وللأوروغواي كرة القدم…

“لبعض الدول الأخرى تاريخ. وللأوروغواي كرة القدم.” -أوندينو فييرا

منذ أن قُدِمت أوراق اعتماد لعبة كرة القدم في إنجلترا في ستينيات القرن التاسع عشر، لم يلبث الإنجليز أينما هاجروا وحلوا وحيثما وطأت أقدامهم يابسة أن بشروا بتلك اللعبة. أحد الأماكن كان البلد الواقع على نهر الفضة، الأورغواي. لعبت كرة القدم لأول مرة في الأورغواي في 1881 بفضل معلم لغة إنجليزية يدعى هنري كاسل آير، مورست اللعبة بين أندية الكريكيت والتجديف، بيد أن أول نادي مخصص لكرة القدم هو نادي ألبيون الذي أسسه طلاب الثانوية الإنجليزية في منتصف 1891، بنفس السنة اعتزم عمال “سكة حديد وسط الأورغواي” التابعة لبريطانيا تأسيس نادي رياضي، رغم حظيّ الكريكيت بالأولوية لدى المؤسسين إلا أن كرة القدم استقطبت اهتماماً شعبياً أوسع. نادي سكة حديد وسط الأورغواي للكريكيت اختصاراً  (C.U.R.C.C) أوقف نشاط كرة القدم في 1914 وانتقلت تركته إلى النادي الشهير لاحقاً بينيارول، الأمر المتنازع عليه في الأورغواي. فيما تأسس ناسيونال الغريم التقليدي لببينيارول في 1899 والمماحكات المستمرة بين هذين الفريقين تجعله أقدم ديربي خارج حدود بريطانيا.

لهذه الأسباب قد يتبدد العجب من دورها الريادي في نشر وتنظيم هذه اللعبة على المستوى العالمي، ولتلك الأسباب يبطل العجب من عراقة هذا البلد الصغير والقليل السكان في هذه اللعبة. بطل كوبا أميريكا -بالرقم القياسي- 15 مرة وبطل كأس العالم مرتين كان قد فاز بالبطولة الأولمبية مرتين على التوالي في 1924 و1928، ارتأى الأورغويانيون أن لهم أفضلية في تنظيم أول بطولة كأس العالم بما أنهم أبطال أهم بطولة لهذه اللعبة، وبالتزامن مع عيد استقلالها المائة يهدي الفيفا شرف التنظيم للأورغواي ليشيدوا صرحهم التاريخي المئوي “إل سينتيناريو” في غضون 8 أشهر، عدد من الدول الهامة لم تلبِّ النداء، بُعد المسافة كانت إحدى الذرائع، أما بريطانيا التي صدرت هذه اللعبة إلى البلد المنظم امتنعت عن الحضور لأسباب تخص الاحتراف.

التوثيق والتغطية الإعلامية لتلك التظاهرة ليست بمستوى ما نراه اليوم، غير أن لقطات النهائي الذي جمع بين بلدي نهر لا بلاتا غير مثير لمعظم عشاق اللعبة، فيتبين لنا سكون بعض اللاعبين، تجمعهم حول الكرة، حكم الراية الذي لا يجري مع الخط حتى مع وضع اختلاف نظام التسلل يومئذٍ بالاعتبار، نتفهم -بطبيعة الحال- بدائية اللعب. يقولون أن الفرق تلعب بهرم كامبريدج 2-3-5 وحارس بلا قفازات، الهرم المقلوب يتميز بتوزيع ملائم بالمقارنة بـ 1-1-8 أو 2-2-6 اللتان كانتا من أوائل خطط كرة القدم، هذا إن اعتبرناهما خطتان أو أن بواكير كرة القدم الأولى ليست محض ركلٍ وخبط عشواء مقترن بتوزيع غير معقول على الرقعة الكبيرة الحجم إلى حد ما، وعليه لن تستدعي قلة العراقيل الحائلة بين الكرة والمرمى أو الثلث الأخير أية ابتكارات تكتيكية. أحياناً للقوانين المسنونة دور في تطور التكتيكات، هيربرت تشابمان مثلاً ابتدع 3-2-2-3 أو WM لتغير قانون التسلل في 1925.

بالعودة بالزمن للوراء، ابتدع الاسكتلنديون طريقة جديدة تميزت بالتناقل القصير للكرة عوضاً عن الطريقة الإنجليزية التي اتسمت بمغوارية الفرد في اختراق حصون المنافس. وعلى يد اللاعب-المدرب الاسكتلندي جون هارلي تحط هذه الكرة رحالها في الأورغواي، بحسب مارتي بيرارناو -بكتابه المنشور مؤخراً- لعب مهاجم بينيارول خوسيه بيينديبيني كمهاجم وهمي في 1910. هارلي، عامل السكة الحديدية، هو الذي أوكل لبيينديبيني مهمة سقوطه المتكرر للخلف. وهكذا كانت الكرة الدانوبية التي ظهرت على يد هوغو مايسل وجيمي هوغان اللذان قادا منتخب النمسا في كأس العالم 1934 بسقوط ماتياس سينديلار والذي هو الآخر يعتبر أول مهاجم يرتدي قبعة الاخفاء بتاريخ الكرة بروايات أخرى. بنفس البطولة فيتوريو بودزو -بتأييد من كارلو كاركانو- يقوم بإسقاط المهاجميْن الداخلييْن قليلاً للخلف بدلاً من المهاجم المتوسط كما كان يفعل الدانوبيون، نهج بودزو أو il metodo قد يضفي توازناً أكبر بوجهة نظر المدرب الإيطالي. تمكن الطليان من النمساويين في بطولة 1934 مقصين المرشح الأوفر حظاً من الدور نصف النهائي. بودزو ونهجه يبقيان على كأس البطولة في خزانته حينما تغلبت على المجر في فرنسا 1938، في نفس تلك البطولة، يجذب الأنظار أسلوب متحفظ ابتدعه كارل رابان مدرب منتخب سويسرا، شكل أولي من أشكال الكاتيناتشو، ليبرو أو “ترباس” وأمامه 3 مدافعين ولاعبيْ وسط و4 مهاجمين.

WM كانت طاغية الحضور في مونديال البرازيل 1950، أما الأورغويانيون الأبطال فلعبوا بقفل رابان. فيما استعمل المدرب البرازيلي فلافيو كوستا خطة الـقُـطر diagonal -وهي تعديل على WM- كان قد طورها بمعية الأورغوياني الناشط في البرازيلي حينها أوندينو فييرا، للمفارقة، المدرب الأورغوياني كان اسماً هاماً في الكرة البرازيلية مدرباً لكبار أنديتها، يُجيّر له الفضل في ابتكار خطة 4-2-4. وقع تلك الخسارة على البرازيليين كان مدوياً، لاعبو الأورغواي محاصرون بـ11 لاعباً و200 ألف هاتف ومناصر مسؤولون عن واقعة “الماراكانازو”. لعل الاحتفالات المبكرة والتفاؤل المفرط انقلب حسرة وبؤس، كانت البرازيل بحاجة إلى تعادل فقط لترفع كأس البطولة التي لُعبت على شكل دوري، لـ لوس تشارواس رأي آخر، حيث قلبوا تأخرهم إلى فوز بهدفي سكيافينو (د66) وغيجيا (د79). وحتى اللحظة، مواجهة البرازيل والأورغواي ليست مواجهة عادية. لم تختفي الأورغواي عن المشهد كالمجر مثلاً، بل بقيت ضلعاً رئيسياً في كرة القدم العالمية حيث حلت رابع العالم 3 مرات آخرها في 2010، كانت ولا زالت تصدر المواهب إلى أكبر الأندية في العالم، أسماء كإنزو فرانتشيسكولي، روبن باز، فابيان أونيل، باولو مونتيرو، زالاجيتا أو حتى إلتشينو ريكوبا ربما تقبع في الظل بالمقارنة بنجوم 2010 فورلان وسواريز وكافاني وغودين وموسليرا.

“بفضل كرة القدم، أصبح الأوروغويانيون معروفون عالمياً. لم يفهم الآخرون كيف لمثل هذا البلد الصغير والذي بالكاد يظهر على الخريطة أن يكون بطلاً. كرة القدم أبلت خيراً للأوروغواي. لقد منحتها الأهمية والشخصية.” -ماريو بينيديتي

حقاً وفعلاً، هذا السؤال مرتكز بحث الماجستير لكريستوفر كولسرود، أعد هذا الطالب النرويجي رسالة الماجستير عن العوامل التي أدت لتفوق الكرة الأورغويانية، سبعة محترفين في كرة القدم، ما بين معتزل وناشط ووكيل أعمال ومدرب أجابوا عن أسئلته. تاريخ الأورغواي الرائد في اللعبة لا شك أحد الأسباب، فاللعبة الشعبية الأولى وربما الوحيدة في الأورغواي هي كرة القدم، ولع الأورغويانيين بكرة القدم ينمقه إدواردو غاليانو بشاعريته هكذا: “لست خارج السرب لأن مستشفيات الولادة في بلادي، كما هو معروف، تصدر ضوضاء جهنمية، فجميع الأطفال يطلون على العالم بين ساقي أمهاتهم وهم يصرخون “غووول”. صرخت أنا كذلك “غووول” كي لا أكون أقل، وكالبقية أردت أن أكون لاعب كرة قدم”. أما السبب الثاني سبب اقتصادي، ما قد يحققه امتهان اللعبة للطفل بالمقارنة بمهن أخرى حقيق بإعادة التأمل، قد يترك الصبية المدرسة من أجل كرة القدم وربما بدعم من الأهالي. أحد العاملين في الاتحاد الأورغوياني يزعم أن 60-70 ألف طفل دون 12 عاماً يمارسون كرة القدم للبراعم هناك، “جميعهم يريدون أن يصبحوا محترفين”. الملاعب هناك في كل ركن، وإن كانت جودتها سيئة، هذه نقطة ضد المولعين بالشكليات والمرافق البراقة، المستجوبون رفضوا تميز الأورغواي بأي من ذلك، ما تحتاجه هو كرة ومساحة فقط.

خطة تاباريز التدريبية للفئات السنية تعتبر تطوير المدربين أمر لا مفر منه مع عزوف الأطفال عن كرة الشوارع، المدربون ملزمون باقتناء رخصهم لمزاولة المهنة، المدرب سلاح ذو حدين، إما أن يعيد كرة الشوارع ويستميل سلوكيات معينة أو يقوم بتعقيم اللاعبين ويحز نموهم. ثمة تطور في الأساليب فالمدربون -بحسب أحد المستجوبين- أضحوا أقل هوساً بالفوز، ميالون للأداء الجيد. والأمر الذي لا يتمارى فيه اثنان هو الروح القتالية، “يحدث أن تلعب بصورة سيئة، ولكن لا يسمح لك بالخوف.” المثابرة والإيمان لازمتين لدى الأورغويانيين، الموهبة قد يسهل العثور عليها ولكن البذل والإسهام ضمن المجموعة هو الحسام.

“يبدو كما لو أنك لا تمتلك آخر شهقة ولكنك تريد بذل المزيد دوماً. في اللحظات الأخيرة أحياناً وضد الفرق الكبيرة لا تتوقع أبداً أن تمتلك فرصة الفوز، ولكن هناك مخلب “Garra Charrúa” يتحدث عنه الجميع في الأوروغواي “. -دييغو فورلان

يتحدث الأورغويانيون عن الفوز بكأس العالم، هم بهذا الطموح المقترن بالإيمان، في دواخلهم نار مقدسة، رغبة جامحة لاعب دولي سابق يفسر، فليس المال دافع النجاح وإنما الانتصار. عقلية الفوز مسألة ثقافية يلتقطها الطفل قبل أن يلمع سنه، أما الشغف بالكرة فمسألة شخصية وقطعاً تتأثر بالمجتمع، وإن كانت الموهبة هي الأسمى في كرة القدم إلا أن التفاني والقتال خصال غير منفصلة لدى الأبطال، ثم الولع بالهواية ليست للجميع وللأسف لا يمكننا صقلها، الولع بالهواية من شأنه صقل الموهبة، حينما ترى ميسي فاغراً فاه وبسهام لحظه يرنو إلى الكرة فاعلم أنك أمام انغماس flow، حالة ذهنية من التركيز في النشاط نظر لها ميهالي كسيكسنتميهالي. لدراسة كولسرود كل التقدير، إلا أنها لم تحمل إجابة قاطعة شأن أي بحث أو دراسة حول الموضوع، ولم يزعم هو هذا الزعم على أي حال، الموهبة نبات طبيعي وليست دميةً تصنع في معمل، بإمكانك العناية بها لا أكثر، أما قوة البلدان فهي مزيج الثقافة والموهبة والاهتمام ومنح الفرص لعدد أكبر من اللاعبين ولأطول فترة ممكنة، ربما في النرويج نفسها إجابة كنت قد تطرقت لها في كتابي عن تطوير الفئات السنية، وإن لم تكن إجابة شافية.

“لمَ نحن تنافسيون؟” يجيب كافاني للغارديان: “لأنهم يعلموننا أن نكون كذلك”. ثم يضيف “لأن الملاعب موجودة في كل مكان. في كل حي، ولو بصحراء جرداء. حيثما توجد مساحة لركل الكرة، توجد مباراة. التنافسية المرغوبة منك كمحترف توجد بالفعل: أنت تفعل ذلك طوال عمرك، كل يوم، تحت المطر، على كافة الأسطح، تلعب حافي القدمين، يُكسر إصبع قدمك، تلفه وتعود للعب. دائماً ما أقول أن اللعب في كرة القدم ليس كالتنافس”. في الأورغواي شغف، شغف اللعب وليس شغف الكنبة، لأن كرة القدم يمثلها مجموعة من اللاعبين يتناقلون ويدورون حول جلد مدور، وليست ريال مدريد وبرشلونة وميسي وكريستيانو، كرة القدم غدت عرضاً افتراضياً داخل الشاشات وليس من صميم الواقع.

المجتمع أو أي نسق اجتماعي مصغر -يتسم بالبدائية- يبحث عن البطل الصنديد، ليس في الأورغواي، للغارديان يمعن كافاني في التشديد على المجموعة: “أتيت من مدرسة أين أجمل ما يمكن أن يحدث هو الفوز كفريق. بالنسبة لي، لا يوجد لاعب يجعلك تفوز بكأس العالم بمفرده. إنه غير موجود ولن يكون موجوداً أبداً. قد يفعل أحدهم شيئاً سحرياً ولكنك تحتاج إلى زملائك في الفريق، يركضون ويضعون حياتهم على المحك. غالباً ما يذهب هذا طي النسيان. بدلاً من ذلك، كل شيء يتعلق بالهداف، الاسم الشهير، بالكرة الذهبية. هذا يسلب التركيز عمّا هو مهم حقاً، إذ يصبح ما يريد الفريق تحقيقه مشوهاً ومحرفاً. تشعر بذلك، وتقاسيه. لقد عشت ذلك”. البطل الأوحد على حد وصف كافاني غير موجود، وأياً كان قدر قتالك وموهبتك لن تتمكن من صد الكرات واستعادتها أو تغطية زملائك أو توفير انطلاقات الظهير أو سحب المدافعين أو لعب العرضيات أو البينيات أو استقبالها، كل هذه السلوكيات تنسج السياق الذي يبرع فيه سواريز أو توريرا أو فالفيردي، والحارس سيغدو قليل الحيلة حينما تنهمر عليه الكرات بلا غطاء واقٍ أمامه، قد نحتفي “بأفضل أداء فردي” ولكنه غير موجود، وسنحتفي بأفضل أداء جماعي، ويحك إن اعتقدت أيضاً أنه ليس إلا تجريداً.

الفوز في منطق كرة القدم هو ثقب شباك الخصم بهدف أكثر، وليس تحصيلاً تلقائياً للأداء، هدف اللعبة هو الفوز، ولكن بيننا من يملك ما هو أبعد من هدف اللعبة، بيننا من يملك غاية تتجاوز الفوز، فالاستمتاع وتكوين الروابط أو الأهداف المشتركة أثمن وأسمى. الفوز مهما كلف الأمر مرفوض، حادثة سواريز ضد غانا ربما تضع علامات استفهام أخلاقية، ولعل تلك أحد مزالق غاليانو اللاعب، إذ كان يصفق للخصم حينما يقومون بلعبة رائعة وضف ما تشاء من اللاأخلاقيات المباحة. شهوة الفوز تنصب فخاخاً لا أخلاقية، اللعب السيء قد يمحوه أخلاقيات اللعب، فمن يسجل أكثر من خصمه يستحق الفوز طالما كان شرعياً. ولما كان عسير تقليب الظروف كما نروم، لا أحتفي بالفوز، أقول في الختام، وإنما تلك الرغبة في العطاء دون اكتراث بالنتيجة، نرغب بمشاهدة كرة جميلة سواءً من الأفراد أو كلعب جماعي، إلا أننا لن نستطيع اللعب كما نشاء في ظروف كثيرة ولكن ما نقدر عليه هو الإخلاص والتفاني، يخطر ببالي كلمة لغوارديولا حيال هذا معرباً بأنه سيتجاوز عن الخطأ الفني أو التكتيكي ولكنه لن يغفر للسلوك المتقاعس، وأضيف، هذا التقاعس بدوره سيؤثر على الأداء تكتيكياً وفنياً.

“نلعب جميعاً على مستوى عالٍ ولكن عندما نكون في المنتخب الوطني ندرك أن جوهر كرة القدم لا يزال موجوداً” -كافاني

المراجع:

La evolución táctica del fútbol 1863 – 1945: Descifrando el código genético del fútbol de la mano del falso 9، بيرارناو.

https://web.archive.org/web/20030325201558/http://www.nacionaldigital.com/biblioteca/carta-%20puppo.htm

https://fifa.com/tournaments/mens/worldcup/1930uruguay

https://fifa.com/news/world-first-for-uruguay-2053846

Flest mulig, lengst mulig, best mulig، ماريوس يونسِن، الدراسة النرويجية التي أشرت لها.

https://www.theguardian.com/football/2022/nov/15/edinson-cavani-maybe-i-dont-fully-fit-with-modern-football-in-terms-of-attitudes

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: