرب التي ألمت بالبلد. وإن كانت هذه المباريات ودية إلا أنها استرعت اهتمامي، فمع هذه الظروف قدم لنا شاختار كرة مميزة ولا تخلو من فعالية، كرة دسمة ربما تعكس ما يقوم به دي دزيربي في تدريباته، كرة جيدة في عصر الكرة الحديثة التي تقف حداثتها عند التكنولوجيا أو تحول الفرق إلى وحدات عسكرية ممتثلة لا مبدعة، كما يقول بانزيري لا توجد كرة حديثة فإما كرة جيدة أو سيئة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: