اللغة و التواصل .. بين دو سوسير و سيرولو

“اللغة هي نظام من العلامات يتأسس على العلاقات التي ترتبط بها العلامات لتشكل نظامًا أو بنية وهي علاقات يشترك فيها كل أعضاء الجماعة اللغوية، وتمثل المخزون الذهني لهم.”

فيردناند دو سوسير

أكد السويسري سوسير -وهو من أبرز مؤسسي علم اللغة في القرن العشرين- أن اللغة يجب اعتبارها ظاهرة اجتماعية ، نظامًا يمكن رؤيته بشكل متزامن كما هو موجود في أي وقت و غير متزامن لأنه يتغير بمرور الوقت.

كرة القدم تَمثل جيد للحياة يبرز فيه دور الجماعة على الفرد والفرد بصفته مؤثر و متأثر هو المكون الرئيسي للبنية الجماعية ، لعلك اذا شاهدت الجيل الذهبي لبرشلونة ، البرازيل ، مانشستر سيتي الحالي ، برايتون أو صن داونز تلحظ التباين بين آليات و تفاعلات و ربما نهج كل منهم لكن القاسم المشترك بين تلك الفرق عبر العصور هو السمت الجماعي الغالب على هذه الفرق مما يوحي لك بأنهم يلعبون معًا لسنوات منذ الطفولة.

بداخل عالم معقد من المساحات الضيقة الكرة هي المفتاح ، سيرخيو بوسكتس كما يروق لي وصفه بأنه واحد ممن تحدثوا من خلال الكرة فهي لغته المباشرة و الضمنية ، قال عنه بيب بأنه لا يحتاج للمسة ثالثة لأنه على الأغلب يكتفي بلمستين ليفهم ما يواجه من مشكلات و يجد الحل الأنسب لها ، ربما يكون هذا سر من أسرار اعجابه بسيرخيو حيث يفضل لاعب الارتكاز الذي يفكر أكثر مما يجري ، سريع البديهة و التصرف حسب كل موقف يجيد فن خداع الخصم بلغة ضمنية بينه وبين أقرانه.

“جوارديولا ، وهو يحترم أيضًا ماهية اللاعبين (الجميع يتطور معه) ، يخلق ويدير لغة مشتركة تعزز ما هو موجود بالفعل بين لاعبي كرة القدم. لقد حقق القيام بذلك درجة من الاستقرار والتحكم في جميع أدواته كما لم يعرفها من قبل. يرى بيب لعبة كرة القدم أكثر هندسية ، حيث يحاول اللعب و ألا يملك المنافس الكرة أو المساحات لمهاجمته.”

-راول كانيدا
سنذهب الى ستامفورد بريدج -ملعب تشيلسي- لنتحكم بهذه اشارة الى الكرة أداة الفريق للسيطرة و اللعب.

كرة القدم هي رياضة جماعية وعلى هذا النحو أفهمها ، يجب أن يسود الفريق على الأفراد. لذلك ، فهو عالم معقد ، مليء بالعناصر التي تتفاعل مع بعضها البعض لتصبح أكثر من مجرد مجموع أجزائه. في هذه الرياضة ، لا يصبح مجموع 1 + 1 + 1 + 1 = 4 ، لكن العلاقات بين تلك العناصر ستجعل الكل محصلة أكبر من الأجزاء . ليس من المفيد لنا فقط معرفة الأجزاء لمعرفة كيفية عمل الفريق ، فنحن بحاجة إلى المضي قدمًا وتحليل أوجه التآزر و التناغم التي تنبثق بفضل تَآلُف الأجزاء . هذا سيجعلنا نفهم كلانية اللعبة.

“ينسون أن كرة القدم عالم فيه الكل أكثر من مجموع أجزائه ، وإن كانت الأجزاء لا تتراكم فوق بعضها بل تتفاعل وتتباين.”

-خوانما ليو

يتساءل أوسكار كانو في كتابه : “كيف يمكننا إخبار لاعبي كرة القدم كيف يجب أن يلعبوا دون السماح لهم أولاً بإخبارنا كيف يعرفون اللعبة ؟” ، يمكن أن يكون لهذه الأنواع من الأسئلة أنواع أخرى من الإجابات -ولكن حل السؤال يكمن في صياغته كما يخبرنا كارل ماركس- . ومع ذلك ، في المستوى العالي ، ما نبحث عنه هو أن نصل الحد الأقصى من التفاهم ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا كانت العلاقات و التفاعلات بين اللاعبين ممتازة . لذلك ، سيكون الهدف النهائي هو الحصول على لغة مشتركة لجميع اللاعبين .. اللاعب معرفته إجرائية Know-how بينما معرفة المدرب و المشاهد في الأغلب تفسيرية ماذا و لماذا فعل اللاعب هذه الحركة او تلك تمريرة دي بروين ، ايلاستيكو رونالدينهو أو مهارة ريكيلمي ، كل هذه المهارات نعجز عن وصفها وهذا جانب من قصور اللغة لدينا فكيف تصف شيئا لم تجربه من قبل بنفسك ؟ فلنتخيل مثلا طعم ثمرة التفاح كيف تصفها لشخص لم يتذوقها من قبل أو رائحة عطر ما وهناك ما لا تستطيع وصف طعمه كالماء.

إذا كانت اللغة نسقًا من الألفاظ و الرموز المنتظمة يتم من خلالها التواصل بين الناس و إذا كان الفكر هو عمل العقل الذي يحدث داخل النفس فقد نشأ جدال بين علماء اللسانيات و الفلاسفة حول طبيعة العلاقة بين اللغة و الفكر فمنهم من يراها علاقة اتصال و الآخر انفصال .الاتجاه الأول الذي يوحد بين اللغة و الفكر حيث يعتبرهما شيئا واحدا ومن أهم دعاته الفيلسوف هاملتون الذي قال الألفاظ حصون المعاني أي أن اللغة تمثل حصنًا منيعًا للفكر، علم النفس أيضا يخبرنا بأن الطفل في مراحل حياته الأولى يجهل العالم المحيط به حتى يتعلم الألفاظ و الجُمل فيتكون لديه الفكر تدريجيا أي أنه يكتسب اللغة و الفكر في وقت واحد فلا تصور في الذهن دون لفظ يعبر عنه . الفكر لدى أفلاطون هو لغة صامتة و هيغل يقول بأننا نفكر داخل الكلمات ..خوسيه أنتونيو مارينا يعرف الذكاء بأنه بالضرورة لغوي : الذكاء البشري لغوي أساسًا ، لثلاثة أسباب: نحن نتلقى انتقالًا ثقافيًا من خلال اللغة ، وطريقة تفكيرنا لغوية ، ومن خلال الكلام الداخلي يمكننا توجيه سلوكنا ، ولهذا السبب نتحدث باستمرار مع أنفسنا. يتغير دماغ الطفل مع التمكن من اللغة. القفزة الكبيرة عندما يستخدمها للتواصل مع الآخرين ، يبدأ في استخدامها للتحدث مع نفسه. يحدث ذلك برأيه بحلول الطفل أربع سنوات. [1]

أما الاتجاه الآخر فوجه انتقادات أهمها هو كيف يمكننا تفسير عجز اللغة عن التعبير عما يجول بداخلنا أحيانا فلا نجد كلمات مناسبة لوصف شعور ما وهذا قصور في لغتنا فالانسان يملك أفكارا تفوق بكثير ما يملك ألفاظا . هذا الموقف الثنائي أبرز من يمثله الفيلسوف الفرنسي برغسون الذي وجه نقدًا لاذعا للغة فقال أن الألفاظ قبور المعاني فهو يرى بأن المعاني و الأفكار تتدفق باستمرار في حالة وعي الانسان و نحن نفشل في التعبير بصفة كاملة عما نشعر به لذلك يبقى الفكر أوسع من اللغة . يؤيده في هذا الصدد فاليري بمقولة إن أجمل الأفكار هي التي لم تكتب بعد .. كذلك يمكنني أن أميل للموقف الثنائي و أستدل بالموسيقى و الرسم و كرة القدم كبدائل للغة للتعبير عما بداخلنا من أفكار . محاولة الفصل التام مرفوضة بين اللغة والفكر في رأيي ولكن تتباين الاتجاهات.

أي لغة يمكنها أن تصف تمريرة دي بروين ؟ لغة شعرية بالطبع تعبر عن جمالها لكنها في النهاية قاصرة ..

إذا قلنا سابقًا أن كرة القدم ملك اللاعبين ولا يمكننا أن نتعارض مع طبيعتها … هل يمكننا حقًا جعل الجميع يتحدثون نفس اللغة؟ تتمتع الفرق الكبيرة مسبقًا بفرص أكبر للوصول إلى هذا الهدف ، ويمكنهم التوقيع مع من يريدون أو تكوين فريق بناءً على نموذج اللعبة الخاص بمدربهم -ان وجد- ، على الرغم من أن المُلاك في بعض الأحيان دون فهم يريدون جمع لاعبين من طراز رفيع سويًا دون النظر من سيكونون زملائه في الفريق ، أوهل يفهمون كرة القدم بنفس الطريقة. هذا هو الخطأ الأكثر شيوعًا ، وهو خطأ في صياغة النموذج. “لا يتم تشكيل فريق بإضافة لاعبين أكفاء وتنافسيين فقط. إنها ، بالأحرى ، مجموعة من اللاعبين يكمل كل منهم الآخر. كلما زاد التوافق ، كان من الأسهل إنشاء تفاعلات ذكية ومنتجة. بمجرد أن نقوم بذلك بشكل جيد ، سيكون تحقيق هدف إنشاء لغتنا الخاصة، لغة مشتركة في الفريق ، أسهل بكثير. و مانشستر سيتي نموذجا.

“يجب أن تكون رغبتنا معرفة التشابهات بين اللاعبين كمرجع لجمع اختلاف خصائصهم في فريق واحد.”

-أوسكار كانو

لذلك ، فإن الفريق برأيي هو في النهاية مجتمع صغير (لاعب – نظام) لهويته الخاصة لا يوجد اثنان متماثلان ، والذي يحتاج إلى لغة مشتركة (نفس أسلوب اللعب ، المبادئ ، السلوكيات …) بين الأفراد (اللاعبين) والتي قد تختلف حسب العلاقات القائمة بينهما. لكن ، إذا كان الفريق لا يتحدث نفس اللغة ، فلن يفهم بعضهم البعض أبدًا. لن يلعبوا نفس الشيء ، كل يعزف نوتة موسيقية مختلفة فلا تتناغم الجوقة.

السيمولوجيا ترجع إلى مدرسة جنيف التي ترأسها دو سوسير و تحدثنا عنه مسبقًا، أما السيموطيقيا فهي علم الاشارات ترجع إلى شارل بيرس الأمريكي، وقد بشر كل من دو سوسير وشارل بيرس بالسيمولوجيا أو السيموطيقيا كل بطريقته حيث درس دو سوسير العلاقة اللغوية وأوضح خواصها الأساسية ورأى أنها تندرج في منظومة أكبر هي العلاقات بصفة عامة فكانت إشارات سوسير إلى المحاور الاستبدالية والتركيبية والعلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول، أما بيرس فهو يؤسس للسيموطيقيا بتحليله لأنواع العلاقات المختلفة وتمييزه بين مستوياتها المتعددة إذ يحدد الفروق بين الإشارات.

في تقديري فريق كرة القدم يجب أن يتقن فني السيمولوجيا و السيموطيقيا فكل لاعب بمفرده لا يعطي نفس القيمة المرجوة من التعاون بين الزملاء في كل موقف ، باكو سيرولو مدرب برشلونة السابق في جهاز بيب تحدث مسبقا عن أهمية التفوق الناتج عن التناغم و العلاقات بين اللاعبين فيما يعرف بالsocio-affective superiority واصفا إياها بأنها ليست فقط التنبؤ بقرارات زميلي ولكن الشعور بما يشعر به وهو التزامن بحيث نخلق تواصلا جليا بيننا ولكنه يكون أكثر غموضا للخصم عبر ايماءات جسدية خادعة مثلا مثل تمريرات بوسكتس و تياجو الخادعة .. و أبرز مثال لدينا هو ميسي و تشافي و انيستا و بوسكتس ، هؤلاء جميعا بتباين قدراتهم و مهاراتهم بينوا درجة عالية من التفاهم بينهم من خلال اشتراكهم في شبكات لعب واحدة في الملعب . كلهم تحدثوا لغة واحدة هي لغة برشلونة التي زادت يوما بعد يوم منذ اللاماسيا حتى الفريق الأول .. بيرس عندما أسس للسيميوطيقا حلل أنواع العلاقات المختلفة مميزا بين مستوياتها المختلفة و حدد الفروق بين الاشارات.

التواصل في كرة القدم ثلاث أنواع : لفظي و بصري يمكن تقسيمه الى غير لفظي و إشاري ، الأول أسهلهم و هو ضروري فحديث اللاعب مع زميله دوما مهم خصوصا و أن المدرب لا يستطيع التحدث مع جميع اللاعبين في المباراة بحكم مساحة الملعب الواسعة ، حارس المرمى مثلا تواصله مع خط الدفاع شئ ضروري في العرضيات و الكرات الطويلة بحكم رؤيته لكل ما يحدث في الملعب أمامه بشكل واضح ، و كذلك خط الدفاع فيما بينهم و الوسط ، التواصل غير اللفظي أي لغة الجسد و التعبير بالحركة فيفهمك الزميل منتوج التدريبات و التكرار لتلك المواقف كالتحرك طلبا للكرة في مساحة مثلا باستخدام طرق الهروب والتواصل مع حامل الكرة امر مهم لضبط التوقيت و التزامن في هذه المواقف بالنظرات ، حتى عملية المسح فهي تواصل غير لفظي مع الزميل و الكرة و المساحة و الخصم.

تحرك رافينيا من امام الخصم هربا من الرقابة لحظة استلام بوسكتس للكرة تبعه مباشرة التمريرة ، التواصل هنا غير لفظي ولم يفهمه الخصم بينما فهمه الثنائي و الكرة هي الوسيط بينهما.

التواصل الاشاري يبرز في الكرات الثابتة مثلا حيث الألعاب المتفق عليها مسبقا باشارات ما بين الفريق الواحد يفهموها دون غيرهم فهذه لغة تتطور و تتغير ، أيضا تواصل أفراد خط الدفاع فيما بينهم مهم دوما فالظهير يجب أن يتواصل لفظيا و إشاريا مع زميله قلب الدفاع في العرضيات و حين يخرج للطرف للمواجهة يطلب من لاعب وسط النزول لملء مكانه وهكذا المهاجم حين يقود الضغط يشير لباقي الفريق للبدء في عملية الضغط.

حتى في الدفاع سواء منطقة ام رجل لرجل ام هجين بينهما يحتاج اللاعبون الى التواصل بأنواعه.

هنا لاحظ هدف ايكاردي، في تدريبات ساري عندما يمرر الخصم للخلف يتقدم خط الدفاع بالكامل لتطبيق مصيدة التسلل ، هنا كان يجب التواصل بشكل أفضل بين قلبي الدفاع عند التمرير الى ميديل . كوليبالي كان من الممكن أن يتواصل لفظيا و بالاشارة مع ألبيول ليتولى رقابة يوفيتيتش و يعود مع ايكاردي الاقرب له ، من المعلوم أن فرق ساري تنظر للكرة كمرجعية و تهمل الخصم ولكن في هذه الحالات يحتاج المدافع لتحليل الموقف و التواصل مع زميله وهكذا، دفاع منطقة بالكامل يعني جمود نسبي في هذه المواقف و رجل لرجل في كل مكان يسهل ضربك عبر الحركة و اللامركزية من الخصم.

الدقيقة 3:00 حتى الدقيقة 3:09 تبين حركة خط دفاع نابولي ساري ضد الكرة العائدة للخلف حيث يتقدم خط الدفاع لتطبيق مصيدة التسلل.

لاحظ معي هنا في هدف لوكاكو ضد ساسولو ، هنا في اعادة الهدف من زاوية موضحة في الثانية 55 نجد أن قلب دفاع ساسولو تريسولدي ذهب لمنع المهاجم من الدوران ليست حالة رقابة رجل لرجل ولكنها حالة توافقية مهاجم مع مدافع ، لكنه لم يستبق لوكاكو و تركه يستلم و يدور ولوكاكو من خصاله المميزة القدرة على الاستلام و الدوران بشكل جيد ، دفاع المنطقة يهدف نحو التمركز و الحركة بمرجعية الكرة وتضع المرمى و الزميل بالاعتبار ولكن لا يعني ذلك تجنب اي صراع او تلاحم مع الخصم عفويا تركيزك سيذهب للخصم أيضا ، تميل نحو التراجع و التغطية و عدم ملاحقة الخصم ولكن هنا يجب تحليل الموقف بسرعه و التواصل مع الزميل ، قلب الدفاع الأيمن هنا ايرليك انشغل بحركة كوريا و دار نحوه ففقد تواصله مع الكرة و لوكاكو حينما سدد ، هنا كان يمكن أن يشير للظهير الأيسر بتولي رقابة كوريا و يذهب على الأقل ليقف في طريق لوكاكو بينه و بين المرمى ليمنع مسار التسديدة وهو ما لم يحدث .. سرعة التصرف في هذه المواقف مهمة بالطبع.

مانشستر سيتي و تعامله مع المواقف الدفاعية بشكل جيد في الامتطاط و الحركة حسب الكرة المكشوفة و المحجوبة، الأبصار متوجهة نحو الكرة و الزميل و التراجع كخط واحد ثم التواصل و الإِشارات و تقييم خيارات الخصم و التغطية المتبادلة بين الظهير و المدافع الأقرب له.

كتب المقال، الصديق عبدالرحمن: @PEP42740065.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: