المدافع الجديد… بين بولينغي وبازوليني

تتعرض الأساليب الهجومية مؤخراً لسيل من النقد، يمس بعضهم الهياكل والتنميط وآخرون يستهدفون التأويلات المتطرفة أو يتعقبون من يروجون لطريقة وحيدة ولا غير في اللعب، وهذه سنة الحياة فلا شيء ولا فكرة تتجاوز النقد. أما الدفاع والضغط فلا يناقشان كثيراً عند من يحاول إعادة اللاعب للواجهة لا بوصفه أداةً للمدرب في صنع الأسلوب بل عضو فاعل في صنعه، وهذا من شأنه الإيذان برؤية كروية متجددة تنتمي في الواقع للماضي. أثرت مؤخراً فكرة المدافع الشامل، الذي يأول ويقرأ اللعب دون تشدق بالمفاهيم أو التصرف الصحيح المزعوم، غير أن ما دعاني لكتابة هذا المقال هي أطروحة نشرت مؤخراً في الكوفيرتشانو لمدرب الإنتر U17 تيدزيانو بولينغي، عنونها بـ”تداخلات الأماني، الشرح والتحليل السيميولوجي للفعل الكروي”. من منظور إنساني وليس علمي نظر المختص بخط الدفاع السابق بعدسة السيميولوجيا إلى كرة القدم كنظام من العلامات أو الإشارات، فالتواصل لا يقف على الكلام والنطق وإصدار أصوات ذات معنى، بل طريقة إصدار الأصوات -ما يعرف باللغة المصاحبة- أو الإيماءات دورهما هام في إيصال المعنى تاماً، ضف عليهما العلامات أو الإشارات في التواصل اللالفظي، والسيميولوجيا تشمل السابق في اللفظ وما سواه. كتبت السنة الماضية حيال هذا الموضوع، ولكن بيير باولو بازوليني كان قد سبقنا كلانا في طرق هذا الباب بمقالٍ كتبه مطلع 1971، بولينغي استشهد ببازوليني واستلهم منه الفكرة في الواقع.

“لعبة كرة القدم هي “نظام إشارات”؛ أي أنها لغة، وإن كانت لغة لالفظية.”

بازوليني

يتواصل اللاعبون برموز وشفرات، لغة ضمنية غير منطوقة وإنما مستشعرة، ولما كانت الوحدة الأصغر في اللغة هي “الفونيم” فقد ابتدع بازوليني -عابثاً- الوحدة الصغرى لكرة القدم وأسماها “البوديم” مستعيناً بالإغريقية، البوديم هي التمريرة، … “إمكانيات التركيبات اللانهائية لـ “البوديمات” تشكل “كلمات كرة القدم”؛ وتولف مجموعة “كلمات كرة القدم” خطاباً تحكمه قواعد نحوية حقيقية” يقول المخرج الموسوعي. وهذا هو الحال في أي نسق اجتماعي، ثمة لغة فرعية تتألف من رموز وإيماءات مشتركة بين المتفاعلين أو المشاركين بميدان ما، وهذا لا يقتصر فقط على التمرير، المراوغة -وهي لمحة شاعرية تبعاً لبازوليني- أراها تحمل في طياتها رسائل للزملاء، معلومة جديدة لجيشان سلوكي وتحول طوري لديناميات جديدة: مداهمة لمنطقة الجزاء، مهاجمة مساحة أخرى، تبديل المواقع، تقاطعات، ثغرات…الخ. والأمر سيان لدى للمدافعين، والذين سيتفاعلون وفق تلك المعلومات وسيأولون إيماءات ونظرات وحركات المنافس والزميل.

يفرق بازوليني بين الكرة الشعرية poetic والكرة النثرية prosaic، فالكرة المنظمة الأوربية يراها نثراً، نصاً جافاً، أما الكرة الإبداعية اللاتينية والبرازيلية فيراها شعراً عذباً. بولينغي بدوره يعتبر الدفاع الفردي شعراً فالتاً طلقاً بلا قيود وعلى العكس من دفاع المنطقة أو دفاع الخط، أمر يبعث على الطرافة؛ فالشعر العربي المنظوم مثلاً مقيد وهناك حراس معبد مترصدين تملكهم اللغة ولا يملكونها. الشعر لدى الغربيين هو الشعر الحر أو التعفيلة عندنا، هو أقرب للنثر وإن احتوى أو خلا من الوزن فهو مقفى أو مسجع أو يتسم بالشاعرية وعذوبة المفردة أو الاسترسال في الوصف والتصوير، ولو وضعنا تشبيه بازوليني في سياقنا التاريخي واللغوي لشبهناه بالشعر أيما كانت ضروبه، وأفرغناه من النقائية المبتذلة وانصرفنا إلى شعور الشاعر قبل نظم الناظم.

بولينغي عاون سيتفانو فيكّي مدرب الإنتر تحت 19 عاماً عام 2017 متولياً زمام تدريب خط الدفاع، طبق فيكّي دفاع المنطقة بالتزامن مع تولى سباليتي دكة الفريق الأول وقتئذٍ، مع هذا التوحيد للأسلوب بين فرق الإنتر سُمح لبولينغي التلصص على تدريبات سباليتي ومعاونه الجديد مارتوشييلو، هذا الأخير أتقن الصنعة من ساري وجامباولو في إيمبولي. مع وصول كونتي تغير الدفاع الرباعي إلى ثلاثي، بيد أنه لا يرى اختلافات كبيرة، فمبادئ دفاع الخط لا زالت تُطبق، كرة محجوبة وكرة مكشوفة وتغطية وإمالات وما شاكل من العلامات التي يتعامل معها المدافعون للتواصل والاتصال والتصرف. بعد هذه السنين أعاد بولينغي مراجعة قناعاته أو التي يعتقد بأنها قناعاته، يستشهد بولينغي بموقف بازوليني الناقد للكرة الهندسية الجماعية الإيطالية التي تحاول شغل المساحات بعقلانية عند الهجوم، أو ما نراه شائعاً اليوم في كل حدب وصوب في الحالتين الدفاعية والهجومية… “لقد رأينا كيف أن الطبيعة النثرية لدفاع الخط تستلزم التعرف على مختلف العلامات وإسناد المعاني المتواطئة/الأحادية والمشتركة إليها. ذلك أن التركيب النحوي الذي ذكره بازوليني يُفهم على أنه فكرة عن الجماعية والتنظيم، يُرى عياناً بياناً من خلال الطبيعة الهندسية لطريقة دفاع الخط. ظننت يومها أن تدريب الخط الدفاعي بأسلوب علمي/هندسي حصراً هو النهج الوحيد الممكن أو ربما هي الطريقة الصحيحة. لكن وراء هذا الكمال المفترض تختبئ بعض العيوب الكبيرة”.

“سيميائية الخط الدفاعي، أكانت نثرية أو شعرية، تزودنا بـ”وسائل جسدية”، بعلامات تقودنا عبر آلية الإحالة إلى شيء آخر (الأفكار والافتراضات والأفعال). كل علامة تحدد ردة فعل على أربعة متغيرات: شيء يمثل شيئاً آخر لشخص ما في ظروف معينة. لذلك تُعرّف العلامة على ذلك النحو عندما يفسرها شخص ما. يحدث هذا التفسير في سياق محدد وتتعلق بظروف محددة كذلك. قد تُفسّر نفس العلامة بشكل مختلف من قِبل أشخاص مختلفين أو بشكل مختلف من قِبل نفس الشخص بناءً على السياق الذي هو فيه. العلامة في حد ذاتها فعل تواصلي غير أن إسناد معنى وحيد لهذه العلامة يتأثر بالسياق الثقافي لأصل المتحاورين. العالم التواصلي والسيميائي لكرة القدم -وبالتبعية القسم الدفاعي- يشمل الكرة والمرمى والزملاء والمساحة والخصم. من كل علامة من هذه العلامات، يمكن للمدافع أن يستمد معنى، وبالتالي كل من هذه المتغيرات يمثل مصدر اتصال للمدافع. على أساس الأولوية الممنوحة لأحد هذه المتغيرات يتضح الفرق بين نثرية طريقة دفاع الخط وشعرية طريقة الدفاع رجل لرجل.”

-بولينغي

توصل بولينغي إلى أن الحل يكمن في الدفاع رجل لرجل أو رجل في المنطقة (أو دفاع منطقة موجه للرجل)، هذا التوجه، هذا التطور -بزعمه- نابع من اللاعبين. “كل ما علمتك إياه عن دفاع الخط ضعه في الدرج…” أنجيلو غريغوتشي يصعق لاعبه السابق بولينغي بهذه الكلمات، ذلك أن طرق الدفاع “انعطفت منعطفاً آخر” بحسب غريغوتشي. يروي بولينغي واقعة بين غريغوتشي وبرانيسلاف إيفانوفيتش يوم كان الأول مساعداً -متخصصاً في الخط الدفاعي- لروبيرتو مانتشيني في زينيت، ففي تدريب على الكرة المكشوفة يسأل مدافع تشيلسي السابق لمَ على الخط بأكمله أن ينسحب نحو المرمى في مواجهة كرة مفتوحة بالرغم من وجود مهاجم واحد فقط؟ ربما كانت لحظة إعادة تأمل لغريغوتشي، قد يرد غيره على المدافع بغطرسة أو لا يجد مبرراً عقلانياً لهكذا أفعال وينكشف أمام نفسه كمجرد مقلد. ربما مسألة التفوق العددي مبالغ بها، بالطبع تؤثر وتمنح أفضلية نسبية إلا أن هذه المسلمات تُخترق باستمرار لأنها هشة، سواءً بلاعب صاحب جودة عالية أو متدنية، مهاجم ينسل بين مدافعيْن، جناح يراوغ 3 لاعبين واحداً تلو الآخر. لوكا غوتي مدرب سبيدزيا السابق قد يجيب بما يلي:

“يطبق غاسبريني دفاع رجل على رجل، وكمدرب ستعلم قبل بداية الموسم أنه عليك الاستعداد لتلك المباراتين. ثم يأتي يوريتش، تيودور، وبالاّدينو. وتصبح المباريات عشرة […]. ثم هناك العكس: هناك ساري وجامباولو اللذان يمتلكان قراءة دفاعية مناقضة. لا يتعلق الشأن بالخصم أو رجل لرجل، بل بالكرة. كل واحد منا لديه مسلمة التفوق العددي في الخلف. ولكن إذا لعبت تلك المباريات بهذه الفكرة، فسوف تدفع ثمن النقص في مكان آخر. حتى سبيدزيا تحاول نوعاً ما -وهذا ما يفهمه الأصوليون- لتغيير طريقة لعبهم. هناك تغيير كبير جاري في السيريي آ، إلا أن الكل منكب على أفكاره. يأخذ ألفيني بفكرة غاسبريني إلى أقصى الحدود. وجد بيولي في رحلته مكانه الخاص في الوسط بين ساري-جامباولو وغاسبريني. غالباً ما يلعب ميلان رجل لرجل ويبحث عن لاعبين يلعبون رجل لرجل، يلعبون اثنين على اثنين أو ثلاثة على ثلاثة في ملعب مفتوح. كالولو، توموري… ثم فاز بالبطولة. ما أدعو إليه هو محاولة فهم التغييرات الجارية، تحقق من أفكارك، واطرح المشكلة وتحقق مما يحدث في الملعب. تمنيت لو أخبرني أحدٌ بذلك قبل عشر سنوات.”

المسألة ضبابية قليلاً، لنراها من زاوية أخرى: يقولون تمريرة بين الخطوط أو كسر الخطوط أين تقطع الكرة تيهاء مساحات وكأن الخط أو الخطوط موجودة فعلاً وتستطيع إيقاف الكرة، متر واحد كفيل بمرور الكرة إذا لم تلتقطها رادارات اللاعبين الذهنية أو لم يضبط الممرر سرعة تمريرته، وبحالتنا يقول البعض 2 ضد 1 مثلاً؛ ما الداعي للآخر، أو ماذا يزن الآخر، ما صلته بالهجمة وتطوراتها اللاحقة؟ فقد أتخلص من منازعي المباشر وأواجه المرمى؟ مهاجم يرتمي بين 3 مدافعين ويكمل العرضية، ما وزنهم وما قيمة عددهم إذا استطاع الممرر توجيه الكرة بعيداً عنهم، كثرة المدافعين قد تعني إحتمالات أكبر لدحض الخطر، غير أن اللاعب/المهاجم لا يرى عدد المنافسين بل فُرَصَه في المرور والمسارات المؤدية للمرمى، في الاستباق، في التفوق الديناميكي ووقت الانطلاق أو التسارع عوضاً عن الانطلاق من حالة سكون أو الاضطرار للدوران كالمدافعين وهي أفضلية. على المدافعين قراءة الأمر من نفس المنظور، أين مكمن الخطر، ما فرص منافسي، إلى أين ستهبط الكرة، أأستبق، هل أتريث أم أضع جسمي …الخ. لا أن يراها من خلال أنماط مسبقة ولا إلى أين يقف في الحالة كذا وكيف يغطي في الحالة كذا وما شابه، أن يرى الكرة والخصم ويغطي المرمى جيداً، ذلك أن النقاط المرجعية هامة على حدٍ سواء ولا تنفصل عن بعضها البعض، لا يضغط اللاعب زراً ولا يقول الآن الكرة ثم اللاعب وبعد ذلك المساحة… على اللاعب أن يقيم الوضع سريعاً ويضع تفاعلاته مع زملائه في الاعتبار، فالحل ليس في دفاع الرجل لرجل كذلك إذا ارتأينا أن اللعبة نظام معقد، ذلك أن أي نظام هو تبسيط للعبة وأحياناً تبسيط مفرط.

يحلل بولينغي أحد لقطات دي ليخت حينما لعب في يوفنتوس تحت إمرة ماوريتسيو ساري، ارتكب دي ليخت خطئاً لا يغتفر على مبادئ دفاع المنطقة، بخلاف معاناته في إيطاليا رغم محاولاته في الاستدماج، برر بولينغي ذلك بالبعد الثقافي لدي ليخت، مدافع أياكس السابق قادم من ثقافة تنخفض درجة اقترابها من اللايقين في إدارة المخاطر، على العكس من إيطاليا حيث تبتعد درجة اقترابها من اللايقين، يقول بولينغي أن موقف دي ليخت الثقافي الذي “يتسم بالمرونة والتسامح بالمقارنة مع من اعتادوا فرز الحالات، حالةً بحالة، لقد اصطدم بتصلب وعناد الذين يفكرون في طريق واحد فقط (الطريق المقنن) النموذجي لدفاع الخط الخاص بساري (درجة عالية من المسافة عن اللايقين)”. أمر آخر تنبه إليه بولينغي، دي ليخت قادم من ثقافة “منخفضة السياق” والتواصل بين أفراده يكون صريحاً وواضحاً وبسيطاً، وفي إيطاليا الثقافة “عالية السياق” تقدم الجماعية أولاً ويكون ثمة تناغم بين أفراد المجتمع فبالإشارة أو الإيماءة قد يصل المغزى، وهذا يؤثر على رؤية اللعبة كذلك في البلدين: “يجب على اللاعب في دفاع الخط، كما ذكرنا سابقاً، أن يتعامل مع زملائه في الفريق، وموقع الكرة، والكرة المحجوبة أو المكشوفة. تصورات تبعد سنوات ضوئية عن كرة القدم الانسيابية دون أدوار واضحة في الثقافة الهولندية”. الطريق المقنن أو المرمز هو طريق مليء بالقواعد والعلامات، أقل تحريراً للاعب، أقل احتراماً لإمكانياته، سلبٌ لإرادته، لكن ما هو خاطئ عند ساري لن يكون كذلك عند غاسبيريني، وما هو خطأ عند غاسبيريني لن يكون كذلك عند ساري، فلنقف عند جورجو كييليني قليلاً:

“عليك التفكير بالخصم والكرة، أبقِ بصرك عليهما. إذا نظرت إلى الكرة فقط، فسيخدعك خصمك. ولكن إذا نظرت إلى الخصم فقط، فستتجاوزك الكرة. عين على الكرة، عين على الرجل، مساحة مفتوحة لتتمكن من التحرك بزاوية 360 درجة. وضعية الجسد بالنسبة للمدافع هي كل شيء. أشعر بأين وكيف أضع نفسي: لا أفكر بذلك، بل أعرف وحسب. ليس هناك وقت للتفكير، عليك أن تفعل الكثير من الأشياء في نفس الوقت، عيناك، عقلك، جسدك، يمضي كل شيء بسرعة كبيرة. جنباً إلى جنب مع حارس المرمى، أنا أدرس كيفية تغطية المساحة، كل وضعية: إذا تأتّى للمهاجم التسديد، فسأجعله يسدد حيث أريد. لا أترك اتجاهين للمهاجم مطلقاً كي لا أشوش على حارس المرمى. […] 90٪ من الأهداف العكسية هي أخطاء في التمركز أو قرار المدافع. المدافع المتوسط أو المتواضع يخطئ في وضعيته الجسدية. من الأفضل أحياناً أن تعرف كيف تبقى ساكناً. المسألة لا تقف على اعتراض التسديدة، بل تقف على تغطية المساحة: يعرف حارس المرمى -من خلال وقفتي- أي جزء من المرمى سأغطي. نتحدث مع بعضنا البعض أكثر من مائة مرة في كل مباراة، لا ينخفض الشد أبداً، ووابل من العبارات: “الرجل، تراجع! هيا! سأتقدم، غطِّ للأمام، تعال! للطرف، اصعد! اركض! توقف! يمين، يسار” إنها لغة أخرى، ترميز. الكلمة هي القيمة المضافة للفريق. الفريق الذي لا يتكلم غير متحد، ولا بد أن يخسر. فبالكاد تسمع المدرب في المباراة. أنت تستمع إليه خلال الاسبوع [التدريبي]، لكنه ينقل الطاقة أو الأمان ولو بنظرة واحدة خلال التسعين دقيقة، أما على مستوى الصوت فالظهير الذي يبعد عنه 10 أمتار وحده يستطيع سماعه؛ إذا كنت على بعد ثلاثين متراً، فوداعاً. نحن اللاعبون، نحن المرجع أثناء المباراة. للأمر صلة بالترجمة، بالتأويل. يجب أن يكون القائد هناك، وإلا فستكون فوضى، لكن بعد ذلك تكاد السفينة تتحرك من تلقاء نفسها. البحارة هم الأهم!

انتقد بولينغي كذلك لقطة لمدافع أتالانتا خسر مراقبه كما نرى أعلاه، مسلطاً الضوء على خلو الدفاع رجل لرجل من التغطية للمساحة خلف المدافعين، ومن الاتصال بين الأفراد والتغطية المتبادلة عندئذٍ، أعتقد أن الاقتران المفرط يجرنا إلى مباراة صفرية zero-sum في أغلب الأحوال، إما تكسب أو تخسر، فالمهاجم المنفلت توجه للمنطقة حراً طليقاً، وهنا نرى لمَ اللعب تحت الضغط واستدراج الخصم قد يكون فاتكاً كما يفعل برايتون وفلومينينزي باختلاف أساليبهما، فعوامل كاللمسة الأولى أو التوجيه الجسدي أو الاقتراب المفاجئ ولو بميليمترات هي في الواقع عوامل مصيرية، بهذا نجد برايتون وكأنهم يلعبون برجل لرجل لكن في الحالة الهجومية، الكل يسقط ليصطحب معه أحداً وبتناقل سريع سواء بتمريرة خلفية للمحور أو عرضية يسبقون الخصم في العزم والمهاجمون منطلقون لالتقاط التمريرة الأمامية من اللاعب الكاشف للملعب، والذي دائماً ما يكون عفريتاً يخرج من العدم كاللاعب الذي يمرر وينطلق أو الرجل الثالث، ربما يصيب المدافعين المحيطين عمى إدراكي غير مقصود جراء مراقبة الكرة فقط، لربما هؤلاء من يجب أن نراقبهم، فهم لب المشكلة!

أحرى أن يكون الدفاع سؤالاً مفتوحاً، وجوابه مفتوح على تقدير اللاعب وقرائته، أساليب أو أنظمة الدفاع هي طيف متدرج بين ساري-جامباولو وبين غاسبيريني، في المنتصف هناك الكثير من التأويلات بحسب البلد والثقافة. عيب نظام المنطقة الخالص أنه مفرط في الكلانية (جماعية) وعيب النظام الثاني أنه اختزالي (فردي)، ثمة اتصال مفرط بين الأفراد في النظام الأول وينقطع الاتصال بين الأفراد في النظام الثاني، هناك مسافات بين اللاعبين في المنطقة، ولا مسافات تشكل خطوط افتراضية في النظام الثاني، لاعب حر أحياناً كثيرة بين الخطوط في نظام المنطقة، حامل الكرة حر أحياناً في الرجل لرجل، أطراف مفرغة وصعوبة في التعامل مع المتوغلين من بعيد في المنطقة، رقابة لصيقة وملاحقة وظهر مكشوف في الرجل لرجل، آليات وقواعد كثيرة تستدعي التدريب في نظام المنطقة الخالص وأقل في الثانية، العلامة أساسية محورية عند الأولى “الكرة” و”الرجل” عند الثانية.

أما عند تبني التعقيد يلزمنا الأخذ بالكرة والمنافس وموقع المرمى والزميل على قدم المساواة، أحياناً بأولويات مختلفة ولكن تبقي الكرة هي محور اللعبة ولكن ليس بالنظر إليها وحسب بل بقراءة مساراتها كذلك، فقد تبعد عيناك عن الكرة ولكن قد تعرف مكمن الخطر ولذا قد تلحق بالمهاجم غير أنك تضع بحسبانك الكرة. اللاعب لا ينشئ نظاماً، إنما تفاعلاته مع المحيط هي ما تجعل اللعب هجوماً أو دفاعاً ينبثق، على النطاق المحلي على أقل تقدير لا بوصفه عنصراً أو جزءاً معزولاً، أي الفرد لوحده دون مراعاة لمحيطه، الدفاع الفردي لا يعني أبداً دفاع رجل لرجل، ففي دفاع المنطقة يتعلم اللاعب جميع المفاهيم لوحده أيضاً ويطبقها لوحده بالبديهة حتى ولو كان باتصال مع الزملاء. ليس من الصواب التضييق على اللاعب بالفكرة أو المبدأ، فاللاعب هو الفكرة وهو المبدأ كما يقول أوسكار كانو، على اللاعب التنبؤ والترقب، أن يعلم مزاياه وحدوده، مزايا وحدود من يلعب ضده، يتعلق الأمر بإخماد الخطر بالوسيلة الفعالة بإجابات مفتوحة. بولينغي يقترح استخدام أساليب تدريب علم النفس الإيكولوجي، بمفهوم المتاحية affordance الذي يهتم بالوظيفية لا الهيكلية وهي موضوعية تعتمد على بيئة الأداء ولكنها ذاتية في نفس الوقت إذ تعتمد على قدرات اللاعب وحوافزه وبصيرته، وكذلك النهج المدفوع بالقيود constraints-led approach بحيث يحاول المتعلم استكشاف الحلول والانتظام ذاتياً من خلال القيود، والتي هي المهام أو التمارين. بحسب بولينغي “يجب أن يستند التدريب على الاستكشاف والتنوع والمحاولة والخطأ، بدلاً من التركيز على تكرار التمارين التي تهدف إلى إتقان تكنيك مثالي ونمطي.”

أشارك بولينغي الرأي في أنه على المدافع أن يعرف “متى وكيف يكون دفاع الخط ملائماً أكثر وليس كرجل لرجل، والعكس صحيح”. يرى بولينغي أنه ينبغي أن يكون التوجه نحو التنقل بين دفاعيْ المنطقة والرجل لرجل، يقول المدافع السابق لليتشي أنه “من الضروري بوجهة نظري تدريب المدافعين على التنقل المستمر بين دفاع الرجل لرجل ودفاع الخط”؛ أعتقد أن هذا هو الوضع الطبيعي حتى ولو دون قصد في السواد الأعظم بين الأندية، فمنذ التسعينات تراجعت أسهم دفاع الرجل لرجل، الألمان وحسب هم من كانوا يطبقونها آنذاك، في إيطاليا بقيت أنواع أقل حدة أكثر انتشاراً، انتشر دفاع المنطقة عالمياً بطرق لينة وآراه السائد، فلا يمكننا تعميم تجربة الطليان عالمياً ففيها فقط هذه التطرف مع ذبول أوراق جامباولو وساري فلا يشاركهما هذا الدفاع إلا ديونيزي، وعدد من تلامذة غاسبيريني في المعسكر الآخر ولا يمثلون أكثرية. تحدث بولينغي في القسم الثاني من أطروحته عن القيادية، عن دوره كمتخصص في تدريب خط الدفاع، وكيف كان ستيفانو فيكي المسؤول في البداية ثم تسلم القيادة هو لاحقاً بعد أن تعلم من المدرب الأول ولا يعني المتخصص أنه أعلم أو أهم من المدرب، هو هناك للمساعدة وتخفيف العبئ على المدرب، ولمَ لا قد يكون المتخصص مهتماً بحالة معينة فيجذب الانتباه ويستعين به المدرب لمده بالنصائح والتدريبات. كانت هذه مراجعة لأطروحة بولينغي المثيرة ممزوجة بوجهة نظري لما يجب أن يكون عليه الدفاع، وأسوة بالهجوم ينتمي لقدرات اللاعب الإدراكية الفنية ككائن مفكر لا آلة مستجيبة.

المصادر

https://www.figc.it/it/tecnici/news/la-difesa-di-reparto-e-quella-a-uomo-le-prospettive-verso-la-retroguardia-del-futuro/

https://www.cittadellaspezia.com/2022/09/27/gotti-legge-il-calcio-ci-sono-i-gasperini-ed-i-sarri-con-pioli-in-mezzo-cosi-la-serie-a-sta-cambiando-464479/

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: