هومو أتليتيكوس.. الحالة غارينشا (جـ1)

استهلك الإنسان الطاقة في غابر الأزمان في الجمع والالتقاط، في ملاحقة فرائسه والهرب من مفترسه ليستمر في الأرض، كانت الحركة والنشاط فرضاً لا خياراً، وعليه تكيف بنو البشر بل وانطوى على ذلك تغيرات مورفولوجية وتشريحية وفيزيولوجية مع مرور الوقت إثر الانخراط بمهام متنوعة في بيئات مختلفة. انحصرت الرياضة في البدء على التمرن على الصيد، على التدريب العسكري، لاحقاً ومع التفرغ النسبي تطورت الألعاب والمنافسات كنوع من الترفيه مروراً بالمسابقات المنظمة كالأولمبياد عند الإغريق وصولاً إلى ما نراه في يومنا هذا. أقدم الأدلة على رياضة الجري -كأول رياضة- توجد في رسومات كهف لاسكو في فرنسا، حيث صورت الإنسان يركض ملاحِقاً وملاحَقاً قبل ما يزيد على 15 ألف عاماً، أبرزت الرسومات كذلك رياضة المصارعة. وفي مصر يُظهر الفن الصخري في كهف السباحين رياضتي السباحة والرماية قبل 10000 عام. أدلة أركيولوجية وأدبية من هنا ومن هناك تشير إلى رياضات مشابهة ومختلفة لسنا بصددها.

أقدم استخدام للكرة اكتشف في مقبرة طرخان في مصر، كرة مصنوعة من خرق الكتان يعود تاريخها إلى 2500 ق.م. في حين تعد لعبة تسو جو والتي كانت تمريناً عسكرياً هي أقدم أشكال كرة القدم، ألعاب كرة مختلفة مارسها البشر في أصقاع الأرض كأولاماليزتلي التي اكتشفت في حضارة الأولمك ولاحقاً لدى الأزتيك والمايا في وسط أمريكا والتي تنطوي على حمولات دينية وميثولوجية. لعب الإغريق الكرة أيضاً، عرفت اللعبة باسم إيبيسكيروس، وفي القرون الوسطى لعب البريطانيون شكلاً من أشكال كرة القدم وصفت بالغوغائية في القرن التاسع، في القرن الثاني عشر لعب الفرنسيون الكرة مستخدمين أيديهم وأرجلهم بل والعصي إن أمكن كما ولم تخلو من العنف، ظهرت الكالتشيو فيورنتينيو في إيطاليا في القرن الخامس عشر كنسخة مطورة عن لعبة آرباستوم التي أخذها الرومان عن لعبة إيبيسكيروس.

ولو كانت ممارسة تلك الألعاب ضيقة النطاق، فمشاهدو الرياضة فاقوا الممارسين عددا حالياً، ذلك أن الإنسان كان يضرب في الأرض إلى الماضي القريب، فلا وسائل نقل ولا عمل في المكاتب. إن احتفاظ الإنسان بنشاطه مع نمط الحياة الحديث لا زال أمراً حاسماً لتفادي الأمراض بالمقارنة ببقية الرئيسيات التي لا يضرها الكسل. وعلى ذكر الرئيسيات، يمتلك الإنسان جهازاً عضلياً هيكلياً فريداً يميزه ليس وحسب عن الثدييات بل والرئيسيات كذلك، تلك العوامل جعلته قادراً على القيام بحركات وأفعال بالغة التعقيد وبأدنى كلفة أيضية. لعل ما يميز الإنسان انحناء عموده الفقري بشكل S، منكبين عريضين، وركيه المُقرِبين، حوض سميك عريض وقصير، طول أطرافه السفلية، وركبتيه الأروح (إلى الداخل)، أوتار تشبه النوابض كوتر العرقوب الذي يربط الكعب بالعضلات الأخمصية، ناهيك عن عوامل ميكانيكية كضيق خطواته عرضياً، عوامل تمكن الإنسان من المشي منتصباً محتفظاً بتوازنه وثباته علاوة على الاقتصاد في استهلاك الطاقة أثناء المشي. ارتباط هذه العوامل -أي التوازن والاقتصاد الطاقوي- لا زالت محل تقصي بيولوجياً. [1].

لا يقف تطور نشاط الإنسان عند المشي، أو تفرغ اليدين التام نسبياً واستخدامهما للرمي؛ بل طارد نوعنا فريسته حتى تُنهك وفقاً لدينيس برامبل ودانييل ليبرمان [2]، ففي بحثهم المنشور في nature أفصحوا عن مزايا معتبرة في الهيكل العظمي للإنسان المنتصب والتي يبدو أنها تعكس القدرة على التحمل. قد لا يكون الإنسان أسرع أو أقوى الكائنات بيد أنه من بين الأكثر قدرة على التحمل؛ أي استطالة مدة الجري، يرجع ذلك إلى قدرة عضلات ساق الإنسان على مقاومة الإرهاق بفضل الألياف العضلية بطيئة الانقباض slow-twitch إضافةً إلى عدد خلايا الدم الحمراء المسؤولة عن نقل الأكسجين إلى العضلات. مزايا بيوميكيانيكية كقدرة أوتار وعضلات الساق والقدم على تخزين الطاقة وإطلاقها مع كل خطوة، زد على ذلك بعض الخصال الاستتبابية الغير عضلية-هيكلية كتبديد الحرارة عبر التعرق وقلة شعر الجسم والتنفس الفموي أثناء النشاط الشاق عدا عن نظام التبريد في الدماغ.

يتطور ويتشكل الجسد حسب استخدامنا له، فالعظم كائن حي مرن يبدأ بالتكون في مرحلة التعظم لدى الجنين حينما يبدأ بالحركة داخل الرحم ويستمر بالتغير مع نشاطاتنا اليومية الاعتيادية. والحال سيكون أفضل للرياضيين، إذ يتميز عدائي السرعة مثلاً بكثافة عظام أفضل إلى جانب قوة عظمة الساق، وهكذا تختلف البنية الجسمانية باختلاف الرياضة كقوة الجزء العلوي لدى السباحين، وهذا يعني تكيف العظام بحسب إعمالنا لها. هذا التغير يُعرف بالتغير داخل الفرد intraindividual ؛ أي تغير الفرد مع مرور الوقت من حيث النمط الظاهري لأسباب بيئية وإيبيجينية زد على ذلك نمط الحياة، التغير الفردي أو السمات المكتسبة لا تنتقل للجيل التالي جينياً ولا يحدث ما يعرف بالتطور الصغروي، (ولو أن تكيفية النمط الظاهري وراثية). لنضرب بماعز سليبرز مثلا، ولد هذا الماعز بتشوه خلقي تمثل بافتقاده الأطراف الأمامية في ثلاثينيات القرن الماضي، أبقى طبيب هولندي يدعى إفرهارد سليبرز هذا الماعز ورعاه، استطاع هذا الماعز ابتكار أسلوبه الخاص في الحركة فبدا كالكنغر، وعندما شُرّح الماعز تبين أن عظامه وعضلاته العاملة قد تطورت لتلائم أسلوبه الحركي بل وامتلكت أربطة لا توجد لدى الماعز في الأصل. هذه القدرة التكيفية طوق نجاة، النوع أو الفرد كي ينجو يلزمه التكيف والتأقلم… وهكذا فعل غارينشا.

كسر مانيه غارينشا العديد من القواعد، فما لا يعلمه كثر أن غارينشا ولد بإعاقات وتشوهات للحد الذي جعل أحد الأطباء يصفه بالمعاق فعلاً ناصحاً إياه بالابتعاد عن كرة القدم. ولد غارينشا بجسم لا متناظر وشذوذات عدة، فقدمه اليسرى كانت أطول من اليمنى بستة سنتيمترات كاملة، ركبته اليسرى فحجاء وركبته اليمنى روحاء، عمود فقري مشوه، حوض غير متوازن وحول طفيف.

بوصف جوكا كفوري حالة غارينشا مستحيلة.

لم تمنع كل تلك العيوب الخلقية أن يجعل من نفسه بهجة الجماهير -Alegria do povo- “أوليه” تهتف الجماهير بعد كل مراوغة، يتلقف الكرة من على الخط يمين الملعب لا يبحث عن المرمى بل عن الأجساد، يتمايل هو بتوازن ويتمايل الآخرون مختلون رغم كمال خلقتهم. لقبته شقيقته بطائر النمنمة وليس أدق من ذلك، كان مختلفاً برشاقته بالمقارنة بمن كانوا يلعبون آنئذٍ، ربما لأن لاعب الكرة يجب ألا يكون متناسق الهيئة والخطى كي يتجاوز خصومه، يقف على قدم ويخفض وسطه بحيث يكون جسده طيعاً حين يومئ بجهة ويذهب للجهة الأخرى فتتحرك هياكل متباعدة ومختلفة بصورة بالغة التعقيد في أبلغ صور التوافق العصبي العضلي، كان جسد غارينشا الغير مثالي مثالياً لكرة القدم. يذكرني هذا بما قاله بانزيري في كتابه (كرة القدم ديناميات اللامتوقع): “بجعبة الكثير منا أفضل الأفكار عن كيفية لعب كرة القدم. بيد أن القليل منا ممن ينسق هذه الأفكار وبقدرة على جعل الكرة أداة سهلة الانقياد بين أقدامنا، وردود أفعالنا الانعكاسية على كل كتلة العضلات التي يجب أن تحرس الكرة وتحميها عبر الجري السيء على المستوى الرياضي من أجل الركض بشكل جيد على مستوى كرة القدم…”.

“في تاريخ كرة القدم بأكمله، لم يسعد أحد الناس كما فعل. عندما كان يلعب، يغدو الملعب حلبة سيرك؛ الكرة، حيوان مدرب. المباراة، دعوة للاحتفال. لم يدع غارينشا أي شخص يأخذ منه الكرة. صبي يدافع عن تعويذته -الكرة- قام هو والكرة بمقالب قتلت الناس من الضحك: قفز عليها، قفزت عليه، اختبأت، هربت، طردته، طاردته. اصطدم الخصوم ببعضهم البعض وتشابكت أرجلهم، وخروا على الأرض.” _إدواردو غاليانو

تجرع المدافع الدولي نيلتون سانتوس كرة بين قدميه في تجربة لغارينشا في بوتافوغو، ليكون الوسيط -رغم ذلك- في تسجيل اللاعب ذا التسعة عشر عاماً في صفوف بوتافوغو بعد جدار الرفض لعلة اعتلالاته الجسدية. لم يكن أقل شأناً من بيليه بالنسبة لمن عاصروه، بيليه نفسه عده الأفضل على الإطلاق. مدافع ويلز ميل هوبكنز (في الصورة ضد غارينشا) اعتبر الجناح الأيمن أكثر خطورة من بيليه، واصفاً إياه بالظاهرة القادر على السحر المطلق، مضيفاً “كان من الصعب التنبؤ بسلوكه بسبب رجليه وبسبب إجادته بالقدم اليسرى كما اليمنى، لذا كان قادراً على القطع إلى الداخل أو الذهاب إلى الخارج”. بالنسبة لنيمار فمن “الجيد أن تُقارن بأفضل لاعب [بيليه]. لكن والدي أخبرني عن أسلوب جارينشا وهو يتقدم للأمام ويصعد ويهاجم ويراوغ”. ولو بدا ما سبق من مبتذل الكلام إلا أن الشواهد عديدة لنجومية المولود في 1933؛ فقد كان نجم نهائي 58 وحمل منتخب 62 على أكتافه بدون بيليه الهداف، منتج لكن ليس براغماتي كالأخير، غارينشا تميز بروح اللعوب، مراوغاته وانطلاقاته ألهمت لدور الجناح البعيد الذي يهاجم المدافعين قطرياً بلا تردد. بحسب غوارديولا فقد “فرض كرويف فلسفة جديدة داخل برشلونة، مفهومٌ جديد، في طريقه إلى الانقراض بعد وفاة غارينشا. أراد يوهان منا أن نلعب بهذه الطريقة، بطرفي ملعب متطرفين، طبق [كرويف] تلك النظرية تحت كل الظروف”. وإن كان -للمفارقة- مستثنىً من أي قيود تكتيكية هو نفسه مع جواو سالدانيا مثلاً، في حين يراه زيزي موريرا لاعباً بلا نمط غير قادر على كبح جماح رغبته في المراوغة المجدية والغير مجدية، توستاو بدوره يتذكر بوتافوغو بخطة 4-2-3-غارينشا.

أسمِهِ انحيازاً للناجين، لو تغافلنا عن القدرة التكيفية الهائلة للإنسان، فكرة القدم لا تعترف بالمعيار ولا النموذج المثالي جسدياً أو حتى عقلياً، القصير والطويل، الجسيم أو النحيل، انظروا للألعاب للبارالمبية وكيف يلعب فاقد اليدين التنس أو ينافس آخر في السباحة. إنما هو فن الممكن، affordance بحسب جيمس جيبسون والذي سأترجمه بالمُتاحية؛ أي التفاعل بين الفاعل والبيئة، وكل الأفعال الممكنة في البيئة وقدرة الفاعل على التعرف عليها. هناك إعاقة ما أو قصور ما، كأن تكون بطيئاً أو قصيراً، ستبدأ بتكييف ما أنت قادر عليه بالوسائل المتاحة، مثلما يستخدم الطفل جسده وحواسه لاكتشاف الأشياء. المتاحية، لنقل: ما يتيحه جسدك أو مهاراتك بمقابل ما يمكن القيام به في شيء ما.

يتحدى رون أموندسون التقسيم الثنائي بين الطبيعي واللاطبيعي، منهياً مقاله بالنقاط الثلاث التالية: 1) ثمة اختلافات وظيفية في أي نوع طبيعي. 2) النمطية لا تعني الأداء الجيد. 3) غالباً ما يؤدي التشريح اللانمطي جيداً جداً. فذا الإعاقة سيستخدم أساليب أيضاً غير اعتيادية، يسمى هذا بالإئتلاف accommodation. “يمكن لأي شخص غير نمطي أن يؤدي أفضل ما لديه من خلال استخدام أنماط وظيفية شاذة”. من سيقنع ديناصورات التعليم الحركي؟ إذا قدِر من فقد طرفيه على اكتشاف طريقته في الأداء فكيف بمن هو صحيح البدن بكل مُقدّراته؟ هناك الآلاف من الطرق لتنفيذ تمريرة أو تسديدة أو مراوغة…الخ. اللعب تعبير ذاتي، لا يمكن توريثه أو نسخه من الآخرين، ولو أن البعض لديه استعدادات وراثية وبيئية تساهم في تفوقه. في كتابي الأخير ذكرت أن الإنسان لم يعتد استخدام قدميه بالطريقة التي يستخدمها حين يلعب الكرة لانطوائها على توافق عصبي (عين) وعضلي، بحسب فيتور فرادي هذا التوافق بين العين والقدم ليس وراثياً، و”الخصائص التي تنطوي عليها كرة القدم من حيث الأنسنة مضادة للطبيعة! لأن علاقة العين بالقدم التي تطلبها كرة القدم لا علاقة لها بما سُجل (وراثياً) فيما يتعلق بتحرير الأطراف السفلية، لأنها انبثقت عن الحركة والدعم”. ولكن الوراثة اللاجينية -أو علم التخلق- epigenetics لها كلمة بهذا الخصوص، فهذا الفرع العلمي يشير إلى الطريقة التي تتفاعل بها الجينات مع البيئة، بحيث تؤثر البيئة -سلباً أو إيجاباً- على نشاط الجين غير أنها لا تُحدِث تغيراً فيه. بصيغة أخرى، يمكن اعتبار الحمض النووي حروف ثابتة والتغيرات اللاجينية كعلامات التشكيل. وعليه فالإنسان لا يرث موهبة كرة القدم بل يكتسبها لا جينياً مع الممارسة؛ يزعم دوارتي أراوجو أن “علم الوراثة في حد ذاته ليس حتمياً. هناك فكرة خاطئة عن علم الوراثة أين يكون كل شيء مبرمج مسبقاً. تُظهر الدراسات الجينية أن كل الخلايا تبقى نفسها في البداية، وثمة ظروف محلية تجعلها تسير في اتجاهٍ أو آخر. لهذا يتزايد الحديث عن علم التخلق، ذلك أن النمو مستمر (للموهبة)”.

مسألة التكنيك

“خوليت يعد دليلاً على مدى فداحة خطأ منح الأولوية للتكنيك الفردي إذا لم يُعلم من خلال اللعب والاستحواذ على الكرة والتحرك الصحيح. واجه خوليت بعض الصعوبات في التدريبات الفنية الفردية، لكنه كان جيداً جداً في التكنيك المتصل باللعب وكان يجيد قراءة كرة القدم جيداً.” –أريغو ساكّي

في أطروحته عن كرة الشوارع يشدد هيلدر فونسيكا على أن “ما يعتبر أحياناً خطئاً في التكنيك قد لا يكون خطئاً فعلاً، لأنها لم تأثر على الأداء وهي بالأحرى تعبير شخصي للمهارة المستخدمة”. ثم يكمل “لا يجب على اللاعب أن ينفذ مهارة فنية طبقاً للمعاير البيوميكانيكية، وإنما وفقاً لما تقتضيه الحاجة في تلك اللحظة”. ليس ثمة “تكنيك مثالي” في كرة القدم لأن كل وضعية تختلف عن الأخرى، كل موقف لم يحدث قط قبلاً. ولكن ولفترة طويلة عُدّ التكنيك عنصراً محورياً في تعليم كرة القدم، ما أدى إلى هوس في عملية التعليم “بشكل تحليلي” بافتراض فعاليته تطبيقياً في المباراة، يرى جوليو غارغانتا. عوضاً عن اصطفاف اللاعبين لتنفيذ تمريرة بوجه القدم أو بطن القدم أو أياً يكن، ينبغي تعريض اللاعبين لتعليم تشعبي، نطاق أوسع من المتغيرات التي ترغمهم إيجاد حلول مختلفة، ضمن ما هو متاح، تمريرة بين لاعبيْن أو ركن الكرة في الزاوية البعيدة، عرضية عالية تتجاوز قلباً طويلاً وما شابه ولما لا رابونا أو حتى بالأصبع طالما أدى الغرض؟ ثم إن تكرار حركة معينة محددة التفاصيل “قد يؤدي إلى سرعة أكبر في توحيد الحركة، هذا ما يجعل التعلم يبدو أكثر كفاءة، إلا أن هذا التوحيد الحركي قد يؤدي أيضاً إلى فقدان نسبي للمرونة في الحركة” وفقاً لجو تاني؛ أي أن التكرار قد يؤدي إلى اكتساب حركة جامدة ونمطية ومنخفضة القدرة على التكيف. فتمكين اللاعب على تنفيذ حركة أو تكنيك ليس كافياً، إذ يجب أن نضع باعتبارنا أيضاً أن الإنسان كائن معقد بذاته، يرى نموذج “العملية التكيفية” للتعلم الحركي الخاص بتاني ما هو أبعد من التمكين فقط، فهو يرى التعليم كعملية مستمرة التكيف تنطوي على عدم الاستقرار ثم الاستقرار ثم عدم الاستقرار، أي عدم التمكن ثم التكمن وبعدئذٍ يضاف تعقيد وعشوائية مرغمة الرياضي على التكيف مع المهام الجديدة.

لا للمعارية، وليس في كرة القدم فقط، لعل هذه أهم عِبر هذا المقال. جسم الإنسان البالغ التعقيد بتنوعاته وبمزاياه ومطواعيته وحتى بعيوبه مكن الإنسان من تنويع نشاطاته عن سائر المخلوقات، منتفعاً منه منذ نشاطاته البدائية الضرورية لإنسان ما قبل التاريخ، استاطيقياً لدى الأخلاف، بل وانتهازياً حينما استشرت الطبقية. أرفض الفصل وأي شكل من أشكال الاختزال، لاعب الكرة لا يلعب بعقله فقط ولا يلعب بجسده فقط، الجسد في خدمة العقل والعقل يعوزه الجسد، لا وجود للأول بدون الثاني والعكس بالمثل. احتقار الجسد مسألة قديمة، في الديانات الشرقية وفي الفلسفات المثالية التي تعتبر الجسد مصدر شقاء، وهي بذلك تقر بالثنائية؛ أي انفصال الجسد عن العقل. يقابل ذلك عبثية المادية الجافة التي تعتبر الجسد محض آلة والعقل ما هو إلا عملية بيوكيميائية وظاهرة فيزيولوجية كالهضم والحركة، حتى العمليات الأخيرة ليست مجرد ناتج مجموع الأجزاء. فالتفكير والانفعال والشعور انبثاقات ليست داخلية وحسب بل ناشئة عن التفاعل مع الواقع الخارجي، العقل والجسد جوهر واحد بينهما تأثير متبادل، لكن ليس على درب لا ماتري أو كلود بيرنار، وإنما أميل نحو سبينوزا وميرلو بونتي والرومانسيين الألمان. تتردد على مسامعنا عبارة عقلي يريد ولكن جسدي لا يستطيع، أو قدمي وعقلي لا يتفقان كما يقول خوانما لـيّو، من هنا قد نستنتج أن الجسد أحياناً له أفضلية والأقدام لسن محض أدوات وإلا لانصرفنا للعب الشطرنج، هناك كرة وهناك جسد، ماذا يعني أن تلعب بعقلك؟ بالتحريك العقلي؟ أن تفعل/تجرب فتكتشف مستخدما تكنيكاً معيناً لغرضٍ معينٍ أو حركةٍ ما لغرضٍ ما بما هو متاح، يلعب المرء بجسده، بقدميه المتصلتان بدماغه الذي يفيض منه أفكار، بكُله اللامتجزئ.

1: https://www.nature.com/articles/s41598-020-64799-3

2: Endurance running and the evolution of Homo، Dennis M. Bramble & Daniel E. Lieberman

https://www.scientificamerican.com/article/humans-evolved-to-exercise/

* New evidence for ball games in Eurasia from ca. 3000-year-old Yanghai tombs in the Turfan depression of Northwest China

* https://www.sciencedaily.com/releases/2018/03/180312104014.htm

* https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/19332164/

* https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/31957878/

https://hilo.hawaii.edu/~ronald/SDS-Amundson.htm

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: