دانتي بانزيري، كرة القدم: ديناميات اللامتوقع…

هذه مقالة عن الصحفي الأرجنتيني دانتي بانزيري، متبوعة بقطعة مترجمة من كتابه.

كأي مهنة أو حرفة، للصحفي مناقب ومثالب، لكن شيئاً فشيئاً أصبحت هذه المهنة تستوعب من هب ودب من طالبي الشهرة الذين يقتاتون على شعبية اللعبة، يتحدثون حول اللعبة ولكن ليس عن اللعبة، موسمهم سوق اللاعبين الذي يرونه سوق نخاسة، يلاحقون الأشخاص لا منتجاتهم في مجالاتهم، عندما يتحدثون عن الكرة -وليس في الكرة حصراً- يرسخون للهراء ويقفزون إلى استنتاجات لا يسبقها تفكير، ليس هذا هو الحال مع البعض منهم واليوم ربما يكاد ينعدم من يجيد الحديث عن اللعبة حتى ممن هم في وسطها، لاعبون أو مدربون أو إداريون أو محللون. دانتي بانزيري (1921-1978) كان ولا شك أحد القلائل الذين أجادوا الحديث عن كرة القدم، ربما لن يحللها كبييلسا أو يفلسفها كخوانما لـيـو ولكنه يعي غموضية اللعبة كمينوتي ويدري -كمورينيو- بأنها لا تتخطى كونها رياضة في أقبية الأندية وإن تكدست بالتكنوقراط.

دانتي هو اسمه الأول، قد يكون تيمناً بالشاعر الإيطالي دانتي أليغييري، هذا الإسم الإيطالي الملحوق بلقب إيطالي أيضاً والذي كما يتضح يجعلنا نخلص بأنه أوريوندو، أي من سلالة مهاجرين طليان، إلا أنه لا يشبه دانتي الشاعر كثيراً رغم نظرته الرومنسية للعبة. بيد أنه على خطى الشاعر فقد أوقد جحيماً افتراضياً على أمثال زوبيلديا وبيلاردو، ذلك أن بانزيري اشتهر بقلمه اللاذع، ينتقد بلا تردد لا باحثاً عن الإثارة ولا منقباً عن جاه متسلقاً وصولياً حبيب الجميع، بل باحثاً عن حقيقة كصحفي مهني حاصداً بذلك الأعداء قبل الحلفاء. بانزيري صاحب رأي، يُذكر على لسان بانزيري أنه يتوجب على الصحفي أن يكون مستعداً لخسارة الأصدقاء، فلا الشعبية ولا الإعجاب من أهداف الرسالة الصحفية، كما ينبه زملاؤه الذين يملؤون المانشيتات بالأحكام والإطلاقات بأنهم مدعون وليسوا قضاة، “قد تبيع أقل ولكن ستكسب الكثير بالحقيقة” من مآثره كذلك.

بانزيري ومينوتي.

غادر بانزيري دنيانا في 14 أبريل 1978 أشهر قليلة قبل كأس العالم التي ناضل من أجل عدم إقامتها في بلاده، حتى أن كارلوس لاكوست أحد المسؤولين عن تنظيم البطولة حاول إقناعه بمنافع التنظيم، لكن بلا جدوى، معللاً -أي بانزيري- رفضه بأن الصحة والتعليم والإسكان أمورٌ خليقٌ أن يكون لها الأولوية. هذا دون ذكر استقالته من إلغرافيكو للأبد حينما ضُغط عليه كي ينشر دعاية لوزير الاقتصاد في بداية الستينات. في احتفاء إلغرافيكو بمئوية الصحفي الأرجنتيني ذكر التقرير أن أحد القراء بعث لهم أن رأيه يجب أن يكون أكثر أهمية من رأي المجلة لأن “الزبون دائماً على حق”، رفض بانزيري ذلك: “إلغرافيكو ليست متجراً أو محل لبيع الأطعمة الشهية. بين الزبون والحقيقة، سنواصل اختيار الحقيقة، التي نفهما كأفضل طريقة للدفاع عن الزبون”. مر بإقالات واستقالات من منطلق مبادئه التي لا يبديها فقط وإنما يعمل بها، إلى الحد الذي جعل ماتياس باوسو يصفه بالصعب المراس، بل ويزيد “تُرك لوحده. بدون قراء، وبدون زملاء، وبدون محررين”. بالبنط العريض وبينما تحتفي الصحف الأرجنتينية بإستوديانتس بطل ليبرتادوريس ثلاث مرات ينتقد بانزيري أسلوب أوزفالدو زوبيلديا: “إستوديانتس يمثل عنفاً طُبّق على كرة القدم من أجل الفوز” … “أنا أصر على تسمية إستوديانتس جمعية غير مشروعة لتحقيق نتائج قانونية”. لا يقف موقف بانزيري المناهض للمدربين عند هذا الحد، فلا يرى المدرب إلا منغص لموهبة اللاعب وحريته. نتسائل لو عاصر بانزيري كم المتعالمين اليوم؟ فلم يقتصر الأمر على المدرب، بل أصبح هناك علماء يعلمون بدقة ما على اللاعب فعله في كل لحظة، هناك علماء يعرفون كرة القدم بموضوعية مجردة وخوارزميات دقيقة دون أن يشاهدوا المباراة أصلاً. اللعبة مجال مفتوح وواسع، كل بلد وكل ثقافة بل وكل مدرب لديه نظرة ذاتية، الموضوعية في كرة القدم أمر يصعب فرضه عدا قوانين اللعبة وبعض المصطلحات التي اصطلح عليها المدربون وغدت عالمية. كرة القدم مجال مفتوح وواسع، وعليه؛ هناك من استغل هذه الفجوة، فصنعوا مجالاً يشبه التنمية الذاتية أو ما يعرف بمدربي الحياة، مانحين أنفسهم سلطة منح صكوك المعرفة في مجال ذاتي -غير علمي- ككرة القدم، وهو مجال يتخلله منطق طبعاً علاوةً على مجالات أخرى داعمة له.

من اليسير بمكان أن نستوعب كرة القدم -بالقدر الذي نستطيعه- كتكتيكات واستراتيجيات وحلول وقدرة على التحليل وحتى التنبؤ نسبياً على مستوى الفريق -وليس الفرد- دون أن نضع مساحيق لغوية ونعلي من شأن معرفتنا على هيئة مصطلحات. فإلى حدٍ ما، سنتعلم أكثر وأكثر عن كرة القدم من الفلسفة والعلوم أو الفلسفة وعلم الاجتماع كما يشير بانزيري، وليس “كيف تفوز باستخدام التيكي تاكا” أو “كيف تضغط بـ4-4-2″، ولو أن هذا سيكون مفيداً كبداية. يكمن فهم كرة القدم بالاعتراف بعدم فهمها، بعدم الإلمام بكامل خباياها، فتبقى أي رؤية لكرة القدم هي رؤية ذاتية على الأغلب، مينوتي يقول:

“98٪ من الصحفيين لا يفهمون كرة القدم. ليس عليهم أن يفهموها، دعني أوضح هذا؛ اجعلهم فقط يشعرون بالشعبية. هذه لعبة صعبة للغاية، ومعقدة للغاية، حتى أناساً مثلنا حاولوا منذ أربعين عاماً إيجاد منطق لم يفلحوا في فهم اللعبة. ما هو مرفوض هنا هو تلك السلطة التي تقول: “لو كنت مكانه فسأضع فلاناً أو علاناً”. هذه قلة احترام لا تنتمي للصحافة.”

نبرع جميعنا في وصف ما حدث حين يحدث ونعلل الأخطاء التي تتكرر من أفضل اللاعبين وأسوئهم أو نلوذ بالفرار إلى أمور لا يمكن لأحد قياسها كالحالة الذهنية، أو إطلاق أحكام اعتباطية تتعلق باللياقة، حتى أدهى خبراء اللياقة البدنية لا يطلقون تلك المزاعم برأي العين وحدها. بالطبع للتحليل وللنظرية في كرة القدم مكان -بالنسبة لي- ولكني أجد نفسي انتهج التعقيد في النظر للعبة، فاللعبة ليست حتمية المدرب المدبر ولا يمكن تجزئتها وترتيبها، إلا أنني اختلف في بعض النواحي مع بانزيري. فهناك منطقة وسطى بين المدرب وبين اللاعبين، غير أن اللعبة ستبقى للاعب، والمدرب يرشد ويهدي اللاعب سياقاً يبدع من خلاله لمصلحة الفريق، وهذا ما تقتضيه جماعية اللعبة. وأما التنظير فغايته “محاولة” فهم اللعبة وبلورة لغة تلتملم شتاتها دون أدلجتها وجعلها عقيدة، فلكل مدرب نظريته، أو بصورة أدق؛ نظرته. في نهاية الأمر، نطاق تحكم المدرب أقل بكثير مما يتصور فهو مكبل بلا يقينية اللعبة واللاتنبؤية في اللاعب، ابتكاراته الآنية التي تتدفق منه بانسياب، لمحات العبقرية أو ومضات البلاهة. وهذا ما يصر عليه بانزيري، الذي قال قبل خمسين عاماً أن اللاعب يتصرف من اللاوعي، قبل أي مدرب أو منظر، أدلى -كما سترون- أن اللاعب ليس باستطاعته شرح عبقريته… ووفقاً لأندريس بورغو فلم تجري إلغرافيكو أي مقابلات مع ألمع اللاعبين في مونديال تشيلي 1962، فاللاعبون -تبعاً لبانزيري- “ليس لديهم الكثير ليقولوه. إنما يتحدثون بأجسادهم، بأدائهم. لا أجد شيئاً مثيراً للاهتمام حيال ما يمكنهم قوله.” تصريح بيدري ليس عنا ببعيد حيث قال: “تخرج الأشياء من تلقاء نفسها في الملعب، وأنا محظوظ بعدم التفكير بما سأفعل.” أي أن الأفعال تخرج منه دون تفكير وحينما يفكر سيكون عرضة لانكباح انسيابيته وسرعة “قراراته”. ذلك أن الكرة السريعة تخرج من العقول السريعة كما يقول بانزيري، أيضاً قبل عشرات السنين من رانغنيك مثلاً.

أترككم الآن مع ترجمة الجزء الأول من عمله الأهم: Fútbol: Dinámica de lo impensado ويمكن ترجمته بـ: كرة القدم: ديناميات اللامتوقع…

غلاف الكتاب الذي صدر في عام 1967 .. لست ملماً باللغة الإسبانية ولكن ما أترجمه يستحق وإن ليس بالدقة المطلوبة.

اللعب-المرح والجد-المعاناة

“هذا الكتاب ليس للعب كرة القدم. أجدى أن نعرف أن الكتب ليست مفيدة للعب كرة القدم. فقط اللاعبون مفيدون… ولا حتى اللاعبين سيكونون مفيدين إن لم تسعفهم الظروف.”

بهذه الكلمات اختتم مؤلفٌ كتاباً عن قيادة السيارات في أكثر الشوارع ازدحاماً في المدن الأكثر اكتظاظاً بالسكان. أنا أكتب هذا الكتاب – ليسمح لي الناشرون بالاعتراف – بشك مماثل.

كي تلعب كرة القدم، فالكتاب لن يجدي.

لإدارة فريق كرة قدم فنياً، فهذا لن يجدي أيضاً.

لـ”رؤيةٍ أفضل” لمباراة كرة قدم… نسبياً.

قد يكون مفيداً لكيلا تُرى كرة القدم كما كانت تُرى.

وعن عدم جدوى ذلك الكتاب عن قيادة السيارة، وكذلك نظراً للفائدة المشكوك فيها لهذا الكتاب التقديمي عن كرة القدم، لا أعتقد أن الملام هو من يأخذ على عاتقه حمل التأليف: الصعوبة الأكبر في تعليم كيفية قيادة السيارات في مدينة، أو لـ”رؤية أفضل” لمباراة كرة قدم…، تنشأ عن ديمومة المجهول، وعن القدرة البشرية التي لا حصر لها على خلق وحل ما هو غير متوقع، منتجةً عفوية تدمر مراراً الأسلوب الذي اصطنعه الإنسان الذي -وعلى السواء- يخلقه ويدمره. كما لو أنه مزود بأعظم قدرة على تغيير الآراء التي تسجلها الخليقة حتى الآن.

وارن ماكالوك، من المعهد التكنولوجي في ماساتشوسيتس، قال في أبريل 1966… أنه “لا يمكن للكمبيوتر أن يغير رأيه أربع عشرة مرة في ثلاثة أعشار من الثانية كالإنسان”. وأضاف أن الإنسان يمكنه فعل ذلك لأنه يمتلك تريليون خلية عصبية حاسوبية بإجمالي مليوني مكون بيولوجي منفصل.

بالتأكيد لم يعتقد وارن ماكالوك أنه كان “يتحدث عن كرة القدم” عندما أدلى بذلك التصريح.

ولكن الإنسان المنشود في ذلك الاستنتاج العلمي هو نفسه الإنسان الذي يلعب وينتج دون تفكير كل ما تنطوي عليه مباراة كرة القدم بين اثنين وعشرين رجلاً، وكرة، إضافةً إلى عدد لا حصر له من الظروف الخارجة عن إرادة هؤلاء الرجال.

هو “الرجل العادي”، على الرغم من كونه دائماً نفس اللاعب، نفس الموهوب، الموهوب للغاية أو المتدني الموهبة، الذي سيخوض دائماً مباراتين مختلفتين حيث يلعب نفس الرجال وعلى ما يبدو نفس الظروف المرئية. بيد أنها ليست “نفس الشيء” أبداً فيما هو منفلت عن سيطرة البشر.

ذلك “الرجل العادي” هو الملام في “عدم جدوى” هذا الكتاب، وربما جميع أقران ذلك اللاعب.

إن هذا الرجل العادي، ليس فقط مختلف عن بقية الرجال ولكنه مختلف عن نفسه على الدوام، هو الذي سيخوض مباراتا كرة قدم مختلفتين “متماثلتين” يُفكر بهما بنفس الطريقة؛ رحلتان بالسيارة في مدينة كبيرة عبر نفس السائق ونفس رخصة القيادة.

والأدهى من ذلك بكثير حينما يكون الحديث عن لعبة كرة القدم أو قيادة سيارة، (ينبغي) التغلب على عوامل معارضة متغيرة وغير متوقعة بمثل تقلبات أفكار “الفرد منا” أو “فريقنا”.

في كل منافسة رياضية هنالك معارض/منافس يجب التغلب عليه.

حتى في أكثر المنافسات فردانية ستواجه ساعة غير مؤذية.

أما في الرياضات الفردية، فالمنافس المباشر سلبي.

وفي كرة القدم فهي صدامية. معارضة بمعنى الكلمة.

في رياضة الحركة الفردية، لا أحد يحرم أي شخص من أداته التنافسية الأساسية.

إذا تنافس رسامان في نفس الأثناء ولنفس الدوافع لتأسيس درجة معينة من القيم الفنية، فلن يجرد أحد الرسامين الرسام الآخر من فرشاته.

يقاتل الرياضي ضد المسافة، ضد الأداة، ضد السياج، ضد القضبان، ضد إجهاده… ولكن دون خصم يقيد حركته، أو يسلب منه القرص أو الجلة أو الرمح، أو عصا القفز بالزانة أو المطرقة.

تُلعب كرة القدم وفقاً للقانون المقبول للحق في نزع ملكية الأداة الأساسية للعبة.

وهذا الشرط -بالنسبة لكرة القدم، للرغبي، وكرة السلة، ولجميع الرياضات الجماعية ذات المعارضة المباشرة- يجعل المقارنات المتكررة المزعومة سخيفة، مستحيلة، أمام العديد من العقول المعرضة للانبهار بنورانية الجدلية التكنولوجية، والتي لا تميز بين التقنية والإنسانية في مساعيها للتوحيد، وفي هذه الموازنة الأسلوبية الشائعة بين نشاطات لاعب كرة القدم المحددة وأنشطة الموظف/العامل، أو أنشطة رياضي في أي مسابقة رياضية فردية، وحتى تلك الخاصة بفنان كوميدي. هذه المقارنات شائعة، وليس فقط بين المستجدين في كرة القدم؛ حتى بين مزعومي الأهلية في كرة القدم، إما بسبب ضعف قناعاتهم أو بسبب الخوف من التخلف، أو عدم العزف “على إيقاعات” العصر الراهن… المخادع.

ثمة حديث عن التفاني المنهجي لكل فرد في عمله (حتماً لاعب كرة القدم غير مستثنى من ذلك في المجتمع المعاصر) وجميعنا ممتثل لنفس عوامل المنافسة، ولكن دون أن نتذكر أبداً أنه بينما يفعل الفرد في كرة القدم ما يسمح به الخصم أولاً، ثم نفعل ما نرغب فعله بعدئذٍ…، يستجيب الأداء البشري -في جميع الحالات الأخرى للمقارنات المفتعلة- حصراً لما يستطيع بطل الرواية فعله بعيداً تماماً عن خطر قيام شخصٍ ما نزع البيانو عنه حين يعزف، أو الفرشاة التي يرسم بها، أو العمود الذي يقفز به أو الدراجة التي يُدرّج بها. لهذه الحالات قد يكون هناك تكنيك ولكن ليس بشكل دائم. أما بالنسبة لكرة القدم، فهراءٌ أن نتحدث عن التكنيك أو عن طريقة للعب بشكل جيد أو معيار للعب أو “رؤية أفضل” للعبة، ذلك أنه هناك الكثير من التقلبات والتغيرات والمفاجئات واللامتوقع والعفوي… هذا يفرض صلاحية العديد من التكنيكات. تكنيك اللامتوقع فوق كل ما هو متوقع. بل وأكثر من ذلك: اقتصار هذا التكنيك على استخدام أكثر أسلحة الإنسان تمرداً على الانقياد، أي القدمين، ودوماً بصورة أكثر عناداً من اليدين في نظام الدماغ. لا يمكن تنظيم العفوية بأي ترتيب مسبق. مضافاً على ذلك: لم نرَ قط، تحت أي ترتيب مسبق، ظهور رجل فاضل لمجرد أنه “تعلم” أن يكون فاضلاً. الجراح، الموسيقي، لاعب كرة القدم، يجب أن يولدوا جميعاً فاضلين لكي يصبحوا فاضلين من خلال مساراتهم الطبيعية المختلفة: بعضهم يتدرب، والبعض الآخر يبرز نفسه.

هناك علماء اجتماع وفلاسفة غالباً ما كانوا أفضل مؤلفي كتب كرة القدم التي أعرف.

أحدهم جوليان مارياس، والذي أحسن القول ودون أن يعي أنه “يتحدث عن كرة القدم” حين قال… عندما تعرف ما الذي سيحدث، لا شيء مما ظننت يحدث.

وحين إذ نُخطط للعفوية، لا تعود عفوية.

وإن استطعنا جعل كرة القدم غير عفوية، كما يحاول الكثيرون إقناعنا، لكنهم لم ينجحوا أبداً، فيمكننا أن نصدح سوياً مع ذلك الكاتب الذي كتب عن قيادة السيارات في حركة المرور الحضرية: “هذا الكتاب يستبدل -وبأفضلية- الدماغ البشري”.

ذلك أنها ستساعدنا في إمكانية ضبط – العفوية المنظمة بكل جوانبها المتوقعة واللامتوقعة – ومجموع تبدّل الآراء بمعدل أربعة عشر مرة لكل ثلاثة أعشار من الثانية الذي بوسع الإنسان عمله، والحق أن ذاك الإنسان هو الإنسان الذي يلعب كرة القدم.

سنكون -في هذه الحالة- بمأمن حين ننتقل من وسط بوينس آيرس إلى أكثر الطرق امتلاءً بالتقاطعات عبر طريق محدد مسبقاً ومخطط وخالٍ من التحويلات الآنية اللامتوقعة بسبب الاختناقات المرورية، أو الإغلاق المؤقت بسبب الحوادث التي ليس لها وقت ثابت، أو أعمال إصلاح الشوارع، أو مظاهرات طلابية تطاردها الشرطة، أو تقديم أوراق اعتماد من قبل دبلوماسي أجنبي.

هناك تشابه بين لعب كرة القدم والترحال بالسيارة مع «قواعد اللعبة» المقبولة وهي أنه في حالة كرة القدم تنتزع الكرة التي نلعب بها، وفي الحالة المقابلة يُغلق الشارع الذي نحتاج عبوره. والحل؟ تخطي الناس! (الشرط الأساسي للعب كرة القدم بشكل جيد).

ما هي الخطة “للهروب من الناس”؟ ثمة خطة واحدة ممكنة وحسب: الغريزة، الأربعة عشرَ تغيراً في الرأي في ثلاثة أعشار من الثانية التي تحققها تريليون خلية عصبية حاسوبية ومليوني عنصر بيولوجي منفصل عنها.

العبرة: كرة القدم فن اللامتوقع.

لو كنت “معلم قيادة” للاعب كرة اشترى سيارته الأولى دون أن يقود سيارة على الإطلاق. فلعبُ كرة القدم يا “تلميذي” يتميز بالمكر كيما تكون حراً على الدوام، دوماً أكثر حرية من الآخرين في مواجهة الخصم المباشر. لم يتطلّب عملي التربوي في قيادة السيارات أكثر من دقيقتين، وهو ما يكفي ليقول لي بلغة كرة القدم:

-إذاً، هذا يعني أنه من أجل قيادة السيارة جيداً، عليك أن تبدأ بنفس الطريقة التي تلعب بها كرة القدم بشكل جيد: تخطي الناس!

لاحظت في وقت قصير أنه أثناء اقتياد سيارة أو كرة يستخدم لاعب كرة خبير وسائق مبتدئ نفس الأسلوب: تكنيك القدرة على الحل والارتجال والتغيير واللعب العفوي عوضاً عن المُفكر فيه. إذ لا يقوم بالتصادم.

بالطبع، هذا الفرد ليس مشترياً محتملاً لذلك الكتاب الذي يقول فيه مؤلفه أنه “لا جدوى منه”، ولا هذا الكتاب الذي أشك في جدواه بالمثل…

العديد من التكتيكات، من التكنيكات، والعديد من الأفكار، تكتيكات وتكنيكات مضبوطة، ثمة خطة للاعب الكرة الجيد والمباراة الجيدة واللعب الجيد. إن الخطي والثابت، وإن كان عبقرياً ورائعاً، فصلاحيته تقتصر على لعبة واحدة، مباراة واحدة، لحظة واحدة. أما المفاجئ، ولو كان غير متسق، وإن لم يكن عبقرياً، فصلاحيته حاضرة في جميع الأوقات.

لا يصح تفسير كل ما سلف على أن النجاح في كرة القدم متوقف على الصدفة. لا، فلكرة القدم منطق، الكثير من المنطق، تقريباً منطقية دوماً. منطق عظيم… ضمن قانون ثابت يشير إلى أنه أثناء العملية والإخراج فما يُفعل يُفعل لأنه “طرأ” أكثر بكثير مما جرى التفكير فيه وأكثر مما فُعل بالفعل.

هناك حالة طبيعية واحدة فقط حتى الآن، في جميع الأزمان: انتصار الأفضل والأكثر موهبة، الأكثر مهارة بأقدامهم، والأكثر لدانة في عقولهم. من حين لآخر قد ينتصر الأقل قدرة في ثلاثية الموهبة-القدرة-البراعة. كاستثناء. القاعدة هي هيمنة الأفضل والأكثر موهبة، هذا هو منطق كرة القدم مذ وجدت، تُلعب كرة القدم بجودة أو رداءة، أي بطريقتين ممكنتين فقط للعب، ذلك أنه لا يوجد طريقة حديثة ولا قديمة في أداء كرة القدم. على الأكثر، كرة القدم السيئة وفيرة، والتي لا ينبغي الإقرار بصلاحيتها لكرة القدم الجديدة. ببساطة تُلعب كرة القدم بفظاعة، بالمزيد والمزيد من الرجال ذوي الكفاءة التكنولوجية وبعقول مجردة من إنسانيتها. هم لا يقومون بكرة قدم “أخرى”. كما لو أنهم لا يزالوا السائدين، في الوقت الذي يحاول فيه البعض جعل كرة القدم تَبَعاً للتفكير على حساب العفوية؛ كرة القدم تلك، على ما يبدو، ليست كرة قدم “أخرى” أيضاً، بما أنها تحقق الصلاحية الكاملة والهيمنة في ظل السيادة المفترضة الشبه مطلقة لما تدعى “الأخرى”، أو “اللحظة الآنية” كذلك.

“في السابق” هناك كرة قدم واحدة فقط: تلك التي تلعب منذ أضفي عليها الطابع الرسمي في (26/10/1863)، تلك التي اشتقت إثر الانقسام مع الرغبي، وحتى عام 1925، حينما اكتسب قانون التسلل شكله الحالي؛ لاعبان “خلف” الكرة. حتى ذلك الحين، كان المطلوب ثلاثة لاعبين، وبالطبع، كرة القدم التي تُلعب في هذه الظروف كانت بالتأكيد كرة قدم “أخرى”. منذئذٍ، لم يتغير إلا الصفات البشرية (سواءً البدنية أو الفنية أو التكتيكية) للإنسان-اللاعب. وصولاً إلى نغمة المعاناة التي تزداد في الروح الحية لما يعرف بالإنسان “الحالي”، لاعب كرة القدم الموازي لذلك الإنسان المقهور أضحى يلعب أقل شيئاً فشيئاً، ليصبح لاعباً مستأجراً أكثر فأكثر. ظلت كرة القدم واحدة: تلعب إما بجودة أو بفظاعة.

لا أحد يُعلّم. من يُعلّم. كيف يُعلّم

من “يعرف” حقاً ويقيناً كرة القدم، أو عن كرة القدم؟ يحدث غالباً لبس بين الذاكرة والحكمة.

أنا؟ لقد اصطُفيت لكتابة هذا الكتاب. هذا لا يثبت جدارتي. قد يثبت الثقة على الأكثر. ليس لديّ دبلوم أو أي شيء يثبت كفاءتي في كرة القدم. لديّ أفكاري وحسب، والتي هي ضرورةً تكيفاً واعياً أو غير واعٍ لأفكار آخرين. لا أحد يولد بأفكاره الخاصة. قطعاً جميعنا نمتلك أفكاراً يشوبها تأثيرات الآخرين. طالما يتعلم المرء، يجهل المرء من أين يتعلم (بوركيا؛ شاعر أرجنتيني).

أهَل الحاصلون على الدبلوم هم من يعرفون؟ من الضروري معرفة من أعطاهم الدبلوم ولماذا؛ ذلك أنه لا يوجد في كرة القدم كيان يشار له بالجدارة لمنح دبلومات المعرفة. هناك جهات معتمدة لمنح الدبلومات… من خلال الإقرار الذاتي، تمنح العديد من الدبلومات للكثيرين. خاصة وأن كرة القدم أصبحت مصدر عمل للفيفٍ من الأشخاص الذين لا يلعبون أكثر من الذين يلعبونها من أجل التربح. لا يستطيع أي شخص يمنح دبلومات أن يثبت أنه يعرف كل ما يمكن أن ينتجه لاعب كرة قدم بشكل غير متوقع. بل اللاعب نفسه لا يعرف وهو الذي -دون تفكير- “خرج” بتلك الأحداث اللامتوقعة.

هل اللاعبون العظماء هم من يعرفون؟ كم عدد اللاعبين العظماء الذين لا يعرفون أو يعرفون لماذا كانوا عظماء! أو لماذا فعلوا ما فعلوه كعباقرة. والأدهى من ذلك: كثر، الغالبية العظمى منهم، يتحدثون عن كرة القدم بقدر هائل من التناقض المطلق بين جدلهم اللفظي وإتقانهم الحقيقي الذي مارسوه بالكرة بين أقدامهم دون تفكير… بما أنهم “خرجوا” بالعديد من اللمحات العبقرية.

أو هل “يعرف” العديد من اللاعبين “السيئين” والذين -على النقيض من العظماء-، يبدو أنهم يفهمون كرة القدم جيداً ويحللونها بمستوى تعليمي وجدلي عالٍ متبدٍ وواضح؟ ينشأ الاعتراض على منحهم “الدبلوم”، في هذه الحالة، على حقيقة أن كل ما يعرفونه لم يعرفوا كيف ينقلونه إلى الملعب.

وهكذا نصل إلى ما كنت أخشى أن نصل إليه كسبب آخر للتشديد على أن “هذا الكتاب عديم الفائدة”: لا أحد “يعرف” كرة القدم حقاً ويقيناً. كرة القدم علمٌ خفي للتدريس الأكاديمي المستحيل. كرة القدم عملية/تجريبية.

أما الأشخاص الذين ربما يعرفون الكثير عن كرة القدم، نعم هناك من يعرف، الكثير ممن هم كذلك. وها نحن نعود إلى نقطة البداية: من هم أو من هو الذي يحدد ذلك؟ جميعنا يحدد ذلك بالنسبة لما يبدو لنا ملائماً أمام كل افتراض ملائم. “بالنسبة لي” فأكثر شخص يعرف عن كرة القدم في العالم – حتى اللحظة لم أجد أي شخص يعرف أكثر منه – هو الأرجنتيني كارلوس بويتشيلي. لكن لا أحد يستطيع منحه الدبلوم أيضاً. سأمنحها إياه، غير أنها ستكون بلا قيمة. وفي هذه الحالة، يعرف الكثير من اللاعبين السابقين، بل وغير اللاعبين الذين يتمتعون بحدس تمييزي بسيط الكثير عن كرة القدم بلا “اختبارات”. وأبعد من ذلك: لا يستطيع أيٌ منهم تعليمها. وعلى الأكثر، ودون التعرض لخطر الوقوع في الخطأ في غالب الأحيان، قد يتأتى لجميع من “يعرفون أكثر” انتقاء اللاعبين الجيدين المحتملين. هذا هو المكان الذي أضع فيه أكبر نطاق ممكن من الكفاءة والأهلية في كرة القدم: اختيار من وُلد ليلعب. ثم مساعدتهم على التدريب على ما ولدوا ليقوموا به. أنعلمهم، أبداً. أنصحح لهم، نعم. أنصنعهم، لا.

أمر مجهولٌ جديد يلوح لنا: ألا وهي معرفة كيفية اكتشاف الذين يولدون عارفين بكيفية اللعب، أيتعلق الأمر بفهم كرة القدم؟

الجذور دائماً واحدة فقط في اللاعب الجيد دون المساس بالتصحيحات الطفيفة التي سيلبيها الوقت والنضج، والجرعة الأقل جهداً من أجل أداء أفضل: ألا وهي ولادته. لا أحد يصنع اللاعبين. إذ لا يصبح اللاعب السيء لاعباً جيداً عادةً، عدا بعض الاستثناءات الشاذة لكل قاعدة، والتي تحدث أحياناً أيضاً. على سبيل المثال: خوسيه مارانتي، أحد أعظم المدافعين في كرة أمريكا الجنوبية، لاعب سيء في شبابه المبكر، حصن شامخ في عمر النضج الكروي. في المقابل، نعم، قد يتحول أو يُحوّل اللاعب الجيد إلى لاعب سيء. يحدث هذا أحياناً كثيرة. خاصة عندما يجعل اللاعب من نفسه “أداةً”.

بالتالي، إذا ولد اللاعب الجيد، وليس بفضل قلة، بل بفضل آلاف مؤلفة من الذين لاحظوه…، فإلى أي مدى باستطاعتنا الإشارة بأكبر قدر من المعرفة الكروية إلى المدرب الذي اكتشفه ووجهه نحو المسلك الذي ينقذه من المجهول الذي يبقى فيه آلاف الحالمين؟

إن عملية اختيار اللاعبين الذين ولدوا كلاعبين جيدين قد لا تكون كافية كمؤشر للحذق الكروي، إذا لم يتلازم الانتقاء مع التوظيف في الملعب، سواءً في “المركز” أو في الدور الأنسب للخصائص التي يتحلى بها هذا اللاعب بحكم طبيعته.

دوماً ضمن التنوع اللامتناهي الذي توفره لنا اللامساواة البشرية المستمرة، والذي يصل إلى أقصى مداه حين يجعل حتى الشقيقين التوأمين مختلفين، إذ علينا أن نجد، على سبيل المثال:

لاعبون يتمتعون بقدرات كبيرة بدون ذكاء كبير.

لاعبون أذكياء للغاية بقدرات ضعيفة في التحكم بالكرة.

لاعبون يتمتعون بالذكاء والمهارات بلا استعداد/مزاج للقتال، وهذا للتنافس الذي -كأي لعبة أخرى- تتطلبه كرة القدم من الجميع.

لاعبون يتمتعون بقدر معتبر من المزاج والروح القتالية دون براعة لتطبيق ذلك في معركة الخداع التي هي لبّ كرة القدم.

لاعبون ببنى بدنية متباينة للغاية.

لا أريد الاستمرار في التصنيف، لأنني أدرك مدى استحالة تجميع كل الأنواع البشرية وسط هذا التنوع البشري الفاقد للمعايير… الحالات المذكورة كافية.

كل هؤلاء اللاعبين ​​قادرين على اللعب بصورة جيدة كذوات يتمتعون جميعاً ببعض الفضيلة؛ هل يستطيعون فعل ذلك عند بناء أو تحطيم اللعب من مراكزهم التي اختاروها بأنفسهم من التوزيع غير الرسمي للأطفال؟

أحياناً كثيرة، نعم. مراتٍ كثيرة، لا.

في الحالة الثانية، أي في حالة اللاعبين أصحاب القدرة الأكبر على التدمير الذين وُجهوا نحو مهام بناء اللعب، أو العكس، حيث -وأبعد بكثير من تحديد اللاعب الجيد- نقيم درجة الحكمة لمدرب لاعبي كرة القدم كما يلي: سيقترب من فرصة إثبات أنه “يعرف” كرة القدم حينما ينجح بوضع هؤلاء اللاعبين في أكثر المراكز ملاءمة لطبيعة كل فردٍ منهم. سيقترب من هذه الفرصة إلى الحد الذي يجعله يعرف كيف ينصح ويقنع اللاعب بمحاولة القيام بدورٍ -غير مناسب- قد كلفه به، حيثما يكون اللاعب أقل قوة من حيث الإمكانات. لنُصغها بصورة أدق: ما ليس ملائماً “له”، فما مقدار الدقة لدى اللاعب المتواضع في التحكم بالكرة، وكيف هو التفاني في اللعب البدني من قبل اللاعب الضعيف بدنياً.

قد تكون المراحل التالية هي ما تكشف الرجل الأقرب إلى الحكمة في كرة القدم، الحكيم الحقيقي ربما، ولكن يستحيل دائماً إثبات ذلك:

  1. اصطفاء اللاعبين الجيدين من بين آلاف المتقدمين.
  2. وضعهم في أنسب المراكز حسب خصالهم التي ولدوا فيها والتي لا يمكن لكائنٍ من كان منحها إياهم.
  3. حثهم على الامتناع عن القيام بما لا يحسنون، أو ألا يفعلوا أقل ما لديهم في حدود ما ولدوا عليه.
  4. دع هؤلاء اللاعبين المختارين، محددي المواقع، والمُدرَبون… يفعلوا بعدئذٍ ما هو أحسن. دعهم يلعبون. بالتشجيع والإحساس بالتسلية الذاتية، كضمانة أكبر للتسلية لمن يتفرج، سواء كان ذلك برغبة في الانتصار المادي، أو بفكرة جمال فني حيث الإغراء الأكبر – والغاية الأعظم، أي الهدف – سيتحقق من جراء الإبداع التلقائي واللاعقلاني تقريباً دوماً من أولئك اللاعبين. دعهم يلعبون، فبحكم المؤكد أن الجميع يريد الفوز، لا أحد يحب الخسارة. والهدف هو ابن اللعبة أكثر من كونه ابناً للتسديدة.

المهمة، كما يتضح، لا تشمل أي مرحلة تعليمية معينة لأي شيء جديد ضمن حدود إمكانات اللاعب الطبيعية، أو التي يمكن للاعب نفسه اكتسابها.

إنما تشمل المهمة مرحلة ثالثة من التصحيحات وحسب، وبدقة أكبر، نصائح ينتزع بها المدرب من اللاعب أكثر بكثير مما قد يضيف.

في كرة القدم، يمكنك إيصال (تعليم) بعض الأفكار نسبياً. بينما يستحيل إيصال هبة/خصلة.

بجعبة الكثير منا أفضل الأفكار عن كيفية لعب كرة القدم.

بيد أن القليل منا ممن ينسق هذه الأفكار وبقدرة على جعل الكرة أداة سهلة الانقياد بين أقدامنا، وردود أفعالنا الانعكاسية reflexes على كل كتلة العضلات التي يجب أن تحرس الكرة وتحميها عبر الجري السيء على المستوى الرياضي من أجل الركض بشكل جيد على مستوى كرة القدم؛ هؤلاء القلائل الذين ولدوا بموهبة كروية مهجنة في غريزتهم… يُظهرون جهلاً في فن التعبير -في شكل أفكار- عما يعرفون فعله ببراعة بأقدامهم. يفضل معظمهم إظهار ما يعرف… عبر اللعب وليس عبر التحدث. لأنهم إن حاولوا التحدث… فقد نفترض أنهم لا يعرفون كيف يلعبون. وكما هو الحال غالباً، لا أحد يعلم لماذا يعرف ما يعرف.

لهذه العلة نقول أن كرة القدم هي علم غامض، إمبيريقي/تجريبي، ومن العصي تدريسها أكاديمياً، نقول هذا مع الوعي الكامل بمدى الجرأة بل والإساءة للعلوم الخفيانية/الغموضية التي يبدو مسموعاً أن للرياضة موقعاً بينها.

إن جدلية التسويق الوفير لكرة القدم بوصفها صناعة ترفيهية قد تجنت كثيراً لكي تظهر اللعبة على هذا النحو بحيث يُعلّم المزيد والمزيد من المؤمنين إمكانية جعل كرة القدم قابلة للميكنة.

ولكن في غضون ذلك، كرة القدم دائماً وأبداً كرة قدم واحدة وحسب – كرة قدم واحدة للاعبين ومفاجآتهم التي لا يمكن التنبؤ بها حتى لهم هم- رغم التسميات المختلفة التي يُراد بها تحويل اللعبة إلى “حديثة” و “استراتيجية” و “عملية” و “تكتيكية”، و” مدبرة” وسلسلة من المحتويات “الجديدة” المماثلة التي تفشل في تغيير حقيقة أن النصر الذي يتوق إليه الجميع، كأفضل طريقة لعب تؤدي إلى النصر، يظل إرثاً حصرياً لما يستطيع اللاعب (ولا أحد غير اللاعب) تحقيقه بقدر ما “يبتكر” من الأفكار الثابتة التي يسمح بها إيقاع الكرة التي تُلعب بين اثنين وعشرين… كائناً بشرياً تحت إمرة حكمٍ جزافيّ للغاية من اللامتوقع.

في ظل هذا الواقع غير المتغير لكرة القدم في أي عصر وأي جيل، قام الرجال “الأكثر معرفة بكرة القدم” بتغيير أوصافهم كذلك. ولكن، لسوء الحظ، كلما تغيروا، أصبح عدد الرجال الذين يبدو أنهم “يعرفون كرة القدم أكثر من غيرهم” أقل انجذاباً نحو كرة القدم.

في البداية، تحت أسماء أكثر ملاءمة للتواضع والحياء، وهن من سمات الموهبة، كان أولو المعرفة الواسعة في كرة القدم قادرين على القيام بالعمل.

لقد انجذبوا بطريقة ما. في وقت لاحق، تحت مسميات أكثر تمشياً مع مأسسة استعراض، عوضاً عن تصميم العمل لرياضة احترافية، هؤلاء الرجال أنفسهم استبدلوا بصخب أوصاف رنانة ومصطنعة ارتبطت بقومٍ جريئين أكثر من كونهم موهوبين، تولوا مناصب تعليمية لا وجود لها تحت غطاء اسم “مدراء فنيين”، عرفوا في كرة القدم كأدوات لأتمتة لا مسبوقة للعفوية، ساعيةً اليوم اقناعنا بأنها تصنع ما يسمى بـ”كرة القدم الحديثة”. دائماً “قديمة”. دائماً كرة القدم، الكرة الوحيدة، سواءً جيدة أو رديئة. تلك التي للاعبين.

بدأت تلك العملية بـ “الكبتن”.

اُتبعت بـ”الرفيق”.

ثم بـ”المفوض” (مدرب مخصص).

وأحياناً بـ “المدير”، يوم كان هذا النشاط رمزاً للأبوة الإدارية والإنسانية.

حتى ذلك الحين، كانت عملية “أولئك الذين يعرفون كرة القدم” مفيدة بقدرٍ محدود بحيث يؤثر فيه “الذين يعرفون” على الذين يعرفون كيفية اللعب، وأحياناً لا يعرفون سبب معرفتهم كيفية اللعب، أو بأفضل الأحوال يمكنهم فقط شرح ذلك بقولهم أن “هذا ما يشعرون به” (حيال كرة القدم).

بدأت العملية التالية متنكرة بزي الحاجة إلى “تكييف كرة القدم مع تقدم الإنسانية الحديثة”. تمر هذه العملية اليوم بالحاجة إلى الاستمرار في التستر جدلياً على غطاء الجدية لاستعراض دولي بسيط من العبثية، والذي يتظاهر بأنه يتغذى على البراءة. خصوصاً من مستهلكي “الخطط” و “التكتيكات” و “الاستراتيجيات” التي تكثر بين العديد ممن لم يلعبوا كرة القدم رسمياً، والذين يميلون إلى الاعتراف بإمكانية تنظيم العفوية. كل هذا، مدعوم ببشارات صحفية عبر نفرٍ من الجمنازيين المثقفين المسؤولين عن “التنظير” في كرة القدم، هو الذي بلور “تحفة الذهان التكنولوجي” الحالية:

1. المدرب

2. المدير الفني

3. معد بدني

4. عالم الحركة

5. مستشار فني للمدير الفني

6. جاسوس على الخصوم

7. مدير عام لكرة القدم

8. ياور المعسكر (للمدير العام في الشرفة)

9. طبيب

10. طبيب الرضوض

11. أخصائي تغذية

12. أخصائي أنف وأذن وحنجرة

13. باديكير، “عناية بالأقدام”

14. الأخصائيون الاجتماعيون (من أقارب اللاعبين)

15. الأطباء النفسيين – المحللين النفسيين

16. حامل المعدات

17. مستشار روحي (كهنة)

18. مدرسو اللغة

19. طبيب رياضي (درجة جامعية غير معروفة)

20. رجل الاتصال (بين المدراء واللاعبين)

21. مدير

22- أخصائي الأرصاد الجوية (لتوقع التغيرات في حالة الأرض ودرجات الحرارة)

الكثير، الكثير ممن يلعبون من الخارج والذين يفوق عددهم من يلعب داخل الملعب.

في شغف الظهور، لا يهم كثيراً ألا تكون كذلك.

والأمر هكذا، مع تزايد الشكوك حول من “يعرف” كرة القدم التي لا يستطيع أحد تعليمها، كلما ازداد “الخريجون” الذين يُفترض أن لديهم القدرة على تعليم كرة القدم التي لا يمكن تعليمها. إذ يمنع ذلك الطبيعة العفوية للعبة، والطبيعة الإنسانية المتغيرة للإنسان… وغدر كرة واحدة مُعدّة ليلعب بها اثنان وعشرون شخصاً.

الملفت للنظر أن غالبية الحاصلين على الدبلومات هم لاعبو كرة قدم سابقين، “لاعبون كبار” كما يتضح، أُعلن عن مهمتهم التربوية والإدارية من الناحية الفنية على أنها تهدف إلى اتباع المبادئ التوجيهية المنعوتة بـ”الحديثة” في كرة القدم. ولكن ها هنا ما هو أعسر على الاستيعاب، هو أن ما يستحيل تعليمه يُدرّس بطريقة عصرية: فقد تعلم المسؤولون عن تعليم كيفية اللعب، تعلموا ما يزعمون معرفته عن كرة القدم بينما تُلعب كرة القدم التي تسمى الآن “قديمة” بل وعلاوةً على ذلك، يُقال بأنها “لم تعد تُلعب”! أو متى لعب هؤلاء المدربون الحديثون كرة القدم؟ لعبوا في الوقت الذي يدعى بـ “العصر القديم”! وهل يمكنهم تعليم كيفية اللعب على عكس ما تعلموه في تلك الحقبة؟ يستطيعون. نعم، شفوياً. دعائياً. في هذه الحالة نواجه باطلاً مزدوجاً: أولاً، أن يعلموا من هرب من التعليم. ثانياً، أن يعلّموا ما يدعى بالطريقة الجديدة للعب كرة القدم، والتي لم يكن بمقدورهم أن يتدربوا عليها سابقاً لينشروها لاحقاً.

كل ذلك من أجل تحويل لعبة إلى شيء جديّ.

خلاصة القول: نسبياً، جميع من لعب منا (سواءً جيداً أو سيئاً)، وعاش اللعبة بشغف وشاهد كرة القدم لبضع سنوات… في وضع يسمح -بصورة أفضل أو أقل- من معرفة ما الذي يمكن فعله، ولكن كشهود على أمر واقع. كشهود أو كمؤرخين مخلصين أو أقل إخلاصاً. وليس كقدرة إلهية. لا يمكن لأحد، بعلمه بما يمكن القيام به… أن يقوم بما يجب فعله بحيث أن كل من يعرف… يستطيع فعل ما يعرف (اللاعب، الذي يُمنع عادةً من فعل ما يعرفه؛ يكون مدفوع غالباً بـ”ما ينساب منه”، دون معرفة، أو بدون تفكير).

الانتصارات والهزائم، الأداء الجيد أو الرديء، أبداً لها محدد واحد فقط: اللاعب. لا أحد يخسر باللعب الجيد. ثمة حالات – كثيرة – تخسر فيها على الرغم من أنك لعبت جيداً. لن تفوز بالاستغناء عن شعار اللعب الجيد. هناك حالات – قليلة – تفوز فيها باللعب السيء… كرة القدم منطقية. وهذا المنطق دائم. وبالطبع: يحدث أن تفوز رغم اللعب السيء للغاية، هذا لأن الخصم لعب بشكل أسوء. أو لأنه لا أحد يلعب، والمصادفة هي التي تحدد مسار المباراة أكثر من القدرات البشرية. لكن من لا يلعب لا يمكنه -مهما يكن-… تحديد مسار المباراة.

والأكثر من ذلك: هناك حالات لا حصر لها في المباراة بحيث نكتشف أن اللعبة الجيدة هي لعبة سيئة؛ وبنفس المقياس، فإن اللعبة السيئة… اتضح أنها جيدة. الشيء الوحيد الذي يمكن التنبؤ به نسبياً في كرة القدم هو الجزء الساكن منها: كالركلة الثابتة، إذ تظل الكرة ثابتة والمبادرة طوع أمرنا تماماً. ولكن بمجرد أن توضع الكرة في اللعب… يمكنك التفكير والتدبير بأشياء جمة. تستبدل معظمها بأخرى لم نكن نتوقعها.

اللعب والجدية

[…] جرى تخطي بعض الأجزاء (المترجم).

في غضون ذلك، ولكيلا أترك توغلي غير مكتمل “ضد” مثقفي العالم الذين يعتبرون الرياضة “لعبة” (كما لو أن الأطفال وحدهم فقط يمكنهم “اللعب”)، يجب أن أعترف بأن أفضل شيء قرأته عن كرة القدم حتى اللحظة… كانت دوماً بعض كتب علم الاجتماع والفلسفة…

وهذه ليست سخرية. أقول هذا بجدية بالغة. بالطبع: من بين ما يسمى كتب “كرة القدم”، فإن أكبر عدو لصبري حينما أرغب قراءتها هو أن الغالبية العظمى منها تحاول أن تكون (بعضها في الخفاء والبعض الآخر بشكل فاضح) شيئاً من قبيل دليل إرشادي كي لا تخسر مباراة كرة قدم أبداً.

أعتقد أن كرة القدم تدور حول اللاعبين، ولا يمكنني التعامل مع الكتيبات حتى لا أخسر.

لقد قلت أن كرة القدم هي علم خفي لما هو غير متوقع.

سأقدم أسباباً كي أفاقم الاتهامات وأضيف: كرة القدم هي أجمل لعبة ابتكرها الإنسان، وبوصفها مفهوماً للعب، فهي أفضل مقدمة للإنسان في الدرس البشري للحياة التعاونية.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: