نظام اللعب التموضعي الصارم في مواجهة التفاعلات والتناغم التي تنتج الفوضى

“نطمس فردية الإنسان ليكون إمّعة فيصبح قبوله في المجتمع بقدر إمّعيّته ومشابهته للآخرين.”
إبراهيم البليهي
اللعب التموضعي أسلوب من أساليب كرة القدم في مرحلة الحيازة ربما يرجع أصله إلى اسكتلندا و من بعده الهولنديين مع رينوس ميخيلز في السبعينات وساكي الذي عرف المرجعيات الاربع للاعب في اتخاذ قراراته: الكرة، المساحة، الخصم و الزميل. ثم كرويف و فان خال من بعده و ربما النسخة الأبرز أو الاكثر حداثة فيما بعد في برشلونة بيب.
كرة القدم نظام معقد و يكمن تعقيده في الملعب وليس النقاشات النظرية، شخصياً كنت أميل للمدربين أصحاب الأسلوب بل لا أرى غيرهم وما زلت أفضل ذلك، لكن ما المانع في أن يكون لك أكثر من منظور بعد المراجعة و التدقيق، الموضوعية شيء وهمي كما أظن، للجميع نظرة ذاتية عن كل شيء ولكن يمكن أن تتسع العقول لتغيير الآراء، مازلت لا أرى في التناقض مشكلة فمن يقرأ أكثر يجد نفسه أمام أفكار تجبره على احترامها حتى ولو اختلف معها. لكن ماذا لو كان البعض لا يمتلك رأياً من الأساس و فقط يقضي حياته ممرراً لأشياء لا يعرف عنها شيء فقط ليشعر أنه ذو قيمة و له منظور خاص.
فكرة اللعب التموضعي”1” سريعاً -فقد استرسل الكثير في شرحها- قائمة على الكرة كأداة لتحريك الخصوم و تموقع لاعبي فريقك بمسافات متناسبة بهدف اللعب في المساحات عن طريق خلق التفوقات بأنواعها العددية والتموضعية والنوعية فيما بعد في مرحلة الثلث الأخير والتفوق العلائقي او التناغمي كما يشير إليه باكو سيرولو كنوع رابع للتفوق ينتج من التناغم والربط والتفاهم بين اللاعبين في التدريبات ليس للمدرب يد فيها، يترك اللاعبين سوياً في مباريات مصغرة أو مباريات استحواذ أو حتى تمرين الروندو. ربما نسخة كل مدرب تختلف عن الأخرى في درجة التقيد والالتزام بالمراكز ودرجة تطلّب مدرب أكثر من غيره. فمثلاً ساري يؤكد على ضرورة اللعب من لمسة واحدة، أسلوبه معقد أكثر من غيره. كونتي رغم أنه ليس مدرب استحواذي كبيب وساري مثلاً لكن فرقه أكثر تقيداً بالمركزية و يعيبها بعض السكون أحياناً كونه يفصل بين حالات اللعب في تدريباته واعتماده على أنماط لعب مكررة أكثر من غيره. تين هاغ يعطي الحرية داخل النظام مع وجود بعض الجمل المركبة المسبقة في التدريبات ولكن الأهم بالنسبة له هو الانتشار و الهيكل البدئي للفريق. فكرة الممرات الخمس الصارمة في العمق و الأطراف و الوسط و أنصاف المساحات و أقصي اتساع للملعب خاصة ببيب وليس على الجميع أن يتبعها، هناك من يعطي حرية أكبر للاعبيه حتى بالتزامه بمبادئ اللعب التموضعي: تين هاغ و أرتيتا أمثلة علي ذلك. تين هاغ مثلاً لا يهتم بأقصي اتساع للملعب من الطرفين بشكل الزامي حيث يميل لتضييق الملعب أحيانا و الاعتماد على التقارب بين اللاعبين وقد تفيده في الضغط العكسي عند فقدان الكرة، ناجلزمان كذلك لا يجبر لاعبيه على ذلك.




إذاً لكل مدرب الحرية في خلق أسلوبه الخاص المعتمد علي لاعبيه و خصائصهم و مدى قدرتهم على التكيف مع أسلوبه و مدى قابليتهم للتطور. اللعبة تعود للاعب أولاً وليس المدرب، الجميع يهدف إلى شئ واحد وهو تسجيل الهدف و الفوز ولذلك أياً كان الفريق الفائز في مباراة -طالما لم يستفد من قرارات تحكيمية أو عوامل تفسد شرعية فوزه- فإن فوزه يعد عادلاً، مسألة الاستحقاق أمر آخر و الأداء شيء يضاف لك بكل تأكيد ولكن في كرة القدم تعلمنا أن من يفوز ليس الأكثر إقناعاً دائماً.
اللاعب قبل النظام…
“لقد تدربت من ثلاث إلى أربع ساعات أسبوعياً في أياكس ولكن عندما كنت صغيراً لعبت من ثلاث إلى أربع ساعات كل يوم في الشارع، لذا من أين تعتقد أني تعلمت كرة القدم؟”
يوهان كرويف
“كفاراتسخيليا لا يحتاج إلى التوجيه، عدم القدرة على التنبؤ به يسمح له بتحويل العادي إلى المذهل. إنه مصدر قوة لنا. لا يحتاج اللاعبون أمثاله إلى تعليمات محددة، يمكنه الحصول على الكرة و مراوغة خصمه و صنع لحظة التفوق في المباراة.”
لوتشانو سباليتي
بعد استلام الكرة من حارس مرمى فريقه، يتذكر المدرب بيتر بوش في مباراة بين فريق أياكس الأول و الفريق الثاني: “قام فرينكي بالتمويه وتجاوز ثلاثة أو أربعة لاعبين كان بوش غاضباً: كان من المفترض أن يلعب دي يونج كما لو كانت مباراة تنافسية، وليس تجربة المهارات الخيالية. صاح [بوش]، “اللعنة، فرينكي، لن تفعل ذلك في مباراة كبيرة، أليس كذلك؟” “ولم لا؟” سأله دي يونج. عندما يحذره المدرب من المخاطرة، فإنه عادة ما يهز رأسه مطيعاً، ثم يفعل ما يريد على أي حال.

“تكمن جودتي في حدسي، لا يمكنني تجاهله، وإلا فسأكون مثل آلاف اللاعبين الآخرين، أومئ للمدرب برأسي كما لو أنني فهمت ما يطلبه مني، ثم أقوم بما أقوم به دائماً.”
فرينكي دي يونج
العلاقات و التناغم أم التسلسلات المكررة…
تبدو كرة القدم متوقعة وأحياناً رتيبة حين تقوم على التكرار المفرط للأنماط والجمل المركبة والتي يتدرب عليها اللاعبون سلفاً في الحصص التدريبية ويغيب عنصر المفاجأة وأحياناً يسهل على الخصوم التحضير لتلك السيناريوهات المتوقعة حيث يعرفون تمركز كل لاعب مسبقاً، ديناميات الفريق في الاستحواذ، وآليات خروجه بالكرة. لحظات الإبداع والتفوق الفردي غالباً ما تنجم عن مهارة فردية وخيال لاعب وليس تحضير مسبق من المدرب و جهازه الفني الذي تنحصر أدواره في التحضير للمباريات وفي تصميم التدريبات بمختلف وحداتها ووضع توليفة متناغمة منسجمة، وضع الهيكل البدئي للفريق مع الانتشار وتوجيه اللاعب لبعض المهام كمحفزات الضغط مع بعض التمارين التحليلية التي لابد منها أحياناً لتطوير الفرد داخل السياق “2”.
اتخاذ القرارات ملك للاعب وحده في الملعب وليس للمدرب دور فيه، في لعبة تتجه نحو العشوائية أكثر من التنظيم اللاعب الأكثر قدرة على التصرف والتكيف مع اللعبة سينجو والأتمتة والأنظمة المعقدة وحدها لن تفيد.
“يميل الفيزيائيون للتفكير في أنه يكفيهم قول: ها هي الظروف والمعطيات الأولية، فما الذي سيحدث لاحقاً؟”
ريتشارد فاينمان
تشبه كل النظم الخطية بعضها بعضاً، أما كل نظام لا خطي يكون لا خطياً بطريقته الخاصة، كرة القدم نظام لا خطي له خصوصيته ومن يحاول أن يتعدى حدوده في محاولة قولبة هذا النظام في بعض البيانات و الأرقام و التنبؤ بما سيحدث يصطدم دوما بنتائج غير مفهومة…”3”.
تختلف كرة القدم العلائقية relational عن المركزية positional في شئ جوهري ألا وهو أنها لا تعتقد أن الاحتمالات المستقبلية تنبثق من أنماط ثابتة ومعروفة و مكررة… بدلاً من ذلك، تقترح العلائقية أن الاحتمالات المستقبلية الجديدة تظهر لتكون واقعية من خلال إقامة روابط مع مجموعة لا حصر لها من الاحتمالات الافتراضية التي لا تزال غير معروفة لنا حتى الآن.
يجب أن نكون مستعدين لتخيل أن المستقبل لا يمكن تصوره. أن نتخيل أنفسنا كسحابة من التفاعلات، والفقاعات، والدوامات في حالة تدفق مستمر. ومع حدوث هذه التفاعلات وعدم استقرار الحالات السابقة، فإننا نفتح طرقاً ممكنة لأي مجموعة من الحقائق الافتراضية اللانهائية الموجودة “في الخارج” في انتظار أن تتحقق إمكاناتها. من خلال زعزعة النظام والحركة المستمرة تحديداً -وليس الاستقرار والثبات- يجد الواقع فرصاً للتطور بطرق مثيرة للاهتمام وجديدة وغير متوقعة. في العلائقية، فإن عملية التفاعلات البشرية نفسها هي التي تولد إمكانيات الوصول إلى مجموعة لا حصر لها من الحقائق الافتراضية وتحقيقها. ديناميات التفاعلات غير ثابتة وفوضوية. لكن عدم الاستقرار هذا هو الذي يوفر الفرص لإجراء اتصالات جديدة وبديلة وغير متوقعة… “4“.
دينيز مدرب فلومينيزي سافر إلى مانشستر لمشاهدة فريق جوارديولا وعلق على ما رآه. “…من خلال ما رأيته كنت قادراً على التعرف على اللعب التموضعي حقاً… تبدأ اللعبة، وبعد دقيقتين لا يكون هناك سوى اللعب التمركزي. يطيع اللاعبون المساحة المحددة، حيث يتعين عليهم البقاء… هناك خط عبر المنتصف يحدد من على الجانب الأيسر من الجانب الأيسر، ومن على الجانب الأيمن من الجانب الأيمن، ويتحرك اللاعبون في مساحتهم والكرة تصل إلى هذه المساحات… نحن فلومينيزي لا تموضعيين “أكثر حرية “ ولسنا تموضعيين… الملعب مفتوح بشكل أكبر، لعب أكثر حرية… لذلك أعتقد أن الفارق الأكبر هو أن إحدى الأساليب مرتبطة أكثر بالمراكز والأخرى أكثر حرية. أعتقد أن الأمر يتعلق أكثر بالثقافة.

المدرب المهتم بالتناغم و العلاقات أكثر بين اللاعبين لا يهتم كثيراً باحتلال لاعبيه المساحات الثابتة باستمرار. بدلاً من ذلك يتم تشجيع اللاعبين على توزيع أنفسهم على مقربة من حامل الكرة مع وصول الجناح او الظهير العكسي غالباً إلى المساحة الفارغة على الجانب الآخر وتغيير اللعب بعد تناقل الكرة فيما بينهم وجذب الخصم إلى هناك.

شخصياً لا أرى هناك مشكلة في أن يملك كل فريق أو مدرب نهجه الخاص، ما يهمني هو أن يكون الفريق متناغم متفاهم وينتج اللاعبون عرضاً ممتعاً، لا يهمني مدى تحكم المدرب وجهازه الفني في كل التفاصيل، في النهاية المشاهد يريد الاستمتاع باللعب لا التحكم في اللاعب بسلطة إضافية جديدة كل يوم، إذا كان انتشارك وهيكلك البدئي جيد والتفاعلات بين لاعبيك منتجة و خلاقة فلمَ لا يعتبر الناس هذا أسلوباً؟ .. أختلف مع أنشيلوتي كثيراً حين يكون الفريق انتشاره سيئاً ولا يتحكم في المساحات الدفاعية و يتم اختراقه بسهولة فهذه وظيفته الأساسية وليس صناعة أنماط محددة كما يدعي البعض. ريال مدريد الحالي ليس برشلونة بيب ولا يمتلك نفس مقومات الفريق الذي يستحوذ معظم المباراة، لاعبوه أقل ذكاء و أقل قدرة علي الربط والتحكم في إيقاع المباريات تحت ضغط الخصم لكنه يجيد صنع الفوضى عن طريق هذه التفاعلات بين بنزيما و رودريجو و فينيسيوس و مودريتش و غيرهم. الغريب أن من يقول بأن فوز الفريق غير مستحق أو ظالم لا يقدم حجج على ذلك، فمبدئياً كلمة فوز ظالم غريبة ومضحكة لأن قانون اللعبة يقول من يسجل أكثر يفوز بتلك البساطة، الاستحقاقية و الأداء أمر آخر وما حدث في مباراة ليفربول الأخيرة فوز مستحق تماماً لريال مدريد ، ليفربول فريق هش لا يمتلك نظام قوي ولا حتى صنع الفوضى، لعب 20 دقيقة ثم اختفي بقية المباراة ، لم يمتلك التماسك الذهني ومن قبله المستوى التقنو-تكتيكي من معظم لاعبيه ، نظام ضغط الفريق هش و حتى تمركز دفاعه الوقائي في حالة الهجوم سيء مع استمرار أخطاء الفريق في مرحلة الدفاع ضد الكرات المكشوفة و المحجوبة و الأخطاء الفردية كذلك.

كتب المقال، الصديق عبدالرحمن: @PEP42740065.
المراجع:
الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المركب. إدغار موران.
Chaos: A Very Short Introduction. by Lenny Smith.
اترك تعليقًا