“أترى أحياناً سرباً من النحل يخرج من خليته؟ … العالم، أو الكتلة العامة للمادة، هي خلية كبيرة… هل ترى السرب يتحرك إلى نهاية غصن شجرة مُشكلاً مجموعة طويلة من الحيوانات الصغيرة المجنحة، وجميعها مرتبطة ببعضها البعض بواسطة أقدامها؟ …. هذا التجمع هو كائن، فرد، حيوان من نوعٍ ما … لكن هذه المجموعات يجب أن تكون متشابهة مع بعضها البعض. نعم لو سمح بمادة واحدة متجانسة فقط … أرأيتها؟ “نعم، لقد رأيتها.” “هل رأيتها؟” “نعم يا صديقي، كما قلت لك.” “إذا قرر أحد هؤلاء النحل بطريقة ما أن يلسع النحلة التي تعلق بها، فماذا سيحدث باعتقادك؟ أخبرني.” “ليس لدي فكرة.” “أخبرني، على أي حال … لذلك أنت لا تعرف، لكن الفيلسوف يعرف … نعم، هو يعرف. إذا رأيته يوماً ما، ولا بد لك من رؤيته في وقتٍ ما -لأنه وعدك بذلك- فسيخبرك أن النحلة الثانية ستلسع النحلة المجاورة لها، فستثور المجموعة بأكملها وسيكون هناك أحاسيس مستثارة بمثل عدد الحيوانات الصغيرة، أي أن كل شيء سوف يثور، وسيغير نفسه، وسيغير موضعه وشكله، ثم ستنشأ ضوضاء، صرخات صغيرة، وأن الشخص الذي لم يسبق له أن رأى مجموعة كهذه ترتب نفسها بنفسها سيميل إلى اعتقاد أنه حيوانٌ له خمس أو ستمائة رأس وألف أو اثنا عشر مائة جناح … ” -دُنِي ديديرو
استخدمت إيزابيل ستينغرز هذا المقطع من “حلم دالُمبير” للفيلسوف ديدرو، إذ دللت بأن ديدرو كان يعرف بلا وعيٍ ما يُعرف اليوم بالإنتظام الذاتي (self-organization). الانتظام الذاتي هو انتظام عفوي ينشأ عبر تفاعل عناصر نظام معين، يكون في بدايته مضطرب وغير منظم، يحدث هذا الانتظام بلا أي عوامل خارجية، أي أن كل عنصر ينظم نفسه مع بقية العناصر وبالتالي يحدث التناغم. يعرّف دوارتي أراوجو الانتظام الذاتي على أنه آلية ملازمة للنظم المعقدة في الطبيعة، وهي توضّح كيف ينشأ النظام بسبب التقلبات الحرجة في الديناميات الذاتية للنظام.
لقد خصصتُ مقالة في كتابي الذي نشرته مؤخراً عن الانتظام الذاتي وهي ضمناً تفترض أن كرة القدم بدأت بدون مدرب ومن الممكن أن تقوم بلا مدرب. مع يقيني بصعوبة تفهم السواد الأعظم لذلك. اليوم يبدو أن المدربين بأي لعبة يُوضعون بذات السلة، إذا كان “س” لديه أسلوب خاص فبالضرورة المدرب “ص” له أسلوب خاص. والحق أن عدد الأساليب أو اللا أساليب بعدد المدربين، فكل مدرب له معالجة وقراءة معينة للأمور. ربما لا يعي البعض أن هنالك مدربين يرفضون الأسلوب ويعتبرونه قمعاً لحرية اتخاذ القرار في الملعب وتجني على اللاعب كبشر مفكر وذكي وقادر على التكيف والتنظم ذاتياً. في المقابل، هناك مدربون واعون لذلك فهم يضعون أسلوباً كنوع من العرض أو الإرشاد، فمهما يكن من الأمر، فاللعبة جماعية وصنع لغة مشتركة يتواصل بها الزملاء ستكون مثرية، سيما إذا امتلك الفريق لاعبون استثنائيون قادرين على إضفاء الجديد والابتكار والعزف ضمن السرب بلا تنشيز. أو حتى تحسين شبكات الاتصال والتنظيم من خلال إنتاج سلوكيات محبذة تساعد على نشوء تآزر ترابطي وتناغم بين الزملاء طبقاً لخافيير مايّـو. فاللاعب يحسن من الآخر والعكس، فكلما تحسنت تصرفات اللاعبين كلما تحسن الفريق، يرى أوسكار كانو أن هنالك لاعبين يطورون السياق للجميع مع كل كرة يلمسونها. فالتصرفات الذكية تسهل اللعب للفريق ككل، سواءً بمراوغة تقصي لاعباً وتنقل الفريق لحالة تفوق مركزي وعددي أو تمريرة تشق طريقها متخطية 3-4 لاعبين أو استلام صحيح نحو المرمى، توفير مسار تمرير… الخ.
لكن السؤال ما هو دور المدرب الممكن في الفريق؟ بمانشيت عريض سنقول بأن المدرب هو الجانب المتنبأ به في كرة القدم، دوره يتجلى فيما يستطيع التحكم فيه. دوره في النظام order، وبناء عادات محددة وسلوكيات معينة، محاولاً تقليص العشوائية وتقليص الصدفة، لأنه يستحيل إلغاء هذه العوامل المتأصلة في كرة القدم من حيث هي نظام معقد. إن التواصل والتفاعل بين اللاعبين -كعناصر- يخلق نظاماً، لك أن ترى مباريات الحواري وستجد بعض الفرق تلعب بشكل جيد، تبني هجمات، يقفون بشكل معين، ويخططون عفوياً، بالطبع ليس على مستوىً عالٍ ولكنه ممكن وواقعي. ولكن المدرب العارف والخبير سيحفز بروز تصرفات أكثر نفعاً للفريق من خلال تكرارها في التمارين، ليس كنمط رتيب، إنما كاستراتيجية يمكن أن يثريها اللاعبون بابتداع الجديد وفق ما تقتضيه الحالة، أي بروز مشكلة يتعين على اللاعب حلها، يؤكد هذا مينديليبار مدرب إيبار والذي يقول “لا أستطيع السيطرة على اللاعبين من على مقاعد البدلاء، عليهم اتخاذ القرارات. أقدر حقاً اللاعب الذي يتخذ قراراً في الملعب دون أن ينتظر ما سأقوله له.” هوية الفريق تنشأ وتتبلور عبر تنظيم المدرب وعبر عفوية وغريزية اللاعب وإبداعه، عبر الاستقرار الهيكلي المنسق من قِبل المدرب، خطة الفريق 4-3-3، 4-4-2… الخ، مركز اللاعب وأدواره، مركز الثقل للفريق؛ أي أين يقف في الحالة الدفاعية وإلى أي مكان يحبذ توجيه اللعب. وهناك اللااستقرار في دينامية اللعب وحركة اللاعب وحركة الزميل وفقاً للخصم، تبادل المراكز الذي تفرضه تقلبات النظام وطبيعته العشوائية، أي أن المدرب بمقدوره العمل على المستوى الماكروي-الكبروي في اللعبة فيما يتصرف اللاعب على المستوى الصغروي-المايكروي، المراوغة والتمرير وتبوء مساحة وإلى غير ذلك، يبدأ النظام باستقرار ثم يبدأ بالاضطراب ويتمازج اللاعبون بهيئة شبكة من التفاعلات، ما يعرف بالإنتروبيا في الديناميكا الحرارية، أي أن النظام يذهب نحو ازدياد العشوائية ولا يمكن أن يعود للإستقرار إلا عند خروج الكرة من الملعب أو عودتها مثلاً للحارس وبذلك يتأتى للفريق الانتظام مجدداً وهكذا بشكل حلقي دائري. فإذا كان المدرب يمثل الجزء الواضح والمتنبأ به فاللاعب على العكس يمثل اللاتنبؤية والغموض واللامتوقع، فهذه هي كرة القدم، ما بين متوقع ولا متوقع، بين استقرار واختلال، بين نظام ولا نظام، هذه التناقضات والمفارقات بين المدرب واللاعب تشكل العرض… وكلما زاد التنظيم من المدرب تقلصت دينامية الفريق وانسيابيته فيصبح فريقاً نمطياً روتينياً كالآلة التي لا تصدر إلا منتجاً واحداً. والعكس كلما ازدادت الفردية كلما ازدادت فوضى غير محمودة، فالفريق سيبدو مفككاً وبلا تناغم ولا تعاون، الكل يقف بمركزه لا مبالٍ بكونه جزءاً من كل، فهو فردٌ يشكل جزءاً من فريق وبمقدور كل فرد تشكيل كل أكبر من مجموع الأجزاء إذا ما تكاتفوا وتعاونوا وانتظموا ذاتياً.
“عندما يكون هناك تفاعل بين معرفة اللاعب المحددة وبين أفكار المدرب في اللعب، ستكون النتيجة مشروعاً جماعياً ديناميكياً للعب، وللمفارقة، في ذات الأثناء، سيكون متنبأ به وغير متنبأ به. تنبثق القدرة على التنبؤ من أفكار اللعب التي ينقلها المدرب وهي منظمة على المستوى الكبروي. من ناحية أخرى، ينشأ اللاتنبؤ من القراءة والتفاعل المنظم على المستوى الجزئي-الصغروي الذي يصنعه اللاعبون المختلفون من تلك الأفكار، بمعرفتهم وإدراكهم ومزاياهم.” -غارغانتا وتوليدو وغيليرمي.
“نحن نبني بيننا لغة مشتركة نفهم من خلالها ما نقوم به. غالباً ما تكون تلك اللغة لا واعية؛ إنه تفاهم. ولكن حتى بدون مدرب يحدث ذلك؛ عندما كنا أطفالاً نتعلم أنه عندما تظهر مواقف معينة، فمن الأفضل القيام بأمور معينة”. -خوانما ليـّو
اترك تعليقًا