
“المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.
والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها، وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلبٌ طبيعي، إنما هو لكمال الغالب.”
ابن خلدون
في التفاعل مع الغالب أو الثقافة المنتصرة مواقف متباينة؛ من يرفض رفضاً تاماً، من يقلد تقليداً أعمى، ومن يأخذ بعضاً ويرد بعضاً بشيء من الوصاية الفكرية، وموقف عقلاني نقدي يأخذ ويرد ويتعايش مع الاختلافات لا يشيطنها، من وجه، ولا يحتقر ثقافة أمته أو ثقافة الأمم الأخرى، من وجه آخر. ولتعلم أن الثقافات بمكوناتها منذ بدء الخليقة تفاعلت وتزاوجت لتشكل بعضها بعضاً وتؤثر وتتأثر، ولتعلم أن الغازي تبنى ثقافة المنكوب وربما استولى واستحوذ على ثقافته، والمستعمَر استعار من مستعمِره، والأقليات تتثاقف مع الأكثريات والعكس كذلك، وهكذا تتقاطع العلاقات بين الأمم والشعوب في حرب أو رخاء، ولتعلم أن العادة أو المسلك بدأ فردياً فتبنتها المجتمعات وتوطدت في الممارسات واستقرت كمسلمات، فتسبق الثقافة السائدة عقل الفرد ليعود يلقنها ويعيد تدويرها.
نستطيع رصد ما يعرف بالتنافر المعرفي في مظاهر جلية، فنجد بعضنا منعجب بالآخر في حالة نفسية معينة ومحتقر له في حالات أخرى، ينتقد مظاهر معينة من ثقافته حيناً ويحتقرها ذاتها حيناً؛ في كرة القدم على سبيل المثال ستجد الألماني يتغنى بالعقلية الصلبة والثبات والقوة البدنية والحدة وسرعة المرتدات، وما إن يخسر تجده قد يحط من قدر تلك الخصال ويشتكي من قلة المراوغين واللاعبين البارعين فنياً. هذا ليس مثالاً افتراضياً، فقد دار هذا الجدل في ألمانيا فعلاً مطلع الألفية، فتبدأ ألمانيا رحلة التنقيب عن المراوغين، غير أنها لم تجد هذه الخصلة في الألمان الأصيلين إلا في نفرٍ لا أستطيع تذكر منهم إلا غوتزه، قد تجد مراوغين في كل مكان لا شك، لكن للثقافة ولطبيعة الشعوب أحكام، إذ هي عامل مؤثر في انتهاج اللعبة وشروط اصطفاء اللاعب تقوم على خصائص معينة، وإذا كان التلاعب بالكرة والازدهاء بالمهارات خصلة غير محببة، فشيئاً فشيئاً قد تبدأ في التلاشي ويبدأ اللاعبون باثبات أنفسهم بالخصال المستحبة وهي منتوج الثقافة، فتسود الفعالية البراغماتية: راوغ بالتجاوز، مرر، لا تقف على الكرة ولا تفكر، إلعب السهل…الخ. شروط الانتقاء الغير طبيعي هذه تساهم في التأثير على المستوى العام وتكبح ظهور خصال معينة فتنقرض روح اللعوب لدى اللاعبين رغم كمونها فيهم، وهي قدرة مذهلة في فك شفرات المباريات.
ألمانيا -وهي أمة عرفت بالكبرياء والاعتزاز بالذات- لم تتوقف عن استيراد الأفكار، فقد سُحر المدربون هناك كما سُحر غيرهم باللعب التمركزي، بالتزامن مع انتشار أفكار ساكي مع رانغنيك وكلوب، وهي أفكار سلبت الألباب في التسعينات في الواقع. نتائج ألمانيا كما رأينا غير متسقة بل ومتقهقرة، والمشاريع طال أمدها أو قصر لم تكن إجابات شافية بل ردود فعل وتطمينات مؤقتة. هنا ستجد مواقف مختلفة وجدل اليمين واليسار، على اليمين من يريد المانشافت الذي عرف بصولاته وجولاته، وعلى اليسار من يريد ألمانيا بلاعبين مهاريين كالبرازيليين، أو أن تلعب باللمسة والتيكي تاكا كإسبانيا، وربما اتجاه وسط لا يمانع استعارة عناصر من هنا أو هناك دون أن يصبحوا مسخاً. ربما تريد ألمانيا أن تصبح كالبرازيل، والبرازيل تريد أن تصبح كألمانيا. وإنجلترا مسرح عالمي كوزموبوليتاني لكل الأفكار ما عدا أفكار الإنجليزي أو البريطاني التي أضحت مثار تندّر، فاللعب السريع والصخب والمتعة الخاصة التي كانت عليها الكرة الإنجليزية لم تعد موجودة، استوردوا كل شيء واستبعدوا كل خصالهم الخاصة ليواكبوا الحداثة بدلاً من أن يطعموا كرتهم بنكهات من الآخرين وحسب.
هناك عولمة لطريقة اللعب، مجانسة للعب، إمبريالية تكتيكية غير مقصودة للتبشير بالأسلوب الفائز، هذا الأسلوب يغدو المعيار فإما أن نتوافق معها أو نكن من المتخلفين، فتصبح ثقافة مهيمنة يروج لها بعض أفراد تلك الثقافة الاستعراقيون أو زينوفيليون مبهورون، ينصاع لها الإعلام والجمهور وينعجب بها المدربون فتكون هي الحداثة، ثقافة الآخر هي الحداثة، فالألمان أتوا بأسلوب ساكي ورغم مضي سنوات عليها إلا أن المدرب المتيم بذلك الأسلوب كان ينعت الكرة الألمانية بالتخلف وتردي الحال، نتائج ألمانيا في الواقع كانت أفضل من إيطاليا في بداية الألفية ونهاية التسعينات، ولا نعلم حقاً ما معيار الحداثة، لمَ بحق الله يجب أن نتبع أحد دون مسوغات معرفية وفقط لأن الفرق تتشكل بشكل معين قابل للتمييز وتتسم بنزعات سلوكية معينة! فعلى رسلكم ليست التطورات تلك كالانتقال من ركوب البغال إلى عربات الخيول ولن أقول السيارات الحديثة، ذلك أن تطور الكرة تطور كمي ونوعي في نفس الأمور ولنفس النوع يشوبه تحسن في جوانب وتقهقر في جوانب. اللعب الجيد هكذا وكذا… ما عدا ذلك فوضى والمدرب فاشل ومتخلف لا يداعبني بأنماط كي أظللها بسهام أقدمها للذين لا يرون “التفاصيل الدقيقة” والذين لا يفهمون ما أفهم، يحبون اللعب الجيد لكن بشروطهم الموضوعية المطلقة، فتضيع نسبية الذوق ويكون لزاماً أن نتمذهب بمذهب، أنت لست بشاعر فلم تلتزم بالقافية والوزن، أنت لست موسيقياً فموسيقاك تخت شرقي مرتجل لا أوركسترا غربية منوتة، اللعب التمركزي أو التموضعي هو كرة القدم، فامتثل… تبدو كرة أنتشيلوتي كاستراتيجيات سون تزو تناطح كرة تكنولوجية بسلاح جو فتاك موهوم، تلك التي لا تفلح في الغابات والجبال عندما تغدو الحرب حرب عصابات، بأغلوطة التشابه الزائف يرون أن ما ينبطق على الجماد ينطبق على الحي، فلا تتطور الكرة هكذا.
لا ريب أن الثقافة الغربية متفوقة اليوم، تضع المعيار وتضبط المقياس، وبإمعان النظر -رغم ذلك- سنجد التفوق الفردي كان الأمر الحاسم، العبقرية والألمعية فردية، ولا شك يحسب للمجتمع وللبيئة الحاضنة بزوغ تلك العقول، ولا شك يحسب للمؤسسات تبني الأفذاذ والأخذ بأفكارهم، سنجد الأفذاذ في كل مكان حتى في البيئات التي تنفر مما يهز ثوابتها. لكننا نتبنى المؤسسات لا الأفكار، وننبهر بالمظهر لا الجوهر. لا تكمن مشكلة التغريب والتأورب في ما هو عالمي وكوني، كالاستفادة من التقنية والصناعة، أو تناول العلم والفلسفة بوصفها أنشطة إنسانية تسمو على العرق واللون، بل في الاستلاب، في التبعية، في احتقار الذات، في الرغبة الملحة للتماهي مع الآخر ونيل ثنائه، حتى أشد المتعصبين وألد الشوفينيين سيبحث عن الثناء عند الآخر، عندئذٍ لن نكون أذكياء بما يكفي لكي نعتمد على أنفسنا، فنبقى مستهلكين، إننا نعتقد أننا أفضل الأقوام ولكننا لا نمارس هذا واقعاً حينما نستخف بقدرات بعضنا وننطرب لزمار الجوار لا زمار حينا فزمار الحي لا يطرب، فكون اللاعب أجبني هي ميزة بحد ذاتها، والمدرب الأجنبي أفضل حتى ولو من دول لا تفوقنا أو ليست أفضل حالاً منا، ففي البرازيل من ينادي بمدرب أجنبي ليقود السيليساو، لا يريدون مدرباً جيداً ويناسب الثقافة بل مدرب أجنبي متطور يخرجهم من جحافل الجهل إلى محافل العقل، لنبقي دون وعينا الاستعمار وإن بقوة ناعمة.
لدي نظرة كونية-محلية تتمثل في أن كل أمة يقع عبأ مهمة النهوض بكرتها بنفسها، لا في تأجيرالعقول واستهلاك الأفكار وإنما بإعمال العقول وبتكييف الأفكار، بل وبالابتكار فلا ينقصنا شيء كي نقطع صلتنا -جزئياً- بالمنتج الغربي، فيكون لدينا فرادي وسيرولو لو وشولهورن خاص بنا وهم سبب نفسهم بنفسهم بالدرجة الأولى كأفراد خارج النسق بمؤيدين ومريدين نظروا إلى تلك الأفكار كحداثة، غير أن للكثيرين رغبة التهميش الذاتي ظنا منهم بتفوق العرق الآخر، وبكلمات إدوارد سعيد نسدل السدار لما أراه يطال ثقافة الترجمة الخانعة والتقليد البليد… ذلك أن “التكيف بين الطبقة المثقفة وبين الإمبريالية الجديدة يعد انتصاراً من انتصارات الاستشراق الخاصة.”
اترك تعليقًا