نابولي سباليتي ولوبوتكا، نابولي اللانمطي…

بظنهم أن الذكاء يتعلق بملاحظة الأشياء ذات الصلة (كشف الأنماط)؛ في عالمٍ معقد، الذكاء ينضوي على تجاهل الأمور غير ذات الصلة (تجنب الأنماط الوهمية).” -نسيم طالب

حصر المتغيرات في كرة القدم أمر معجز، كرة القدم حياة مصغرة، نسق اجتماعي، بل نظام بيئي، فيه الإنسان البطل الرئيسي، ومن في الملعب يلعب الدور الغالب. من في الملعب لا يهبط إلى الملعب مفرغٌ من المؤثرات الداخلية والخارجية، واحص منها ما شئت. حتى وإن اكتفينا بالمتغيرات التكتيكية والفنية والبدنية، ستعي هول تعقيد اللعبة؛ فلنتصور دقة التمرير، مسار الكرة، توقيت التحرك، التمركز، تعديل الجسد المستمر للسيطرة على الكرة، الخيار المتاح، الضغط الذي يبذله المنافس، الضغط على الكرة المسافرة أرضاً أو جواً التي تتطلب عيناً على الكرة وعينٌ على المنافس، كم من مرة ستعدل مسار الجري لتلحق بالكرة وتحاول الدوران والتوجه للمرمى أو حماية الكرة وانتظار الزملاء، اللاعبون أبطال نظام تكيفي معقد ولا يمكنهم التحكم بكونِ كرة القدم من حيث أنها عالم صغروي. ربما بعض المدربين يريدون تكييف كون كرة القدم على أهوائهم ونسج طرق معبدة جميلة سيمترية “واضحة” في مخيالهم في عالم وعر متعرج مليء بالحفر والعقبات أقصى ما يملكونه هو خط طرق ترابية متغيرة هي الأخرى بسبب عوامل التعرية، وربما لن تُسلك مجدداً.

تزدان الفرق في الكرة “الحديثة” بخطوط وأنماط واضحة أملاً بالتغلب على اللايقين والمجهول لتضاعف الجمود والرتابة، أو هكذا يريد أناس خلقوا صوابية كروية. الكرة “الحديثة” مغلولة بأغلال الميكنة، بأصفاد شيطان لا بلاس الذي يعرف بدقة ما الذي سيحدث في المباراة. نابولي يتخطى الأنماط الآلية والخطة الخرساء، فريقٌ حيوي وإن امتلك الفريق أنماطاً -بوصفه فريقاً إيطاليا طبعاً- فيمكنهم بلا تخطيط مسبق التكيف مع طوارئ اللعب وعشوائيته، الفريق المنمط يسعى لإغلاق نظام مفتوح إذا لم يعتمد على الروابط والاتصالات ما بين اللاعبين، وعلى البيئة الآنية التي يتعاملون معها هناك وحينها، في ظل تدفق اللعب وتدفق قراراتهم اللاشعورية إزاء ذلك. نابولي حديث العالم، طبعاً بسبب النتائج، تمنح الانتصارات المتلاحقة إحساساً مزيفاً بأن الأداء أيضاً جيد وكثير ما يقترن بالامتاع، ربما لأن الفوز بحد ذاته ممتعاً، “فكيف بربك يفوز فريق غير جيد؟” يتسائل أحدهم سؤالاً يبدو وجيهاً ولكن بعيد عن الوجاهة كل البعد. ليس ثمة علاقة سببية وشرطية بين الأداء والنتيجة ولو امتدت لمددٍ في لعبتنا. الاستمرارية وهم آخر من أوهام كرة القدم، لأن النتائج والاستمرارية فيها والأداء في كثير من الأحيان ذا علاقة ارتباطية بالجودة.

نابولي فريق قوي ومتمكن، هذا ما رأيناه في الفترة الماضية، لن يسلب المتربص ما يقوم به البارتينوبيي وإن خسروا الصدارة، وأما الامتاع فنسبي، كنت قد دونت ملاحظاتي عن نابولي منذ مباراة ليفربول، بيد أن ما دفعني أكثر لنشر المقال هو تصريحٌ لسباليتي أو سلسلة تصاريح متلاحقة في الحقيقة، ربما مصدقٌ لما كان يبهرني أكثر بفريقه، فريق بلا أنماط واضحة تملأ عين عاشق الأنماط والرتابة واللاموهبة، وتملأ عين الذي يتفرج ولكن لا يرى، يفوته كل شيء إلا ما اعتادت عينه رؤيته، لـpanenka يقول أوسكار كانو أنه لم يشاهد أي نمط لبرشلونة في كلاسيكو 2-6 بل لاعبين يتراقصون وحسب. نابولي دون أنماط تقريباً، وإنما بظروف بدئية، هي الوصفة التي وجدها سباليتي لشبانه حيث اللاعبون أولاً ثم خططه.

“لم تعد هناك أنماط في كرة القدم، لم تعد المساحات بين الخطوط بل بين مدافعي الخصم. لب الأمر هو معرفة كيفية تمييز المساحات. إجادة التوغل في الوقت المناسب، فالتحلي بالجرأة لبدء العمليات دائماً، حتى عندما ترزح تحت وطأة الضغط.”

تناغم وتفاعل مبني على إرشادات عامة، هكذا يلعب فريق كرة القدم؛ أي حين يكون مكمن التركيز خلق الاتصالات والروابط بين الأفراد. جودة الفريق مرتبطة بجودة الأفراد، هي علاقة جدلية: الفريق – اللاعب، اللاعب – الفريق. جودة اللاعب الفنية/التكتيكية أبداً خصلتان لا تنفصلان لدى اللاعب الموهوب حقاً، “معرفة كيف” أو البراعة مرتبطة بذخيرة المهارات لدى اللاعب وتمنحه نطاقاً أوسع من الخيارات، سيتمكّن حينها من حل المشكلات والتقلبات اللامعدودة كسمة أصيلة في اللعبة، لهذا جدير بنا تفضيل اللاعب الموهوب وليس اللاعب القوي أو اللاعب التكتيكي المزعوم، اللاعب الموهوب “موهوب” من حيث القدرة على الربط والوصل ومن حيث الفطنة والمكر. فعل اللاعب مرتبط بفعل الزميل، بفعل الخصم، بالمساحة، بالمرمى، وضف ما شئت من القيود. يتخذ اللاعب القرار وفقاً للسياق الذي يجد نفسه فيه، يتلقى المعلومات فيعالجهما ثم ينتقي القرار، وعلى ذلك يكون التدريب موافقٌ للمتغيرات التي لا حصر لها في حمى اللعب، بينما النمط المحفوظ أو الاستجابة الآلية التي لا تنبع عن تبصر، تؤدي إلى استجابات غير فعالة ضمن سياق معين؛ على الأقل من وجهة نظر علم النفس الإيكولوجي/البيئي.

اللاعب الموهوب المبدع يمتلك حزمة حلول تكتيكية ليست لدى المدرب في اللعب الحي، على المدرب فقط توظيفها أو إيقاظها. اللاعب بذاته حقيقة تكتيكية كما يقول خوانما لـيّو. لا أفهم لماذا يُزعم أن المدرب هو الذي يخلق اللعب، اللعب ظاهرة انبثاقية، تنشأ لقاء التفاعلات بين اللاعبين، دور سباليتي هو إيجاد التوليفة واستمالة سلوكيات وتصرفات تعزز من فرص الفريق في تشكيل شبكة علاقات فعالة، فتوصيل الروابط، توزيع المهام والمواقع، فاستراتيجيات الفريق في حالات اللعب، كظروف أولية ينشأ عنها تداعيات مجهولة وازدياد في العشوائية (إنتروبيا كرة القدم). ما الذي يجعل اللاعب الجيد جيد؟ أليس لأنه يمنحنا أفضلية تكتيكية؟ بالمراوغة، بالتمريرة، فتح خيار تمرير، بمعرفة غريزية بما يستثيره كي يضغط، بما يجعله ينسق حركته بحركة الزميل الضاغط، أو استخدام الزميل أحياناً كانتظار الظهير خلفك كي تحير ظهير المنافس، استخدام الجناح كجدار في خذ وهات… تطوير السلوكيات أكثر أهمية من التشكيلات السطحية: مرر لكي تجذب، أعد الكرة من حيث أتت فالممرر أرادك طعماً لتخلف خلفك مساحة، قف كي تجذب، تقدم بالكرة وحير منافسك، اسقط كي تفتح المساحة بظهرك، اسقط كي تستلم، اهجم والكرة بطريقها للاعب الثاني، اتخذ موقعك وثبت خصمك. المسألة مسألة نوايا، نواياك ونوايا الآخرين من خلال وضعيتهم، جسد زميلي بإزاء الكرة، وما موقع الكرة عن قدم زميلي؟ متى يستطيع تمريرها لي؟ ما مجال رؤيته؟ بكسر من الثانية سيتغير كل شيء، ومن ثم ستحتاج لمعلومات جديدة كي تتصرف، لاعب حر الآن لن يكون كذلك بعد ثانية ولو مررت له الكرة، لأنه اقتنص مساحة وثغرة هنا أو هناك، لديه أكثر من خيار قبل ثانية أما الآن فلا، ربما مسار التمريرة التالية كان مفتوحاً ولم يعد الأمر كذلك. تتولد هذه المعارف من خلال عملية ما وراء معرفية “metacognitive”، نتاج خبرة ثرية وعميقة وليست بالضرورة طويلة، لنا في ميسي الشاب مثال، لنا في بيدري مثال، إدراك الإدراك يتعلق بالسياق لا الحفظ، مهارة استخدام المعرفة بسياقات مختلفة، وحينما يتعلق الأمر بأسلوب الفريق الذي يبنيه المدرب فمعرفة اللاعب هي معرفة حول البراعة؛ أي ليس فقط القيام بفعل بل معرفة النوايا والأغراض من هذا الفعل، اللاعب بهذا المعنى وعبر التدريب المتعمد والشرح والتغذية الراجعة يفهم ويعي دوره ودور من حوله، هذه المعرفة يجب أن تتحول إلى الذاكرة الإجرائية، إلى معرفة لا واعية بحيث لا تشل اللاعب وتفقده تركيزه؛ وهنا تصميم التمارين هو المحك.

لا يجدر بنا التباهي بافراط بنقل محتوى التدريب إلى المباراة، ذلك أن هدف التدريب هو نقل المعرفة المحصلة إلى ساحة اللعب في الأصل. غير أن نقل المعرفة إلى اللاعب لتصبح ملكاً له يسمو على إيغو المدرب، كما نرى سباليتي يحاكي وضعية معينة تتكرر باستمرار، ابن تشيرتالدو لا يعلم أوسيمين ما لم يعلم، وإنما يرسخ ما يعرفه ويرقيها كي تصبح عادة ضمن تلك المعطيات، التدريب هنا وإن بدا فردياً فهو متصل بسياق، لا يوجد تدريب فردي في كرة القدم، أوسيمين هنا يتفاعل مع القيود الموضوعة. يتخلق اللعب حينما يتصرف اللاعب وفقاً لتصرف الآخر، الآخر زميلاً أو منافساً، أين أتجنب المنافس وما هي المساحة ومتى أهجم عليها، وما مسار الكرة المحبذ لزميلي كي يوصل الكرة للمساحة التي اتفقت عليها أنا وهو ضمنياً. ذلك أن اللعب جملة سلوكيات متزامنة وكل سلوك يسهل أو يعسر من السلوك التالي، ويؤثر عندئذٍ على سلاسة اللعب. بهذا يتخطى الفريق الأنماط والرقصات المحددة سلفاً إلى التكيف المتبادل والتعاضد (يعمل سباليتي على الأنماط كذلك ولكن ليست هي ما يميز نابولي كهدف زيلينسكي الثالث ضد ليفربول وهدف أوسيمين ضد روما). يتفق أعضاء الفريق على عقد اجتماعي ضمني، بحيث يتنازل كل لاعب عن شيء من حريته لمصلحة الفريق، أو لما يراه المدرب لمصلحة الفريق. وإذا ظن المدرب أن الخطة أو النظام أو النمط هو المبدأ والمنتهى فإن نجى على المدى القصير لن ينجو على المدى البعيد. بمفهوم إنتروبيا كرة القدم ثمة حاجة لتطوير السلوكيات في ظل اللايقين المصاحب لهذه الحالات، ثمة حاجة ماسة للعفوية والإبتكار، ضمن الخطة يعود اللاعب إلى عشه بين الفينة والأخرى، النمط سيعمل مرة أو مرتين لكن التفاعل الصحيح واستيعاب اللعب والإبداع الفوري وما إلى ذلك من أمور -محكومة بالموهبة- أمور ستبقى.

لو عدت لروما في فترة سباليتي الأولى لوجدت توتي يقوم بألعاب مشابهة، يقذف الكرة وظهره لمرمى المنافس مصطاداً بها خط ظهر الخصم ساكناً أو غير متأهب. نابولي كأي فريق لديه انتظامات regularities، بعضها منتج التدريب (مصطنعة) وبعضها منتوج التناغم (عفوية)، 4-3-3 ووسط لا متماثل بحيث نرى زيلينسكي متقدم غالباً مقارنة بأنغيسا، أجنحة ساقطة، أظهرة بعيدة، ميل للعب العمودي، وألعاب مركبة أحياناً يألفها اللاعب في التمارين ويستطيع تمييزها في حمى اللعب. ضف على كل ما سلف ألعاب توافقية ناشئة عن التفاعلات المحلية وعن حل المشاكل وعن حالات صغروية/محلية تستدعي استجابات سريعة شخصية، الانتظامات المصطنعة من شأنها تهيئة اللاعب للتفرغ للخلق والابتكار، وهنا تظهر قيمة الفرد باستقلاليته النسبية، ومع تآلف اللاعبين فيما بينهم البين تنشأ ما أسميه بالانتظامات العفوية، فعندما تتلاقى الذكاءات إما تصطدم ببعضها أو يتولد عنها إشراق.

حينما ترى ستانسيلاف لوبوتكا يلعب لا ترى لاعباً يتصرف بمخطط مسبق، يلعب وفق أمر وحيد: قف أمام المدافعين. عدا ذلك سيكون لدينا لاعب بلا موهبة يتصرف فقط كحيوان مدرب يكرر حركاته المملة… لوبوتكا “Il play” كما يقول الطليان عن الريجيستا الوحيد المنسق بتمركزه المحوري وتمريراته النافذة، الدور المتأخر ربما أنسب لإطلاق لعباته بعيدة المدى سواءً بتمريرة طويلة أو بتمريرة رابطة وموصلة، يرفع رأسه ويبني سيناريو المناورة، بما أنه يرى تطورات الهجمة ويربط لعبته باللعبة التالية، هذا إذا ما تواردت خواطر اللاعبيْن.

يمنحنا السلوفاكي حلولاً أفضل، ليس لأنه يجيد التمرير، بل لأنه يجيد ذلك بمتغيرات عديدة وآفاق مفتوحة، وهو أيضاً يراوغ ويقطع المساحة للأمام إن اقتضى الأمر، يقاوم الضغط ويستوقف اللعب ويستهله ويستخدم جسده وكل ما أوتي لينفذ بجلده ويساهم بتوليد سياق خصب يزدهر فيه اللعب. زيلينسكي من ناحية أخرى، هو الأكثر موهبة في نابولي، لديه خصال لوبوتكا مع أفضلية في السرعة والقوة، في التخلص من الضغط مباشرةً، هو مرغم على فعل ذلك تبعاً للوضعيات التي يواجهها في منطقة أكثر ازدحاماً، لا يلتف حول المدافع ولا يحاول مقاومة الضغط بل يريد التخلص فوراً من منافسه وينطلق، وقبل أي شيء يلعب بلمسة واحدة -الأمر الذي قد لا يكون دوماً إيجابياً- لعبه انسيابي وسهل للعين، وهو النوع الأندر. رغم ذلك أرى أن نابولي بحاجة للوبوتكا أكثر من زيلينسكي وأنغيسا وندومبيلي وكفاراتسخيليا وراسبادوري. والسلوفاكي بدوره مكمِّل ومكمَّل، معين ومعان. كفاراتسخيليا هناك على الخط أيضاً عملة نادرة في إيطاليا، لاعبون جيدون كثر على الجبهة ولكن فانتازيون قلة، أحدهم سريع وآخر قدمه قوية، لكن قليل من يبعثر صفوف الدفاعات بالابتكارات والجرأة، لا مجال لاحتوائه فإما يفوز أو يخسر. معه إما تسجل أو تستقبل مرتدة، ولا بأس طالما كانت الكرة بعيدة عن مرمانا.

كيم مين-جاي، والمفاهيم الخاطئة…

كيم مين-جاي ضربة معلم أخرى لجونتولي، استقطاب مدافع بنظام خاص كنظام سباليتي ويتكيف معه بسرعة دون فقدان مزاياه الاندفاعية أمر يستحق الثناء بحق، حتى وإن كان نظامه أقل حدة من جامباولو وساري، أقصد في مدى أرثوذكسية الأفكار. المدافع الكوري متأهب دائماً للاستباق واقتلاع الكرة مستغلاً انحجاب رؤية مستلم الكرة فيمتنع على المهاجم ضبط التوقيت أو تغيير مسار حركته فيؤخذ على حين غرة (اللقطة ضد مونزا). في اللقطة ضد الميلان نرى موقفه التوسطي، يستطيع اتخاذ موقف لأي تطور مستقبلي في هذه اللعبة، ليس متعلقاً بدي كاتيلاري (سواءً بالتوجيه الجسدي أو بالمسافة) فلا يراقب لاعباً بعينه، تمركز، وضعية جسدية، يرى الكرة، قادر على دمج كل ذلك كوحدة في دماغه دون أن يفصلها عن بضعها البعض. كما ذكرت في مقال سابق يتعامل المدافع مع سيناريوهات مختلفة، وليس متوقف على المهاجم، وإنما على عدد من العوامل في ذات الأثناء: كرة، زميل، مساحة، توقيت، منافس، مكان المرمى. ولهذا يتسق دفاع المنطقة مع تعقيد اللعبة، لا يختزلها في لاعب ضد لاعب، ولا يحاول حجب تعقيد كرة القدم.

نراه هنا متأخر قليلاً وإن كانت المنطقة بعيدة قليلاً كي يتخذ موقفاً في هذه الحالة، لو عدت للقطة لوجدته تراجع مع لاتزاري المنطلق بما يوحي بحسن تصرف، دون أن يفقد احساسه التمركزي ومفضلاً المساحة على باقي المتغيرات. تلك المساحة التي سيهاجمها “رجل” والتي قد تهبط إليها “الكرة” لا زالت كل العناصر متصلة بقراره ولم يراقب لاتزاري وحسب.
يتضح أن احساس كيم المكاني عالي، التسلل ليس أولوية هنا فكسر الخط، منْع هبوط الكرة في موقع خطر هي الحالة التي تستدعي التدخل، لذا بصره موجهٌ للكرة ومسارها المحتمل بناء على المهاجم خلفه والمرمى أمامه.

هذه الخصائص ليست خصائص مدافع رجل لرجل أو منطقة، قدراته وإن تخطت زملاءه فهي لا شيء لوحدها، ولا شيء دون تواصل، تبادل تغطية، اقتسام الجهد، ثم سيتدخل حينما يجدر به التدخل. خصائصه خصائص مدافع كرة قدم جيد، لبس وسوء فهم فادح أن نظن أن المدافع الجيد “جيد” بوصفه فرداً، كلما كان أضعف كلما كان أنسب لدفاع المنطقة، والحقيقة هي العكس، من لا يجيد الدفاع سيتشبث بالمهاجم ويشد ويركل، لأنه لا يجيد ربط العناصر ودمجها ولن يستطيع وضع نفسه في المكان المناسب ضمن عدد من المتغيرات. يأتي هذا الخلط من المقدمة التالية “نلعب 1 ضد 1 في كافة أرجاء الملعب” فيأتي الاستتباع الخاطئ “على كل مدافع أن يكون جيداً في الـ1 ضد 1 كمواجهات مباشرة”، ضف على ذلك نتيجة خاطئة أخرى “اللاعب غير جيد في المواجهة 1 ضد 1 لأنه تعلم دفاع المنطقة في الفئات السنية”. كم عدد المرات التي يكون فيها المدافع بحالة 1 ضد 1 كمواجهة مباشرة؟ صريحة؟ أو حتى غير صريحة؟ لاعب بمواجهة لاعب هي حالة عامة سيواجهها أي لاعب في الملعب ضمن أي نظام دفاعي، في المنطقة سيواجه الجناح الأيسر ظهير الخصم الأيمن، ظهير الخصم الأيمن سيمرر الكرة للجناح وسيخرج الظهير الأيسر ليواجه الجناح الأيمن للمنافس، حالات 1 ضد 1 متواصلة وغير مستقرة، دفاع المنطقة هو الدفاع بمنطقة الكرة وتناوب الضغط والتغطية بين الزملاء ولن تأخذ شيئاً من الجودة الفردية ولن تقصي التدريبات الفردية، وعدم تدريبها نابع عن سوء فهم أما الرقابة فشيء مختلف، الرقابة هي مراقبة المدافع لمهاجم المنافس دون حيازته للكرة فيترتب على ذلك -بالنسبة لمعتنقي دفاع المنطقة- انقطاع التواصل بين الزملاء، أو عدم تكوين الزوايا (قطريات وهرميات)، تعاون وتبادل الضغط والتغطية، أو تشكيل كتلة واحدة تتنقل مع الكرة، الرقابة متصلة بالقوة أكثر، بالاعتراض الجسدي، بلغة الطليان: tackling, contrasto …، تقدير هذه المهارات مبالغ فيه، هي هامة وهامة جداً لكن قد تكون ميزة لاعب جيد محلياً (محل الحدث) وقد لا يكون جيداً غلوبالياً (نطاق أوسع، حالات مستقبلية) بحيث يجيد التموقع وقراءة اللعب والتنبؤ.

هكذا يبدو الدفاع رجل لرجل: كل مدافع سيحاول منع المهاجم من استلام الكرة أو زعزعة استقراره بالالتصاق بظهره؛ في الحقيقة هي محاولة اجهاض فكرة دوران مستلم الكرة من الأساس، ما بالك بالمواجهة المباشرة.

الدفاع فن، للفرد في ذلك القول الفصل ضمن النظام، وفقاً للأنظمة الفرعية المجاورة (الزملاء) تبعاً للنقاط المرجعية التي لا تنفصل عن بعضها البعض، اللاعب لا يقرر ضمن ترتيب معين أي نقطة مرجعية سيترتب عليها تصرفه؛ وإنما قد يفضل الاقتراب من المهاجم ويحاول قطع خيار التمرير من الأساس كاختصار ذهني ربما فيه شيء من البلادة، عندها ينصرف المدافع عن الكرة والمرمى وزملاؤه ويدرء الخطر بملاحقة المنافس كقاعدة وليس كضرورة تفرضها الظروف أحياناً. أو ربما تجد مدافعاً ساكناً -يتوسط فراغاً- ويحدق بالكرة فيكون انتباهه الانتقائي نقمة، حينها يقع تحت تأثير العمى الإدراكي الغير مقصود Inattentional blindness، كل ما يدور حوله مغبش، موقعه عن المرمى، عن الزميل، عن المنافس… وها هنا يكون المدافع محسوبٌ على دفاع المنطقة، غير أننا إذا تجاوزنا المسميات والاستعارات لفضلنا المدافع النبيه الشامل الذي يعرف متى يقترب ومتى يبتعد، متى ينقض ويستبق ومتى يتمهل وينسحب… بل ومتى ينزلق أيضاً، ومتى يعي أن تصرفه ينسجم مع تصرفات زملاءه في كل لحظة دون التعجل ودون انفصال عن النظام ودون اختزال الدفاع بالالتصاق بالهارب عن الرقابة، إيكال هكذا مهام للاعبين ليس من العبقرية في شيء.

في المنطقة المدافع فعال دون اتصال مباشر بالكرة، ولن يظهر كثيراً في الاحصائيات، كالمهاجم الذي يُشغل المدافعين دون أن يلمس الكرة كثيراً. فالفريق سيتمتع بتوازن طالما لا يتدخل المدافع فيما لا يعنيه، الظهير البعيد لن يلحق بالجناح للداخل لأن الظهير المنافس القادم من الخلف سيواجه المرمى، الافتقاد للتناغم يفاقم من الخطأ الصغير في التمركز، أحياناً يخطئ مدافع بالتوقيت أو التموقع فينتج عن ذلك سلسلة أخطاء لا تستطيع أن تمد أصابع الإتهام للاعبٍ بعينه، في الحقيقة أحدهم ملام، ربما ذلك الذي لم يضغط على حامل الكرة! أو لم يوجه جسده جيداً، أو قبل ذلك لمن لم يضغط بحدة. يستقبل الفريق هدفاً جراء سلسلة من الأخطاء، ربما طفيفة ولا يُلقى لها بالاً، وربما فادحة وإن كانت أقل وضوحاً لمن ينحسر مجال رؤيته على الكرة؛ الخطأ في كرة القدم مركب. كل خطأ يمكن تقييمه، هذا دور المدرب حينما يجلس مع اللاعب ويناقشه ويكرر الوضعيات ويحاكيها.

على الهامش: تناقل لاعبو الهلال الكرة عرضياً أمام خط وسط الزمالك، بلا ضغط يذكر، ثم وصلت الكرة هنا لكـيّـار وبلا ضغط وأمامه لاعب -وإن كان قريباً- ليس بعنصر فاعل فلم يغطِّ ما خلفه مما أرغم القلب على الخروج وكسر خط الظهر مضيقاً على سالم. هذه كرة مكشوفة فكـيـار قادر على إلحاق الأذى بدفاع الزمالك بكرة للأمام، الحالة تستدعي انسحاب دفاع الزمالك للخلف بسرعة. لكننا نلاحظ سلوكيات متباينة متعارضة تفتقد للتناغم، مدافع يراقب لاعب قد يكون أقل خطراً لأن ظهره للمرمى وحتى وإن استلم فثمة تفوق عددي للزمالك وسيخرج نفس القلب للمواجهة ولكنه قرر الخروج وفتح ثغرة استغلها إيغالو. القلب الأيمن قرر نصب مصيدة تسلل لوحده دون تواصل مع زملائه وبلا قراءة للعب وتقدير للتوقيت، كان قبلها بثانية ملاصق لإيغالو ولو استمر في مراقبته لتبدد الخطر. النظام ليس المشكلة، المشكلة ليست في نظام المنطقة (القلب الأيمن -زعماً- يمثله هنا)، ولا في الرجل لرجل (الليبرو يمثله هنا)، يمكن أن يتعايش النظامان، كما قلت سابقاً الرقابة جزء من الدفاع ولا يمكننا اختزال الدفاع بالمراقبة. الأمر يتعلق بالتواصل والأولويات والدفاع كفريق، إذا لزم الأمر فسألاحق المهاجم، وإذا كانت مصيدة التسلل مواتية فليكن.

نابولي -بجانب ساسولو وأتالانتا- أماكن تجيد حياكة مشروع، لاعبون ومدرب ومدير رياضي، تقوم في الأساس على جودة العناصر التي لن تخذل أي مدرب، لذا تغير المدربين بالنسبة لهم ليست مسألة شائكة ما لم يختاروا الشريك الخطأ، وهذا يحدث وقد حدث في نابولي مؤخراً. الدوري الإيطالي اليوم يرى انتصار التقاليد والعادات، أشبه بانتكاسة مقارنة بفترة ما قبل كورونا؛ 3-5-2 “¹” وفرق بدنية، رجل لرجل، وموهوب بطل في المقدمة، نرى اليوم سكالا وموندونيكو وفاشيتي وسونيتي لكن متزينين بمساحيق الحداثة: أجهزة وحواسيب وأيرباد ودرون. لكن لحسن الحظ لدينا من يحاول كسر التقليدية في كل بلد -ليست إيطاليا بذلك استثناءً- والصراع على كلٍ ليس قائم على القديم والحديث، بل على الكرة الجيدة، التي تضع الموهبة واللعب في المقدمة، كان المتحررون موجودون وربما منبوذون، أبناء برونو المهرطقين أعدموا معنوياً كغاليلو ما لم يحققوا نتائج.

زيمان + ساكي = سباليتي هكذا كانت ترى جماهير إيمبولي مدربها الشاب سباليتي. معجب جداً بسباليتي ويزداد إعجابي به لجرأته، لتجدده، بدأ بأفكار معينة وأطروحته في عام 1999 عن 3-5-2 شاهدة على ذلك، رغم ذلك تجده يصرح لصحيفة لا ريبوبليكا في 1997 أنه يفضل “دفاع المنطقة لأنه، باستثناء فينتورا، جميع من دربني لعب المنطقة، ولأنني مقتنع بأنه الخيار الأكثر جدوى لتغطية المساحات، ولكن لأنني أيضاً لا أجيد شيئاً آخراً”. بدأ سباليتي أول تجاربه التدريبية مع شبان إيمبولي، يتصل أولاً بمن يسميه هو “البروفيسور فينتورا” الذي نهل عنه في إنتيلا وسبيدزيا كلاعب. درس زيمان وساكي، لا يقف غروره أمام فضوله ولا يمانع مشاطرة أفكار مدرب حديث عهد بالسيريي آ كسارّي، قد يقتبس نمط كرة ثابتة وأيا يكن طالما أفاد الفريق. بحسب الصحفي ميمو فيريتي يغرف المدرب التوسكانو “القليل من هنا ومن هناك. ثمة من يصفونه بـ زيمانيانو تائب، […]. سباليتي يمزج، يقلّب، يتكيف، يخترع”. اللاعبون هم الأفكار وما قد تلتقطه فراسة المدرب من إمكانات في اللاعب، توتي مهاجم وهمي، نيانغولان 10 مثلاً، ربما لتلافي نقاط ضعفه، على النقيض من بيتزارو أو لوبوتكا، أكثر موهبة ولكن بمناطق متأخرة. اللاعبون ليسوا مجرد أدوات لإرضاء غرور المدرب، لا يُلحقون بالفكرة، خليق بالأسلوب أن يكون مفتوحاً بما يوفره اللاعبون من خيارات، بحيث يقوم المدرب ببناء أسلوب سيبقى قيد البناء يضفي اللاعبون من عندهم في كل مباراة. في هذا النابولي الفضل يعود للجميع، هذا نابولي دي لاورينتيس وسباليتي وجونتولي ولوبوتكا وكيم وزيلينسكي … وزملائهم.

“إذا أحسن الفريق أو أساء، فإننا ننسب ذلك إلى المدرب. ولا أعرف حقاً ما مدى تأثير المدرب. شيئاً فشيئاً، نسينا الدور الحقيقي للاعبين. ليفربول كلوب، مدريد زيدان، سيتي جوارديولا…” -فان باستن

“¹” : لا توجد مشكلة مع أي خطة، ولا المدربون المذكورون كذلك، الخطة المذكورة ترميز للتقليدية لا أكثر.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: