سيكولوجيا جماهير كرة القدم…

“يمكن أن تكون المباراة روايةً طبعاً، فلها بداية، وتطورات، ولحظات من الشد العاطفي بنهايات سعيدة تارة ومأساوية تارة. النقد في كرة القدم آلة هائلة لصنع الأساطير، ينبوع دافق من اللاواقعية يغذي الشهية الخيالية لأعداد كبيرة.” -ماريو فارغاس يوسا

“كرة القدم بحد ذاتها لا تهم أحداً. لا يقول الناس أبداً ‘يا لها من ظهيرة جميلة، يا لها من مباراة رائعة رغم خسارة فريقي’. لا يقولون ذلك لأن الشيء الوحيد المهم هو النتيجة النهائية. لا يستمتع الناس باللعبة.” -بورخيس

“هنالك نوعان من المشجعين: من يحبون كرة القدم ومن يحبون الموضة أو الظواهر الاجتماعية، هذه الأخيرة خطرة.” -خورخي فالدانو

كرة القدم ظاهرة اجتماعية، نولد نحن في مجتمعات تعتبر كرة القدم اللعبة الأولى، فنرث حب اللعبة -وجميعنا كذلك- ولكن بدلاً من أن تكون متنفساً أصبحت المحرك الرئيس، تُصرف لها الأموال ويخصص لها قنوات، الشركات والرعاة تقتات على ما يجذب الجموع سالبة جوهر أي شيء ونازعة عنه أي قيمة إنسانية، روحية أو جمالية، ممتصة بمرور الوقت قيمة اللعب والمرح.

اللعب أو النتيجة؛ سؤالٌ طرحناه في المقال الأخير عما يمثله جمال اللعبة، هناك خلط بواقع الأمر بين الفوز والجمال، أصبحت -وربما كانت- الكلمتان مترادفتان للذوق المتدني، فتجربة غالبية الجماهير ليست تجربة جمالية من أي نوع. تريد الجماهير الفوز ثم تريد الأداء والجمالية كعرض هامشي أو كتحلية، كأن يفوز فريق قبيح بنتيجة ومن ثم يبدأ لاعبوه بتناقل الكرة -لأفضلية نفسية- فليس لديهم الجرأة للعب هكذا كرة في لجة الوغى، نعرف هذه الفرق جيداً. أكيد أن ثنائية الفوز واللعب متباعدة نوعاً ما في لعبة عشوائية ككرة القدم، لكن هذا لا يقتضي أننا لا نريد اللعب والفوز بالتزامن ولكن إحداهما طغت على الأخرى.

هناك من لا يرى لعبة كرة القدم جميلة، العامة أو الخاصة، ولو أن التجربة الجمالية أو التذوق لا تختص بها فئة على أخرى، لو سألنا النخب فإلى عهد قريب ستجدهم يتجنبون أي اتصال بها، كلعبة أو كظاهرة اجتماعية، فـ “أحد عشر لاعباً ضد أحد عشر لاعباً آخرين يركضون خلف الكرة لا تحمل أي قيمة جمالية” يرى لويس خورخي بورخيس. جورج أورويل لديه مآخذ حول الرياضات من نوع كرة القدم، ولكن هناك من مارسها فعلاً كسارتر وكامو وبازوليني مثلاً، هناك من عشقها وكتب عنها كغاليانو. ما قد يتفق عليه هؤلاء، -بعضهم أو جميعهم- أنها أضحت مرتعاً للرعاع، آخر همها أن تشاهد عرضاً وتقضي وقتاً ممتعاً أو أن تحظى بتجربة جمالية. يمتعض هانز أولريخ غومبريخت من نظرة الإنتليجنسيا الدونية للرياضة عموماً، في كتابه “في مدح الجمال الرياضي” يرى أن النخبة المثقفة ترى الرياضة أداةً للنقد وليست مجالاً يُناقًش بحد ذاتها، ولكن حتى غاليانو وأومبيرتو إيكو كعاشقين للعبة نبشا عن جانب مظلم معتم للعبة جعلها أكثر من مجرد لعبة ودنس نقاءها، فيما بورخيس -بسوداوية وازدراء- صور لنا إفرازاتها المريعة في وقته ولا يعلم أن الوضع الذي يصفه أصبح الطبيعي في وقتنا الحاضر، في القصة القصيرة ESSE EST PERCIPI يلمح الأديب الأرجنتيني إلى أننا نعيش في ماتريكس، في واقع مزيف… “سافاستانو” أحد أبطال القصة، يقول لـ”دوميك”:

“الملاعب هدمت وانهارت بالفعل. اليوم يحدث كل شيء على التلفزيون والراديو. ألا يوحي لك حماس المعلق الزائف أن كل شيء خدعة؟ آخر مباراة لكرة القدم لُعبت في بوينوس آيرس في 24 يونيو 1937. منذ تلك اللحظة تحديداً، أصبحت كرة القدم -كباقي فصيل الرياضات- نوع درامي يؤديه رجل واحد في كبينة. أو ممثلين بأزياء أمام المصور.”

لكرة القدم، أو الرياضة عموماً، قيمة حينما تُمارس فقط بالنسبة لبورخيس. فقط من يمارسها رياضي أما الجماهير فليسوا كذلك. إيكو يكره جماهير كرة القدم لا كرة القدم بحد ذاتها، ففي “اللحظات النادرة التي أشاهد فيها مباريات كرة القدم تُلعب بصورة حسنة، بأحداث جميلة، لن أجد غضاضة بتقدير ذلك على الإطلاق. أنا ضد […] ثقافة الثرثرة في كرة القدم. أجد أنه من المقيت أن يمارس عدد قليل من الأفراد رياضة ما، ليثرثر عن ذلك الملايين”. بل يصل الفيلسوف الإيطالي إلى وصف هذه الظاهرة بالتلصصية من Voyeurism، قائلاً “يتنافس الرياضيون للمتعة، لكن المتلصصين يتنافسون بجدية (بل يضرب بعضهم البعض، أو يموت أحدهم بنوبة قلبية في المدرجات).”

كرة القدم -كهوية- ما هي إلا زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، وهي روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنها تماهي الفرد مع هوية جمعية أو ذاتية بقعرها جذور اجتماعية لونها وحسب مختلف، هي أفيون الشعوب فليستبيحنا ماركس عذراً. هي ملاذ الفارّ من الفشل -بمعايير اجتماعية- معايير ترغم الفرد على البحث عن أي نجاح، على اللهث خلف سرابٍ يرتوي منه انتصارات تافهة، فيجد نجاحاً موهوماً في واقع ليس واقعه، هو البائس يجد نجاحه بنجاح فريقه، لاعبه، مدربه، أو أياً يكن الرابط الذي تتجمع حوله الجموع، التعصب علامة على شك مكبوت كما يقول كارل يونغ. في ذلك الواقع الافتراضي يعزز تقديره لذاته، متنعماً بظلال مجد لم يحققه ولم يبذل فيه قطرة عرق، متنعمٌ بمجدٍ منعكس Basking in reflected glory، يبدل بين الضمائر كيفما شاء؛ “نحن” حال الفوز، و”هم” حال الخسارة بظاهرة مناهضة للتنعم بالمجد المنعكس قاطعاً أي صلة بالفشل أو بالخاسر، أكان رأياً بمدرب أو لاعب يعتقد أنه اكتشفه فله فضل في النجاح وإن بعقله الباطن ويشعر بالملامة لو فشل، أو بصورة أكثر لا عقلانية قد يستميت في الدفاع عنه، صورة مع نجم أو قميص موقّع أو أي خصلة من ناجح كفيلة بمنح البعض شعوراً بالفخر والاعتزاز.

كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، هي وسيلة تتخطى الترفيه والتسلية، بطريقة أو أخرى اجتذبت اللعبة الجماهير، يقف غومبريخت محامياً عن الجماهير التي جذبتها الجماليات -بزعمه-، رافضاً ما دعاه بعلم النفس الشعبي، “كتماهي الفشلة في الحياة مع الفائزين في الملعب، أو أن الهتاف للفرق في الملعب تنفيس عن كبت، أو أن التنافس شائع في مجتمع الاستهلاك الرأسمالي”. أو أكرة القدم شائعة لأن الغباء شائع كما يقول بورخيس! الجماهير في كرة القدم ظاهرة انبثاقية معقدة، ليس من اليسير القفز إلى استنتاجات كهذه، إن كان المثقفون عاجزون عن الاعتراف بجمالية اللعبة كمصدر لجذب بعض الجماهير أو أنها متنفس بالمعنيين الإيجابي والسلبي بدوافع نفسية واجتماعية. ولا ريب أن شعبية اللعبة تصطاد المتفرجين المارة بما هي تخطت كونها لعبة، ما يعرف بفرنسا بـbadaud في القرون الماضية، الباداود الساذج المتعجب من كل شيء الذي “تختفي شخصيته، فيمتصها العالم الخارجي، وتسحقه فينتقل به إلى السُكر والنشوة. تحت تأثير المشهد أمامه، يصبح الباداود مخلوقاً غير شخصي؛ لم يعد رجلاً، هو العامة، هو الجمهور”، هكذا يصفه فيكتور فورنيل.

الحال ربما أكثر سوءاً للبعض، فتجد جماهير اللعبة تمظهر بائن لعقلية القطيع herd mentality، للعقلية الطائفية cult mentality، أين يكون العضو مجرد رقم منزوع الملَكات النقدية يقر وينصاع بحماس مفرط. تلك العناصر أساسية لا تنفصل عن بعضها البعض ليتخلق المدرج، السلبي منها والإيجابي. ربما ليست اللعبة ذاتها، سيجد المجتمع -ممثل بأفراده- وسيلة يشبع بها حاجات نفسية، فنشوة الانتصار للمشجع المتعصب تشهد ارتفاعاً في هرمون الذكورة (التستوستيرون) فيما يتقلص لدى الذي خسر فريقه بحسب بيرنهارت وزملاؤه [1] إفراز مرتفع للأدرينالين، عوامل بدورها قد تغيب العقل لوهلة وعواقبها سلوكيات سيلحقها الندم أحياناً، إيحاءات ذكورية وعبارات من قبيل إذلال أو إهانة وألفاظ أشكال ألوان، تدمير للممتلكات، ضرب واعتداءات سنختصرها بالهوليغانزية، قنبلة موقوتة، يضرم فتيلها شحن وتعبئة من الإعلام أو من أفراد مؤثرين، فمن التعصب إلى الهمجية خطوة واحدة كما يقول ديديرو. لم تعد متنفساً لمن يبحث عن دفء الانتماء، لمن يبحث عن التفاخر والمنابزة. للحانق المتعصب الذي يكيل الشتائم صنوفاً وأنواعا، لا ينجو من شظاياها حتى لاعبي فريقه. يرى المباراة حرباً لا مصدراً للبهجة والمتعة، شوفيني يرى ألوان فريقه أفضل الألوان، لاعبيه أفضل اللاعبين، معشب ناديه أفضل من معشب النادي المنافس، لا يكل من المقارنات واقحام معبوديه في طرف أي نقاش وجدال. فريقه يخسر لأن فريقه كان سيئاً، يردد باستمرار “لا أخاف على فريقي إلا من فريقي”. الخصم فاز؟ … الحكم تواطء معهم. اللاعب دمه مهدر ومدنس، أو مقدر ومقدس، يعتمد على شعور هذا الموتور حيال اللاعب، يترصد على كل خطأ، أو يهلل ويسبح لطوطمه عندما يمرر تمريرة عادية، مهارته تزن ذهبا ومهارة الآخر تزن خشبا، اللعب جماعي حينما يعجز وهو البطل الأوحد وقت المنجز.

“أمر غريب، أليس كذلك؟ رجل ذكي ويصر على الحديث عن كرة القدم طوال الوقت.”

بورخيس مخبراً الجالس إلى جانبه لويس سيزار مينوتي.

“يعتقد الناس بأنهم سيشاهدون عرضاً، ولكن الأمر ليس كذلك، يذهب الناس ليروا من سيفوز. ولو كانوا مهتمين بكرة القدم، فإن حقيقة الفوز أو الخسارة لن تكون ذات أهمية، فلا يهم النتيجة، ما يهم هو التشويق…” -بورخيس

ليست اللعبة كلعبة هي المراد، ظواهر كهذه موجودة في أمريكا وفي الهند بغض النظر عن اللعبة، يكفي الشخص أن يكون شهيراً كي يُعبد… “متلازمة عبادة المشاهر”. هي أكثر من مجرد لعبة بالنسبة لموسوليني، لدرجة أنه هدد اللاعبين بالفوز أو الموت، ذلك أن فوزهم نجاح ينعكس على الهوية الجمعية، نحن فزنا، إيطاليا الفتية فازت بأطيافها، ألمانيا الآرية النقية فازت فهي لا تخسر وها هنا تغدو كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، فللنجاح عشرات -بل ملايين- الأبطال وللفشل واحد أو آحاد، الجميع سينال الفضل؛ صحفي، مشجع، مدلك، محلل، كرة القدم توحد الشعوب… كرة القدم أكثر من مجرد لعبة… قل ذلك مجدداً! كرة القدم أكثر من مجرد لعبة… حدثني عن ذلك، كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، قل ذلك مجدداً… بصوت بول رودّ.

“الرياضة كممارسة لم تعد موجودة، أو موجودة لأسباب اقتصادية…” -أومبيرتو إيكو

يتكلم بعض المدربين عن تقديم عرض تلبية لرغبة الجماهير، فلنواجه الأمر، كرة القدم فقدت كثيراً قيمتها كلعبة، كما نرى في كأس العالم هذا وكما رأينا وكما سنرى، رهان الفرق والمدرب أو الصحفي أو اللاعب على اللعب الجيد هي قضية خاسرة، عقلية الجماهير لا يجمعها الذوق بل الأحداث، الفريق أو فريقي. اللعبة داخل الشاشات، أو مدارج مطابقة في روحها للكولوسيوم، كرة القدم النقية الناصعة لم تعد موجودة، ربما موجودة في الشوارع وفي كرة الصالات، هناك سترى جودة ولعبة واستعراض وتعصب أقل ولعبة أكثر إنسانية لا يحاوط اللاعبين جماهير يساوونهم بالديكة، كرة القدم للاعب أبداً، الشعبية ليست دليلاً على أي شيء، المشاعر لن تنزه اللعبة، فالمشاعر قادمة ربما من ترسبات نفسية وأياً كان المجال ستكشف المشاعر عن نفسها. تكاثر الجماهير أسال لعاب الرأسماليين ليتلاعبوا بالجماهير، ثم الإعلام وثقافة الثرثرة، إذ أن ساعة لعب يقابلها عشرات الساعات من النقاش نادراً ما يكون عن كرة القدم، الانتماء والتماهي، خلق الأبطال، صنع الأعداء، وعوامل “علم النفس الشعبي” لها دور حتماً، الجماهير سبب وأثر، هي ضحية وجاني، هذه العوامل ألقت بظلالها على نقاء الكرة لتجعلها أكثر من لعبة.

[1]Testosterone changes during vicarious experiences of winning and losing among fans at sporting events. Paul C. Bernhardt.

النقر للوصول إلى GumbrechtBeauty.pdf

La chiacchiera sportiva. Umberto Eco, 1973, Il costume di casa. Evidenze e misteri dell’ideologia Milano, Bompiani, pp. 237-242.

https://us.as.com/us/2021/08/24/tikitakas/1629839757_110577.html

https://apuntesderabona.com/borges-y-menotti-el-encuentro/amp/

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: